في الواقع يمكن معالجة الركود في الاقتصاد العربي والاسلامي من خلال الأدوات المالية الاسلامية وأهمها الزكاة وما يترتب عليها من تحقيق العدالة في توزيع الدخل وفي زيادة حجم الائتمان في النشاط الاقتصادي وزيادة القدرة على الاستثمار من خلال تخصيص سهم للغارمين والقيام بدراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع في ضوء تقرير الزكاة على المال الخاضع للزكاة وليس على الربح، إضافة إلى تحريم الربا والحث على الانفاق ومحاربة الاحتكار ومنع الرشوة وتحريم الاكتناز والمضاربة، وجميع هذه الأدوات تشكل آلية من شأنها علاج الخلل في هيكل التوزيع، وسنتناولها بشيء من التفصيل. الزكاة الزكاة هي الركن الثالث من أركان الاسلام، حيث فرضت بقوله تعالى:"خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم والله سميع عليم" التوبة 103، وقوله تعالى"والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم" المعارج 24، 25. وللزكاة أهمية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للفرد المسلم، وتعتبر مرتكزاً أساسياً من مرتكزات النظام الاقتصادي الاسلامي. وشكل مورد الزكاة مصدراً مهماً من موارد الدولة الاسلامية، ولم تكن تختلط أموالها بايرادات الدولة من المصادر الأخرى وترتبط حصيلتها ارتباطاً وثيقاً وطردياً بمستوى النشاط الاقتصادي، وهي أعدل اقتطاع مالي يمكن أن يكون في أي نظام مالي تستخدمه الحكومات حيث تتمثل جوانب تلك العدالة في ذات الزكاة أو في الآثار المترتبة عليها، إذ أنه يترتب من تطبيقها تحقيق عدالة في توزيع الدخول والثروات بين المجتمع، فهي أداة مالية مباشرة في تحقيق ذلك الهدف لأنها تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء، ما يرفع من دخول ومستوى معيشة هذه الفئة الأخيرة، ويحقق حياة كريمة لكل فرد من أفراد المجتمع الاسلامي، كما يترتب عليها تحقيق العدالة في توزيع التنمية بين أقاليم البلد الواحد. ويتضح من تشريع الزكاة ومن التطبيق السليم لها، ان الأصل هو عدم نقل حصيلة الزكاة من مكان المال الذي وجبت عليه، ويجب أن ترد على مستحق الأقاليم الذي أخذت منه الزكاة، ويجوز نقلها خارج الأقاليم في حالة زيادة حصيلتها عن حاجة ذلك الاقليم. وإذا كان الملاحظ أن الدول العربية والإسلامية كافة تشترك في عدم عدالة التوزيع حيث نلاحظ أن 20 في المئة من السكان يتحكمون في 80 في المئة من الدخل. ومن هنا يأتي الضرر الأكبر سواء من الناحية الأمنية أو الاقتصادية. فالصناع والمنتجون بحاجة لمن يشتري منهم، واذا استمر هذا الوضع المقلوب فإن النتيجة ستكون الكساد، فلا بد أن تضع الدول العربية والاسلامية في قائمة أولوياتها اصلاح هذا الوضع غير الطبيعي وذلك من خلال أساليب تحد من الاثراء السريع، وغير المشروع بطريقة علمية واسلامية كمنع الاحتكار ومحاربة الفساد والتدخل لاصلاح الأسعار والتأكد من استخدام تكنولوجيا توفر فرص عمل حتى يعاد توزيع الدخل، هذا فضلاً عن وضع حدود عليا لملكية الشركات المساهمة والمصارف. وللزكاة آثار ايجابية عدة أخرى منها زيادة القدرة على الاستثمار، فمن المعروف أن هذه القدرة تتوقف على حجم الادخار، وعلى مدى تعبئة الموارد الاقتصادية العاطلة نحو العملية الانتاجية. فبالنسبة لأثرها على الادخار فهي تزيد من حجم العمل من خلال ما خصص من حصيلتها الى المساكين والغارمين وابن السبيل ما يرفع من مستوى دخول الأفراد وبالتالي يرتفع مستوى الانفاق لديهم بنسبة الزكاة مضروبة بالمضاعف، اذ أن حصول هذه الفئات على حصة من الزكاة سيحميها من الخروج من العملية الانتاجية ويحافظ على قدرتها واستمرارها في الانفاق. أما بالنسبة إلى أثر الزكاة على تعبئة الموارد الاقتصادية فيأتي من خلال فرضها على الموارد الاقتصادية بما فيها تلك غير المستغلة في العملية الانتاجية مما يدفع بصاحبها الى تشغيلها في العملية الانتاجية أو بيعها للتخلص من تبعاتها في تحمل مبلغ الزكاة عليها، وهذا ما نبه اليه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحث على تشغيل أموال اليتامى في التجارة حتى لا تأكلها الزكاة. من جهة أخرى، فإن للزكاة دوراً ايجابياً في زيادة حجم الائتمان في النشاط الاقتصادي بما تتضمنه من تخصيص سهم للغارمين لأن الدائن سيضمن تحصيل مبلغ قرضه اذا عسر المدين عن السداد، ما يولد الثقة في مجال الأعمال التجارية، كما أن للزكاة دوراً في تقليل درجة المخاطرة في الاستثمارات المزمع اقامتها، إذ تأتي المخاطر من حدوث خسائر رأسمالية مفاجئة يتعرض لها المستثمرون الذين يعتبرون من الغارمين، ولهم سهم من حصيلة الزكاة يعوضهم في حالة وقوع مثل هذه الخسائر. ويتضح مما سبق أن هناك حقيقة مهمة أمام الحكومات الاسلامية المعاصرة وهي أن الزكاة أداة مالية مهمة تساهم مساهمة فعالة في تحقيق هدف تنمية المجتمع بطريقة فعالة، ولا يوجد أمام تلك الحكومات أي مبرر موضوعي لعدم اقامتها، فلا بد من توزيع الزكاة على المستحقين، أما بند الغارمين فيمكن لهيئة التأمين أن تضع ضوابط لتعويض الغارمين حتى لا تعطى الأموال للأغراض غير المبررة. والجدير بالذكر أن هناك ملاحظة أساسية وأولية في الزكاة، وهي اذا كان البعض يشير الى أنها ضريبة تنازلية، لأن أثر الزكاة ليس مقصوراً على التأثير المباشر لخفض دخول الأغنياء، بل ان لها فوائد أخرى، مثلاً في حالة تحقيق ربح، ولنفترض 40 في المئة مثلاً، تنخفض الضريبة تجاوزاً الى أدنى حد مع أن هذا الفرض غير صحيح، فنادراً ما يتجاوز الربح 15 في المئة في الغالب، والنادر لا حكم له، ومن جانب آخر لو حدث وارتفع معدل الأرباح في استثمار معين فمعنى ذلك أن هناك طلباً كبيراً على منتجات هذا الاستثمار، أي أن هناك حاجات يشبعها هذا الاستثمار ولم تلتفت اليها بقية المستثمرين، وكأن هذا المستثمر قام بفرض كفاية لم يعاونه فيه غيره فاستحق هذا الامتياز لفترة معينة، فإذا كانت السوق حرة لن يلبث أن ينتبه الآخرون الى هذا الكسب ويتجهون اليه ويزاحمونه فيتوزع الطلب على عدد أكبر، ما يدفع بمعدل هذا الربح الى الانخفاض الى المستوى المقبول والمعقول مرة أخرى. فخفض الزكاة دافع لذوي الابتكارات والجرأة للقيام بالمخاطرة وللأغنياء لاثراء المجتمع، إضافة الى دفع حق الفقراء. هذا وقد أسلمنا بصحة الفرض فان الزكاة في ظل الاستثمارلا تحسب على الأرباح فقط، وذلك لعدة أسباب. فالحالة الوحيدة التي يكون فيها المال محتفظاً بصورته السائلة هي النقد في المصارف أو شبه السائل مثل الأوراق المالية من سندات وأسهم. أما الزراعة والصناعة فيكون جزء كبير من رأس المال قد تحول فيها الى وسائل انتاج وبالتالي يصعب تغيير خصائصها أو تسييلها، ومن المعروف أن هذه العناصر لا زكاة عليها وانما على نتاجها قياساً على آلة النجار والحداد، ولكل تكوين رأس مالي طريقة حساب خاصة، كذلك العقار والعمائر وغيرهما، فان الزكاة تكون فيها على القيمة الايجارية وليس على الأصل حسب اجتهادات الفقهاء. تقرير الزكاة يلاحظ أن الزكاة تفرض على المال ونمائه وذلك بغض النظر عن تحقيق الربح أو عدمه، فلو خسر التاجر في سنة التحقق ولكن بقي عنده ما يزيد على نصاب الزكاة، فإن الزكاة لا تسقط عنه بسبب الخسارة، وان كانت الخسارة أكثر من الزكاة، والسبب في ذلك هو أن وعاء تحقق الزكاة هو المال الخاضع للزكاة وليس الربح الناتج عنه. وهذا المبدأ المراعى في الزكاة هو على عكس ما هو مطبق في ضريبة الدخل، إذ تُستفاد من ذلك الاستنتاجات التالية: أ - حسن اختيار المزكي للمشاريع لأن الزكاة ستدفع في جميع الأحوال ولذلك لا بد من اختيار المشاريع الناجحة والقادرة على تعويض ما يدفع من الزكاة، وإلا فإن اجتماع الخسارة مع الزكاة يقود الى سرعة فناء المال. ب - ان الآخذ للزكاة من المال وناتجه وليس من الربح يرفع مفهوم الأمانة والصدق في المجتمع، إذ لا يوجد مبرر للكذب في تقديم البيانات عن خسائر وهمية أو تلاعب في الحسابات لاخفاء الربح أو تقليله، فالموجودات ظاهرة في الموازنة ولا تحتاج الى عناء كبير في المحاسبة والتدقيق. ج - ان تحقق الزكاة وفرضها على أي حال يتطلب وجود المدير الناجح لأنه يحرص على تحقيق الربح الكافي للنماء، إذ أن فرض الزكاة سيدفعه الى البحث عن الطرق المناسبة لخفض تكاليف الانتاج، ما يؤدي الى خفض الأسعار وبالتالي يستفيد المجتمع بوجه عام. د - كما أن فرض الزكاة على كل نشاط يسهل أساليب جمع الزكاة والمحاسبة عليها مع جهات الاختصاص بدلاً من تعقيد الأمور في حالة تجميع الأنشطة على أساس الذمة الموحدة للشخص المكلف، وبذلك يصبح الجهد المبذول في التحصيل أقل مما لو كانت هناك محاسبة شاملة لمجموع النشاط. أما اذا تتبعنا أثر الزكاة في التنمية ومكافحة فائض الانتاج، فلو حسبت الزكاة حساباً فعلياً ونسبت - كما قلت - الى الأرباح لمثلت قدراً عظيماً في اجماليها على مستوى المجتمع، فلو كان اجمالي الأرباح أو القيمة المضافة 10 بلايين ريال فإن الزكاة ستكون مبلغاً لا يقل عن 4 آلاف مليون ريال لأن النتيجة الآن منسوبة الى الربح، وهذا المبلغ سيوجه للفقراء، ومن المعلوم أن عنصر الادخار لدى الفقراء ضئيل، وبالتالي فان هذا القدر من الزكاة أو 90 في المئة منه سيوجه الى الاستهلاك الرشيد الذي يقابل حاجتهم الأساسية، وليس الترفيه، فيشكل تياراً من الانفاق الاجتماعي يزيد على هذا الحجم أربع مرات بمعنى أن يصبح 16 بليون ريال أي أكثر من اجمالي صافي الأرباح في المجتمع ككل. كل هذا في شكل طلب فعال، فإذا زاد الطلب دفع ذلك العرض للتوازن معه فيزيد الطلب على الاستثمارات لانتاج هذه السلع المطلوبة كطلب مشتق، وهنا تكمن الفائدة العظمى للزكاة في مكافحة فائض القيمة، اذ أن الطلب على الاستثمار سيزيد من الطلب على عناصر الانتاج ومنها العمل. واذا زاد الطلب على العمل زادت الأجور ووصلنا الى مستوى التشغيل الكامل، فيزيد نصيب الأجور على حساب فائض القيمة. وهكذا اذا أمعنا النظر بدقة في المعاني الخاصة بتعريف الزكاة نجد أنها تعني النماء والطهر. الا يكون هذا هو المقصود بالنماء، وأن الزكاة سبب للتنمية، ألا يحق لنا اليوم بعد أن زادت مداركنا الاقتصادية أن نفهم أموراً كانت خافية على من كان قبلنا؟ وهل لا يفهم ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاة بعشرة دراهم كما قدر نصاب الزكاة بأربعين شاة، فتكون قيمة النصاب حينئذ 400 درهم، واذا حاولنا أن نحدد النصاب في يومنا الحاضر فإن قيمة الشاة الجيدة حوالي 500 ريال، وهذا يعني أن النصاب 20 ألف ريال يحول عليها الحول أي أن بداية الكفاية هي 20 ألف ريال وهو ما يكفي عائلة لمدة عام، أي ما يقارب ال1800 الى 2000 ريال شهرياً، ألا يستفاد من ذلك، لتحديد أن الحد الأدنى للأجور وهو أدنى حد للكفاية يكون 1800 ريال، فالاسلام يعتبر من لا يملك حد الكفاية وليس الكفاف فقيراً تجب عليه الزكاة. كذلك نجد أن نصاب الفضة هو 200 درهم وهو نصف قيمة نصاب المواشي، وذلك أن الاسلام يبغض اكتناز الأموال بل يحث على دفعها للانفاق والاستثمار، حتى لا يكون المال دولة بين الأغنياء، فخفف النصاب على الزراعة لأنها لا تؤخذ على الأصل والنماء، أي الثمرة، وأيضاً أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعفى عن الثلث أو الربع في حالة تقدير زكاة الزروع، ليس هذا وحسب بل استيفاء مصاريف الزراعة من ثمار وحبوب وغيرها ثم تؤخذ الزكاة بعد ذلك؟ أليس في هذا احترام وتشجيع للاستثمار الذي يقود الى التشغيل الكامل وزيادة الطلب على العمل لدفع الأجور الى الأعلى بطريقة اقتصادية عادلة، وليس عن طريق العداء بين الطبقات وهذا هو الحال أيضاً في الصناعة فأعفى آلة الانتاج من الزكاة وهي المصنع ذاته أيضاً للسبب نفسه. * كاتب سعودي.