حين علم يوسف ان نسبة المرشحين الى الانتخابات النيابية اللبنانية الى عدد المقاعد توازي اقل من اربعة مرشحين لكل مقعد، وانها نسبة مرشحة الى الانخفاض بسبب الانسحابات المنتظرة، قال ان ثمة خطأ بصرياً يدفع الى اعتقاد مغاير. فغابات الصور المنتشرة في كل انحاء لبنان، مشفوعة بذلك الضجيج الحاد والحملات الاعلامية المتبادلة والتحالفات الصاخبة والمفاجئة، توحي أن بين كل ثلاثة لبنانيين، مرشحاً الى الانتخابات. وربما شعر المراقب البعيد ان الاحتقانات المرافقة للحملات الانتخابية تخفي تنافساً حقيقياً على المقاعد، وان ثمة كتلاً ناخبة تتنافس لتصدر الحياة السياسية، او ان طوائف تعيد صياغة وجودها في التركيبة السياسية، في حين تؤكد الحقائق ما يعجز عن فهمه غير اللبنانيين الذين حفت بحياتهم تفاصيل يومية بلورت وقائع معيشة، لكنها عصية على الفهم في آن. فاللبنانيون يعلمون ان الانتخابات محسوبة النتائج بدقة. كيف لا، ووزير داخليتهم اكد في بيان اعلان لائحته ان نتائج انتخابات المتن الشمالي حيث سينافس لائحة اخرى، ستكون لمصلحته بفارق اكثر من عشرة آلاف صوت. فسر مراقبون تصاعد حدة الاتهامات المتبادلة بين المرشحين، واشراك الاجهزة الامنية في التناول وادخال الجيش دائرة الاتهام، بابتعاد السوريين عن تفاصيل تشكيل اللوائح واقتصار تدخلهم على صوغ الخطوط العامة للوائح حلفائهم المتنافسة. لكن ثمة وقائع كثيرة تأتي لتؤكد عدم ارجحية هذه الآراء، خصوصاً ان احلافاً غير منطقية في أكثر من دائرة لن يقتصر عرضها على الرغبة في نفي هذا الافتراض. فقد رفض "حزب الله" شكلاً التحالف مع النائب ايلي حبيقة في دائرة عاليه - بعبدا، نظراً الى ارتباط اسم الاخير بمجازر صبرا وشاتيلا. و"حزب الله" الذي اختبر اللبنانيون في كل محطة انتخابية، براغماتيته وقدرته على الانصياع والانقلاب على لغته، لا يمكنه ان يدخل حبيقة الى خطاب المقاومة التي تملي عليه كما يقول امينه العام كل يوم، حلفاءه وشعاراته الانتخابية، فكانت التسوية أن ابقي مقعد ماروني شاغر في لائحة عاليه - بعبدا. والمقعد الشاغر يعني هنا ان اللائحة لن تنافس على مقعد حبيقة، واصبح من المؤكد انها ستتعاون معه. اما رفيق حبيقة في "حزب الوعد" النائب جان غانم فدخل اللائحة التي يشترك فيها "حزب الله" رسمياً من دون ان يصيب وجدان المقاومة بخدش ولو صغيراً. وطبعاً يعلم اللبنانيون ان الذي اقنع "حزب الله" بهذه الصيغة ليس رئيس اللائحة الامير طلال ارسلان. وفي هذا السياق ايضاً يأتي تحالف الحزب في البقاع مع مرشح حزب الكتائب نادر سكر، وكتائبية هذا الاخير ليست وحدها ما زكى ترشيحه، اذ سبق لسكر ان تولى ومن موقع غير كتائبي على الاطلاق الاشراف السياسي على محطة "أل بي سي"، بعدما شعر المشرفون على السياسة في لبنان انها تتفلت من قيود التزام وحدة المسارين السوري واللبناني. في بيروت ثمة مفارقة انتخابية كبرى ايضاً، تتمثل بانضمام المرشح ناصر قنديل الى لائحة رئىس الحكومة السابق رفيق الحريري. فقنديل الذي شهدت السنتان الفائتتان صعوداً سريعاً لنجمه، من عضو في المجلس الوطني للاعلام الى رئيس له، الى اسم متداول لتسلم وزارة الاعلام، وكان خلالهما من اعتى معارضي الحريري، ولطالما استعان الحكم بطلاقة لسانه، وبتمكنه "النظري" من ربط مشروع الحريري بمشاريع التطبيع والعولمة المدانة من اهل النظام ومن اهلهم. وقنديل الذي كان تخريج ترشحه مع الحريري على رغم الخصومة المريرة معه، هو تحالف الاخير مع "حركة أمل" التي يعتبر قنديل مقرباً من رئيسها، يعلم معظم اللبنانيين ان انتماءه يتجاوز "أمل" وكذلك يتجاوز مشكلته مع رئيس الحكومة السابق، ويتجاوز اللائحة ايضاً. اذ يقول خبراء الانتخابات مثلاً، ان منافسه على المقعد الشيعي في بيروت الوزير محمد يوسف بيضون ينافس حليفاً وخصماً في آن، ويرجح هؤلاء ان يفوز قنديل في حال شهدت الانتخابات كثافة في التصويت الارمني، علماً ان الاحزاب الارمنية هي حليفة بيضون في لائحة الحص المنافسة للائحة الحريري، لكن الارمن هم كلمة السر الاقليمية ايضاً. اما حظوظ بيضون فتزيد في حال اقبل المسلمون السنة على الانتخابات، مع العلم ان الكتلة السنية الرئيسية من المرجح ان تصب اصواتها للائحة الحريري المنافسة للائحة التي ينتمي اليها بيضون، لكن المسلمين السنة ورثوا خصومة لقنديل سببها معارضته الحريري، ويحملون مودّة لبيضون تعود الى تحدره من بيت بيروتي شهير. اما في الجنوب فربما حمل انضمام النائبين بهية الحريري ومصطفى سعد الى لائحة واحدة معاني اضافية لمضامين التحالفات الانتخابية في لبنان. فالنائبان الصيداويان لم يحل تحالفهما دون استمرار حال الخصومة الشديدة بينهما، ولعل من حق الصيداويين عليهما ان يسائلوهما عن اسباب تلك الصدامات المتكررة بين انصارهما في حين ستجمعهما لائحة واحدة. فان يظهر النائب سعد على التلفزيون ليعلن ان للحريري علاقات قديمة بالاسرائيليين، وان المؤسسة التي كانت ترأسها شقيقته النائبة بهية الحريري قدمت مساعدات الى الجيش الاسرائيلي، فكيف يقبل ان ينضم الى لائحة انتخابية الى جانبها؟ اما النائبة الحريري فظهرت بدورها في مهرجان انتخابي، ودعت مؤيديها بلهجة تحريضية الى الاقبال بكثافة على الاقتراع، وعكست حماوة التصفيق والهتاف اجواء الاحتقان في مدينة صيدا. لكن اجواء الاحتقان هذه لم تكن لها وظيفة انتخابية، فخصومتها لسعد لن يتاح لها ان تترجم في الصناديق، وظهرت السيدة على التلفزيون حائرة في تصريف تلك الطاقة المتولدة من احتقان محلي لن يتاح له التوظيف. وقد تكون مفارقة تحالف النائبين الحريري وسعد في مدينة صيدا اقل اقليمية، من مفارقات التحالفات الاخرى، ولكن يبدو ان ثمة تقاليد تم ارساؤها، في مدة تزيد عن عشر سنوات، تم خلالها جعل الخصومة السياسية امراً على هامش المنافسة الانتخابية، فهان على الناخب غير المتطلب اصلاً، تفهم الظروف الدقيقة والحساسة التي يمر بها مرشحه، فرئيس المجلس النيابي نبيه بري، وهو رئيس اللائحة التي تضم النائبين الصيداويين، حريص على ضم الحريري بسبب تبادلات مع شقيقها رئىس الحكومة السابق في مناطق اخرى، لكنه ايضاً يريد ارضاء الدولة والحكومة عبر ضم سعد المقرب من رئيس الجمهورية إميل لحود والمعادي للحريري. ويدخل في سجل هذه التحالفات التي لا تؤكد إلاّ خواء الشأن العام اللبناني، ولا سياسية هذه الانتخابات، الحلف المعلن ولكن غير المثبت بلائحة بين وزير الداخلية ميشال المر، والنائب السابق ألبير مخيبر في دائرة المتن الشمالي. فالأول ترك في لائحته مقعداً ارثوذوكسياً للثاني. اما الخصومة، بل العداوة بين الرجلين التي وصلت الى حد اتهم فيه مخيبر المر أنه زوّر الانتخابات في العام 1996، فهي امر آخر، ربما كان التجاوز الوحيد لهذا السياق، هو تمكن النائب وليد جنبلاط من استبعاد النائب زاهر الخطيب عن لائحته، فالرجلان لم ينسجما يوماً على رغم التحالفات الانتخابية القسرية التي ضمتهما في الدورتين السابقتين، فكان ان تمكن جنبلاط في هذه الدورة من التمرد على الضغوط واستبعد الخطيب. والى موضعية هذا التمرد، فإن تعويضات قدمت الى الخطيب قيل ان اقلها حجز مكان له في الحكومة المقبلة، وفي الوقت نفسه تحركت الاجهزة المتنافسة بدورها فأمنت له مقعداً على لائحة "الشوف للجميع" المنافسة للائحة جنبلاط، والحكايات التي حملت هذه الاخبار تضمنت ايضاً ان من الممكن ان يكون الخطيب الفائز الوحيد في تلك اللائحة.