بينما يمثل ايدي مورفي سبع شخصيات في فيلمه الجديد "البروفسور المجنون"، ويؤدي جيم كاري شخصيته مزدوجة في "أنا، نفسي وايرين" وبينما نجد مارتن لورنس ينتقل بين شخصية عميل ال"أف بي آي" الرجل، وشخصية المرأة العجوز والبدينة، بحسب خطة للقبض على مجرم فالت، يحافظ وودي ألن على تلك الشخصية المنفردة التي لا تحتاج الى القفز بين هذه الشخصية وتلك، ولا الى ازدواج بدني من أي نوع او انفصام نفسي يبرر له اداء دورين مختلفين على غرار "د. جايكل ومستر هايد". وودي ألن لا يزال، منذ بدايته في السينما قبل 30 سنة كاملة أول فيلم له "خذ المال واهرب"، 1969 هو وودي ألن الذي نستقبله في فيلمه الجديد "محتالون صغار" Small Time Crooks: الكوميدي المفكر في مقابل المذكورين أعلاه، وكلهم جاؤوا بعده، هؤلاء الذين ينتمون الى النوع البدني المحض أحياناً من الفعل الكوميدي. هذا النوع إضافة الى ما تطرحه هذه الأفلام من مواقف أخذت تزداد ابتذالاً في استماتة لتحقيق نجاح فوري بين مشاهديها، ما يجعل من هذه الأفلام أعمالاً تهريجية لا قيمة فنية او اجتماعية لها، ويباعد، في الوقت ذاته، بين خط ألن وخط الكوميديا المطروحة عند أترابه اليوم. "محتالون صغار" ليس أفضل ما حققه ألن في تاريخه المديد. ومعاناة البحث عن الجديد غير المتوافر على صعيد الأحداث والقصة وعلاقة الشخصيات، تتبدى واضحة في مفارقات هذا الفيلم. لكن اي تكرار في فيلم لألن لا يزال أفضل من اي جديد يصل الينا من الممثلين الثلاثة المذكورين، علماً أن إيدي مورفي "البروفسور المجنون 2" يجهد في سبيل تقديم شخصيات تختلف الواحدة عن الأخرى اختلافاً بيّناً، ومسعاه هذا ينجح في حد ذاته. لكن الفيلم لا يحمل في ذاته اي قيمة فكرية، ولا اي عمق او دلالة تبتعد عن المطروح في المشهد الأمامي. وكان بيتر سيغال، الذي أخرج "البروفسور المجنون 2" أخرج كوميديا جيدة لم تلق نجاحاً تجارياً، ولعل هذا السقوط هو الذي أقنعه بأن يلجأ الى الفيلم التهريجي عوض الكوميدي الفاعل. ذلك الفيلم كان "مواطنيّ الأعزاء"، عن رئيسين سابقين للجمهورية جاك ليمون وجيمس غارنر هاربين من خطة لقتلهما، وطول الوقت يتبادلان توجيه النقد السياسي، اذ أن أحدهما ليمون رئيس ديموقراطي والثاني جمهوري. سيغال اكتشف سريعاً اي بعد فيلمه الأول ذاك الذي ورد قبل خمس سنوات أن هذه الكوميديا لا جمهور كافياً لها يحمله الى النجاح الذي يتمناه لنفسه. وهو المفهوم نفسه الذي يفصل بين ألن ومعظم أترابه، اذ يواصل هذا الممثل / المخرج تقديم أفلامه في صورة متوالية لا انقطاع فيها، مضطراً الى التكرار من حين الى آخر ولكن رافضاً أن يساق الى حيث ينسف بيديه تاريخه الفني الذي شيّده فيلماً وراء فيلم. فوق وتحت هناك نصف ساعة أولى نجد فيها "محتالون صغار" يستعير من لحظات ألن الأفضل في تاريخه: انه الرجل الصغير الذي يتقصد إنجاز مهمة أكبر من مستواه الذهني واستعداداته الخاصة. قرر وصديقين له مايكل رابابورت وتنني دارو سرقة المصرف القريب، وخطتهم في ذلك شراء الدكان المقفل القريب من البنك بينهما دكان واحد ثم شق نفق تحت الأرض من تحت الدكان الى تحت المصرف. ألن ليس مجرماً عاتياً بل محتال صغير متزوج من امرأة مدبرة ترايسي أولمان ترفض منحه "تحويشة العمر" لكي يدفعها جزءاً من رأس المال المطلوب. وفي مشاهد أولى نضحك حين نراه يحاول إقناعنا مذكراً أيانا بكُثُر من الرجال الذين يتصرفون كما لو كانوا الآمرين - الناهين في البيت، فيما الأمر والنهي والسلطة الحقيقية في يد الزوجة. ويزداد موقف ألن حرجاً حين يصل شريكاه ويحضران بعد ذلك الجدل. لكن الزوجة تستسلم في نهاية الأمر تحت الإلحاح ويُفتح المحل، هي تعمل في الطبقة الأرضية في صنع الحلوى المنزلية وبيعها، والثلاثة تحت الأرض يباشرون العمل فيخرقون أولاً أنبوباً تنفجر منه الماء التي تكاد تغرقهم، ثم يحفرون بحسب خارطة كان ألن يتمسك بها ويحملها مقلوبة طول الوقت. ونتيجة ذلك ان الثلاثة حين حفروا للصعود مجدداً على سطح الأرض وجدوا أنفسهم في المحل المجاور فقط. في هذه الأثناء، كانت حلوى الزوجة شاعت ليصبح المحل اختيار الحارة بأكملها، ثم المدينة هناك مشهد مضخم لصفوف الناس ما يدفع الزوجة الى فتح سلسلة من المحال وتكوين شركة خاصة. عند هذا الحد ينتهي الفصل التمهيدي للمشكلة التي ستطرأ، في الفصل الثاني، من جراء صعود آل وينكلر ألن وزوجته صعوداً مفاجئاً من مستوى الفقر والدعة، الى مستوى الثراء. أدركت الزوجة أن الثراء ليس كل شيء في النقلة التي تشهدها، وتقول لزوجها في ما بعد، انهما يفتقران الى المعرفة الثقافية والفنية، الى الذوق والحس العالي والى التصرفات وأنواع البروتوكول اللائقة. لكن ألن يسخر من التحولات بأسرها. صحيح أنه وافق على الإنتقال من الشقة الى بيت فاخر واشترى ثياباً جديدة واستطاع ان يبقى عاطلاً من العمل بنجاح، الا أنه يحن الى زمن مضى كان يخطط فيه لجرائم صغيرة يفشل في إنجازها. تنطلق الزوجة في مهمتها للإرتقاء بثقافتها، ومعينها في ذلك شاب انكليزي اسمه ديفيد هيو غرانت يجد في صحبتها الثروة التي اذا ما عرف كيف يستفيد منها، حقق أحلامه الخاصة على حسابها. تقع الزوجة في حبه وهوى ثقافته، وتترك الزوج الذي يجد ملاذاً عاطفياً الى حين قريب لدى امرأة من الحي القديم لديها مشكلاتها. هذا الافتراق يعلن اتجاهين محسوسين فعلاً في مثل هذه الظروف بين اولئك الذين يواصلون صعود السلالم تبعاً لإنتقالهم المادي من ظرف الى آخر أفضل منه، وأولئك الذين لديهم روابط أقوى مع ماضيهم وذواتهم الأولى، فيشعرون ان تلك النقلة خيانة لا يقدرون عليها. فكرياً، الفيلم في هذه المرحلة منه مشبع ومعبر، لكنه واحد من تلك الممرات التي عمد اليها ألن من قبل كثيراً حتى بات نجاحها يعتمد الآن النسيج الكامل للقصة والاحداث وليس - كما كانت الحال سابقاً - مجرد الإكتفاء بذكرها او التطرق اليها. خطوط تتشابك في افلام كوميدية واخرى درامية كثيرة من اعماله من "آني هول" و"مانهاتن" الى "رصاص فوق برودواي" و"كل واحد يقول أحبك" يتعاطى ألن كثيراً مع مواقف الحب المتناقضة، فنجد الشخصية الأولى المتزوجة من الشخصية الثانية تقع في حب شخصية ثالثة، بينما تقع الشخصية الثالثة في حب شخصية رابعة تحب بدورها واحدة من الشخصيتين الرئيسيتين. هذا كله قبل أن تخف حمى الحب، ويعود كل الى الشريك السابق. و"محتالون صغار" لا يختلف عن ذلك مطلقاً: بينما تجد الزوجة في ديفيد ضالتها، يعتقد الزوج أن صديقته هي ضالته، لكن واحداً من هذين الزوجين في حاجة الى الآخر، والثراء الذي لمسته الزوجة تخسره في ساعة تكتشف فيها ان محاسبيها سرقوها وهربوا، فتخسر بالتالي ديفيد الذي لم يعد في حاجة اليها. من ناحيته، اكتشف الزوج أنه لا يزال يحب زوجته فيعودان معاً، وها هو يحلم بعملية جديدة اخرى. ألن في كل ذلك لا يختلف عن ألن في أفلامه الأخرى. كمخرج، يحتفظ بتلك المقدرة على سرعة العمل والاقتصاد فيه، ليبدو الفيلم ابسط مما هو. وكممثل لا يزال يعكس شخصية الرجل الأدنى الذي يملك اقتناعات يجد نفسه وحيداً معها. ألن مواليد 1935 كبر سناً على الحركات السريعة وكبر فكراً عن مستويات أفلامه الأولى. لكن الرجوع اليها، وهي جميعاً متوافرة على الفيديو لمن يرغب، يكشف أنها - حينها على الأقل - كانت كوميدية نقية تنتمي الى الخط الطويل. لأفضل كوميديي السينما، من شابلن وكيتون الى لوريل وهاردي مروراً حتى بجيري لويس. كوميديات ألن ما بين 1969 و1973 التي أحتوت أربعة أفلام من "خذ المال واهرب" الى "نائم" كانت هزلية مرحة وذاتية في الوقت نفسه. لاحقاً، مع "مانهاتن" و"آني هول" و"دواخل" و"برودواي داني روز" وصولاً الى اليوم، نجده في مزيج بين اتجاهين: هو الكوميدي الذي ترتفع في نفسه الاسئلة التي لا يطرحها الكوميديون الآخرون عادة، مفضلين الإتكال فقط على معطيات الموقف المضحك نظرياً، وهو الدرامي الذي يعكس حبه لإنغريد برغمن وفديريكو فيلليني بدرجات لا تصل الى إبداعات المذكورين على الاطلاق، لكنها تلبي حاجته الى ان يتعامل مع المواقف الجادة. في فيلم "ذكريات ستاردست" 1980 - وهو فيلم من نوع السيرة الذاتية أنجزه باكراً لعل ألن في حاجة الى مثيله اليوم يسمح ألن لإحدى شخصيات الفيلم أن تقول له: "أفضّل أفلامك الكوميدية السابقة". هذا التقرير يرد من دون مداولة، ولكن ندرك لاحقاً، وقد غاص ألن عميقاً في محاولاته إثراء شخصياته تلك التي يؤديها هو او غيره، خصوصاً في الأفلام التي لا يشترك في تمثيلها بل يكتفي بإخراجها بهموم ذاتية مختلفة تأخذ من نصيب الحركة لتمنح المستوى العاطفي والفكري ما يحتاج اليه من تماسك. على رغم ذلك، فإن أفضل ألن هو الذي يستطيع أن يمزج بين كل هذه الحالات، فلا يتخلى عن كوميدية الموقف والمعالجة ولا عن جدية الطرح القابع في المستوى الثاني من القراءة. طرح الهوية هناك قيمة مهمة جداً في أفلام ألن لم يبلغها اي من الكوميديين الآخرين بعد: الصدق. في "محتالون صغار" هناك دائماً انعكاسات لشخصية تنبذ قدرها. ترتاب في حقيقة ذاتها ووجودها. هذه الإنعكاسات موجودة أيضاً في كل الشخصيات التي يؤديها ألن، لأنها ألن نفسه. هو يهودي وهذه الحقيقة مستخدمة بنجاح في أكثر من فيلم لكي بعبر عما تعنيه "اليهودية" بالنسبة اليه: انها البحث عن الذات في "زيليغ"، والموقف ضد الفكر المتطرف في "تهديم هاري" والذي تقض مضجعه مسألة البحث عن نفسه في دوامة المجتمع كما في "العبها ثانية يا سام" الذي كتبه ومثله هو، واخرجه هربرت روس. وفي "محتالون صغار" كما في غيره، نجده المثقف الذي يواصل نقد المثقفين وإبن الشارع الذي ينتقد أيضاً نفسه وغيره من مستواه. ألن، اذا فحصناه عن كثب، إنسان قلق في شخصياته كلها. يخاف من الأمور ولديه حس لما ستنقلب اليه. في "آني هول" 1977 يتخيل أن حشرات البيت أكبر منه حجماً وربط هذا التخيل الجانح، والذي يؤدي الى موقف مضحك حين يحاول قتل صرصار اكتشفته دايان كيتون في الحمّام، بالمشهد الذي يقع فيه كان يجادلها في حبه، رابط ذهني ونفسي لا يمكن دحضه. وحين يأتي لزيارة شقيقته المتدينة في "افرودايت القادرة" 1995 تتهمه بأنه ليس يهودياً صالحاً فيجيبها مسدداً أفضل ما في جعبته من رد: "لو أن والديك اعتنقا المسيحية قبل نصف ساعة من ولادتك لكنت اليوم مسيحية". بذلك يكشف مجدداً عن معاداته التطرف اليهودي، ورغبته في الانعتاق من التفكير بالهوية اليهودية. وهي رغبة يطرحها - ولو على نحو متباعد - مادامت موجودة في ذاته. ألن عبر عنها أكثر من مرة ثم صنع فيلمين عنها تحديداً هما "زيليغ" 1983، قصة اليهودي الذي يجرب أدياناً أخرى بحثاً عن الأفضل، و"ظلال وضباب" 1991 حيث هو يهودي ألماني يطالبه أهل الحارة بمشاركتهم القبض على سفاح خطير. يحاول التهرب لأنه لا يصلح، بدنياً، للمهمة لكن ذلك يؤلب عليه الجميع الذين يعتقدون أنه السفاح في نهاية الأمر فيطاردونه... انها ليست مجرد مزحات او تهيؤات، لكن ألن يستخدمها دائماً مصدراً يستلهم منه أسباب النكتة من نفسه ومن أنفسنا.