"انها كنز وطني" هكذا وصف مدير معهد الفنون المعاصرة I.C.A في لندن المعمارية زهاء حديد التي يضعها المهتمون بفن العمارة في مقدم الاسماء الاشهر عالمياً. وزهاء حديد التي درست الهندسة المعمارية في بريطانيا وقبلها الرياضيات في الجامعة الاميركية في بيروت، قطعت الشوط مثلما تمضي تصاميمها شاهقة، مسرعة الى عالم يمزج الخيال بقوة المادة وصلابتها، متجاوزة حدود التماثل والاستنساخ نحو رؤية جديدة لعمارة المستقبل. ولكن، ما هي عمارة المستقبل؟ او ما هي العمارة الاكثر حداثة حسب ما توحي اعمالها التي استضافها معهد الفنون المعاصرة هذا الموسم في معرض يمتد الى الشهر المقبل؟ كل من كتب عن هذه المعمارية يذكر الحداثة في مقدم ما يصف به شغلها، لكن المعرض يبدو للزائر متاهة ليس من السهولة فك ألغازها. هناك في المداخل مجموعة من الصور والمجسدات لا ترشد سوى الى سديم يلف المقاطع الجيولوجية التي رُكبَّت على سطوح توحي بالانتهاء او الابدية. وهناك ما يصوره الكومبيوتر، او ما تبديه الخطوط المجردة للتكوين، لكن المتابع على نحو صبور ودقيق يستطيع ان يلم ببعض ما غمض عليه من مادتها، او ما تحاول ان تلقي في روعه من الغازها العسيرة، فالحداثيون راغبون دائماً في استعراض الغموض او افتعاله. انها تنظر الى السطوح بعين طائر، لتشرف عليها من عليين، وبقدر ما تحاول ان تمنحها حياة جديدة فإنها تقصيها الى مكان مقرّب الى جغرافيا نائية او فضاء خارج الالفة والحميمية لمدن اليوم. تكويناتها تميل الى الخطوط القوية التي تبدو وكأنها خارج اي غرض عملي يتطلبه المعمار، انها تشير الى تصور مجرد مستنفدة العنصر الجمالي قبل الغرض الوظيفي. ولكن تجريدها لا يجعل منها بعيدة عن تلك العلاقة التي تدل الى مهمة ما، وتبدو تلك المهمة على صلة بالمكان الروحي. الحضور المهيب للشكل يُذكر بما للبناء المقدس من سحر وجداني. في الكثير من مقترحات زهاء حديد الجمالية تتولد القرابة او الصدمة او المفاجأة في الغالب، من خطوطها التي تتجاذب طرفيها حركة الخارج حيث السمو والرفعة في اندفاعها نحو الاعلى، والحركة الاخرى اللولبية المتجهة عمقاً الى الداخل. تستطيع ان تدرك عبر الصور التي وضعتها قيد التصميم او تلك التي نفذتها، تداخل المهام التي اعدتها لنفسها، فهي رسامة ونحاتة ومعمارية في آن، فتكويناتها اقرب الى النُصب الضخمة وانحدارات الخطوط في تهور اندفاعاتها وعنفها، وتأكيدها على اللون واللمسة الطليقة، تجعل تلك المجسدات لوحات مفكراً فيها، فالكتل في تقاطعها تزدان بانعكاسات الضوء على سطوحها، فيما نجد في انحناءاتها غنائية واضحة، لكنها لا توحي بالأمان، بقدر ما تتجه في معظمها شاقولية الى الاعلى وكأنها تطاول الفضاء في انطلاقة تبهر الانظار. حتى التكوين المسطح لديها يبدو وكأنه يشق ما حوله في حركة اندفاع ليثبت استقراره في محيط يختاره هو. منذ الثمانينات بعد ان افتتحت مكتباً خاصاً لها بدأت زهاء حديد مسيرتها في بريطانيا، ثم انطلقت خلال العقود العشرة المنصرمة كمعمارية طليعية في منافسة قوية مع اشهر الفنانين البريطانيين. وهي امرأة جوابة امتدت مشاريعها الى المدن الرئىسية في العالم: طوكيو، نيويورك، فيينا، هونغ كونغ، باريس، برلين، روما وغيرها. ويتذكر الاعلام البريطاني مسابقة دار الاوبرا في كارديف التي فازت فيها على كل منافسيها، غير ان التنفيذ حُجب عنها لأسباب تردد بين كونها امرأة او لأنها عراقية، غير ان زهاء حديد لا تعد نفسها سوى عراقية المولد، مع انها انهت المرحلة الثانوية في العراق، اي انها غادرت بلدها وهي في سن الشباب. والمعمار احد اهم الفنون التي كانت هاجس العائلات النافذة في العراق ودفعت حشداً من ابنائها وبناتها ليتعلموه. الحزب الوطني الديموقراطي وحده خلّف المعماري المعروف رفعت الخادرجي ابن رئىسه كامل الخادرجي، وزهاء حديد ابنة نائبه محمد حديد، عدا الاعداد التي لا تحصى من ابناء الوزراء والعسكريين والقادة في العهد الملكي الذي برز بينهم من برز او انتهى وشهادته الى النسيان. ولعل ولع هذه الشرائح بفن العمارة يعود الى حركة العمران التي صاحبت نشوء الدولة العراقية، والاتجاه الى احياء فنون الرافدين القديمة، والمعمار الاسلامي. غير ان عمل زهاء حديد لا يمت بصلة تُذكر الى الفن الاسلامي او الشرقي عموماً، مع ان المتابعين حاولوا الربط بينه وبين الحروف اليابانية، او اظهروا عن لسانها استلهامها فن السجاد الايراني وما الى ذلك مما لا يقدم ولا يؤخر، المهم في الامر ان حديد تعد نفسها فنانة كونية لا تحد من طموحاتها حضارة او انتماء. وهي الآن في حركة دائبة لتنفيذ الكثير من مشاريعها التي تعرضت في السنوات السابقة للتعطيل. ولعل فكرة الحداثة، او عمارة المستقبل على النحو الذي تطمح الى تصميمه تجعل من تنفيذ نماذجها مغامرة غير محمودة العواقب. لكنها استطاعت خلال السنوات الاخيرة كسر ذلك التصور فأوكلت اليها مهام متنوعة. وكانت من بين منفذي بناية الروم على التايمس التي دُشنت ليلة الالفية الثالثة. وهي بناية تولى فيها اشهر المعماريين تحقيق تصورهم عن الجسد الانساني، وكانت مهمة حديد هي العقل في هذا الجسد Mind Zohy الذي تخيلته بمراحل تطوره حيث القسم الاول الطاقة ثم الثاني توالدها والثالث انتاجها. وهي مقبلة على تنفيذ جسر ابو ظبي المتحرك العملاق الذي يربط ثلاث امارات ويمتد من الارض محاذياً الشاطئ الجنوبي للخليج العربي، ثم يرتفع شاهقاً فوق الماء ويتفرع الى اقسام مختلفة. ولعل تصميمها متحف روما الحديث احد الابتكارات التي ستجعل من هذا المتحف عملاً غرائبياً، فهي استخدمت خطة تقوم على تداخل السطوح وتفرعها لتصبح أجزاء من المعروضات مكشوفة امام من يمر على المكان من الخارج فيما تصبح البناية في هذا المتحف مكملة لوظيفة العرض. ليس من السهولة وصف مجموعة كبيرة من الاعمال التي تبرز من خلالها زهاء حديد متنقلة من منجز الى آخر. ولعل حشود الافكار التي تضج بها تصميماتها تحقق الشرط الاساسي لفن ينتمي الى المستقبل، ومن بين اهم مميزاته: الابتكار والقرابة والسرعة التي تحدد جغرافيا جديدة للمكان تنتسب الى ازمنة مقبلة. * كاتبة عراقية مقيمة في لندن.