استرعت التطورات الخاطفة في السنوات الثلاث الأخيرة في ايران، انتباه المراقبين السياسيين داخل البلاد وخارجها أكثر من أي مرحلة أخرى، حتى أمكن القول إن أي حقبة في تاريخ ايران لم تحظ بالأهمية التي حظيت بها السنوات الثلاث الأخيرة ولم تكن مؤثرة مقدارها، قط. فقد بدأ هذا التأثير منذ اقتراح حوار الحضارات على المستوى العالمي وباتباع سياسة إزالة التوتر وبناء الثقة مع دول المنطقة واتباع مشروع السياسية داخل البلاد. وهذه المحاور الثلاثة ظلت ثوابت محددة للتعرف الى السياسة الإيرانية الجديدة. وكثرت التحليلات وتضاربت، ولكن يمكن القول إن نظرة عامة لهذه التحليلات يمكن أن تعكس مدى أهمية التطورات التي طغت على الساحة الإيرانية بعد الانتخابات الرئاسية السابقة في الثاني من خرداد عام 1374ه. ش 22 أيار /مايو 1997 والتي جاءت بالسيد محمد خاتمي الى سدة الحكم. وقسّمت الشارع الإيراني فريقين يختلفان في الروية... وهذان الفريقان ينبعان من نظرتين مختلفتين تماماً يمكن التعرف إليهما من خلال نظرة واقعية تسلط الأضواء على الأوضاع والتطورات الراهنة في إيران والمستقبل الذي ينتظرها. النظرة الأولى: من خلال هذه النظرة تعتبر التطورات الثاني من خرداد عام 1374 22 أيار 1997 نتيجة لتضارب آراء ووجهات نظر بين ثلاثة أجيال من الثورة الإسلامية بعد انقضاء مرحلتين مهمتين. ويأتي هذا التضارب بين الآراء في مطع العقد الثالث من عمر الثورة الاسلامية. فالجيل الأول يمثل الذين كانت لهم توجهات إسلامية قبل انتصار الثورة الإسلامية، وقد أمضى كثر منهم مُدداً طويلة في سجون الشاه، في ما بقي البعض الآخر يمارس نشاطاته سراً، ليمهد الأرضية لإسقاط حكم الشاه. وأخذ هذا الجيل المسؤوليات الحكومية على عاتقه بعد انتصار الثورة الإسلامية في العقد الأول من عمر الثورة وتبعه البيروقراطيون الدينيون الذين كانوا يعيشون خارج البلاد واستمرت الحال من 1978 الى 1988 بين هذين التيارين الثوريين داخل البلاد وخارجها. والجيل الثاني يمثل الذين كانوا أشبالاً وشباناً إبان انتصار الثورة الإسلامية. فكان الطاقة الرئيسية والآلة التنفيذية للسياسات التي يطرحها الإمام الخميني، وكان له الجيل الدور الأول خلال الحرب العراقية المفروضة على ايران حتى أن غالبية ضحايا هذه الحرب كانت من ابناء هذا الجيل. وبعد رحيل الإمام الخميني انتهج الشيخ هاشمي رفسنجاني سياسة التنمية الاقتصادية من 1989 الى 1997، فأدخل الجيل الثاني للثورة في القضايا المتعلقة بتقرير المصير والمهمات التنفيذية. وبعبارة أخرى، كان الجيل الأول للثورة جيل ال"آر بي جي" والحرب، بينما كان الجيل الثاني جيل النشاطات الاقتصادية والعملة الصعبة. أما الجيل الثالث الذي لم تكن أعمار أبنائه تتجاوز السنوات الخمس إبان انتصار الثورة الإسلامية وعاش غالبية عمره هذا بعد هذا الانتصار، فوجد نفسه امام بعض القيم التي طرحها الجيل الأول في المجتمع ودعا إليها ونفذها الجيل الثاني تقريباً. لكن هذه القيم التي من شأنها ان تترسخ في المجتمع، لم تجد طريقها الى قلوب الشعب بسبب المشكلات الناجمة عن الحرب المفروضة واستغلال بعض المسؤولين الذين أضحوا أسرى أهوائهم الدنيوية. المناصب والفرص وبعبارة أخرى، وجد الجيل الثالث الذي يشكل أكثر من نصف المجتمع الإيراني نفسه أمام بعض النزاعات بين الأصوليين والتنفيذيين، ما ساقه الى بعض الدوامات أحياناً. واتسعت الهوة بين الجيلين الأول والثالث للثورة بعدما أخذ الأول يطرح بعض القيم الأصولية التي لا يعرفها الثالث، بل هو كان بعيداً كل البعد عنها. حتى جاءت انتخابات الثاني من خرداد 22 أيار 1997 ووضعت الجيل الثالث على الطريق التي كان يبحث عنها. ومن هذا المنطق يمكن اعتبار العقد الثالث من عمر الثورة الذي بدأ عام 1997، مرحلة التنمية السياسية. وعلى رغم أن قيادات الثورة الإسلامية حاولت في العقدين الأولين من عمرة الثورة المحافظة على القيم الرئيسية من جهة وتفهم متطلبات المجتمع من جهة أخرى وإجراء بعض الإصلاحات الضرورية في البلاد، لم تكن وتيرة الإصلاحات هذه التي بدأت منذ 22 أيار 1997 على اختلافها مع الإصلاحات التي سبقت الانتخابات الرئاسية السابقة كافية وشافية. فسرعتها أخيراً ولّدت بعض القلق، والتحذير من وقوع انقلاب داخل بيت الثورة، ليأخذا طريقهما الى ما تدعو وتطبل له وسائل الإعلام الغربية، ما قد يؤدي الى فشل الثورة كلياً. وبحسب هذه النظرة، فإن الجيل الثالث للثورة يتكون من الشباب المتمرد والمرأة المطالبة بحقوقها السياسية والاجتماعية وتعتبر أصواتهم لمصلحة السيد خاتمي روضاً للنظام الإسلامي في إيران. فقد برهنوا أنهم يريدون إجراء تطورات أساسية داخل النظام ولكن سلماً وفق هذه النظرة. من هنا يعتبر التيار الذي ولد بعد انتخابات الثاني من خرداد 22 أيار 1997 بمثابة ثورة سلمية، ومن دون إراقة دماء داخل الثورة الإسلامية، تطالب بتغيير الحكومة لا النظام الإسلامي، وقد وضع الحكومة الإيرانية أمام أمرين: إما أن تقبل بتطبيق طلبات قد يؤدي تنفيذها الى نسيان أصل الثورة الإيرانية، وإما أن تسمح للآخرين بتسلم السلطة سلماً ليكون في السلطة التنفيذية اشخاص لا يروجون للحكومة الدينية. النظرة الثانية: من خلال هذه النظرة لم يكن التيار الذي ولد بعد انتخابات 22 أيار 1997 نتيجة لتضارب آراء السلطات الداخلية للنظام الإسلامي، بل إنه نسيم من رياح الإصلاح التي شملت مختلف أرجاء العالم بعد انتهاء الحرب الباردة. تلك الإصلاحات التي بدأت بعد انهيار جدار برلين وشملت أوروبا بأكملها وامتدت الى أميركا اللاتينية وأفريقيا والجانب الآخر من العالم، كي تزيل كل الحكومات التي لم تتمكن من مواكبة التطورات الحديثة في العالم. وعلى رغم أن منطقة الشرق الأوسط التي تحظى بأهمية استراتيجية بالغة في العالم، لفحتها رياح الإصلاحات بعد عقد من الزمان تقريباً، ولكن مع كل هذا التأخير عمت رياح التغيير كل البلدان تقريباً. وبما أن إيران ما زال لها الدور المهم في المعادلات الإقليمية لم يكن في مقدورها أن تبقى بعيدة عن الإصلاحات، لذلك نرى أن التغيير بدأ منذ 22 أيار 1997 لتواكب إيران التطورات العالمية. ومن هذا المنطلق لا يطلق المحللون المعنى التام للمحافظين والإصلاحيين المتعارف عليه في العالم على المحافظين والإصلاحيين في إيران، لأن الفئتين فيها نموذجان يختصان بإيران دون غيرها. بعبارة أخرى لم تكن لدى التيارين خلافات جذرية بل هما يختلفان على أسلوب تطبيق الإصلاحات وضروراتها والنقاط التي يجب أن تبدأ منها. فحتى لو كان الشيخ ناطق نوري زعيم التيار المحافظ فاز في الانتخابات الرئاسية في 22 أيار 1997، لشهدنا بعض التغييرات والإصلاحات من دون شك. ولكن بوتيرة أبطأ وفي شكل محدود. والحقيقة أن آية الله خامنئي المرشد الأعلى كان له الدور المهم والمصيري في الانتخابات التاريخية تلك، إذ كان يصر على أن تكون نزيهة وبعيدة كل البعد عن أي تلاعب، وهذا ما لم تتطرق اليه وسائل الإعلام بالشكل المطلوب. وكان يؤكد على أن تكون حرة وتوفر الأرضية لمنافسة لم يسبق لها نظير، في حين كان يمكنه أن يعمل في شكل ما ليدفع الأصوات كلها نحو المرشح الذي كانت تعول على انتصاره كل الدوائر الرسمية وغير الرسمية. ثم إن موقف الشيخ هاشمي رفسنجاني في الخطبة الثانية لصلاة الجمعة في طهران التي سبقت انتخابات 22 ايار 1997، كان له الأثر التاريخي أيضاً في إجراء انتخابات حرة ونزيهة، إذ أجمع المحللون على أنه الموقف كان الضمان المحكم لاعتماد آراء الشعب، بينما كانت كل الأوساط الحكومية آنذاك تدعم منافس خاتمي الشيخ ناطق نوري. وأهم من كل هذه الأمور عدم ترشيح رفسنجاني نفسه الى ولاية ثالثة، إذ كان سهلاً عليه إجراء تعديل في الدستور الذي لا يسمح للرئيس بالبقاء في منصبه أكثر من ولايتين متتاليتين. لكنه أراد أن يكون انتقال السلطة من حكومة الى حكومة أخرى في شكل سلمي، وهذا ما ساعد على توفير الأرضية المناسبة لظروف 22 أيار 1997. فالخطوات التاريخية لقائد الثورة آية الله خامنئي وساعده الأقوى الشيخ رفسنجاني كان المحرك الأول والرئيسي لانتقال السلطة سلماً ودعوة الجماهير الى المشاركة الفاعلة في الانتخابات الرئاسية في دورتها السابقة. وفي مثل هذه الظروف، صدق الجيل الثالث للثورة الذي يوالي إجراء إصلاحات من دون انقلاب، أن من الممكن أن يحدث تغييراً ما، من دون وقوع أي انقلاب، التغيير الذي يعتبر أن الحركة الإصلاحية الراهنة هي نتيجة لمسيرة الإصلاحات الدولية، وقد أوجدت في إيران بالتنسيق بين قائد الثورة خامنئي والشيخ رفسنجاني والسيد خاتمي على حد سواء وفقاً لهذه الرؤية فالسياسات الراهنة للبلاد على رغم بعض فوارقها، تسير في إطار عام ومدروس لتتمكن من استقطاب الرأي العام أكثر فأكثر. تقويم النظرتين في تقويم واقعي للنظرتين، يمكن التوصل الى أن بعض الواقعيات القائمة أُخذت في الاعتبار، وقد غُض الطرف عن البعض الآخر. فالحركة الإصلاحية في إيران لا يمكن انكارها سواء كانت جذورها في خارج البلاد أو داخلها، وهي ماضية في طريقها من دون شك، والمسؤولون الإيرانيون ما زالوا يحاولون تقديم نموذج جديد للحكومة الى العالم. وإذا كانت الثورة الإسلامية قدمت نموذجها الثوري في نهايات السبعينات والثمانينات، خصوصاً الى دول المنطقة، فإنها اليوم تقدم نموذج الإصلاح الإيراني باعتباره الحقيقة التي لا يمكن التغاضي عنها في ظل كل هذه المنظورات العالمية، وخصوصاً التطورات المؤثرة في دول المنطقة، إلا أن العالم إذا كانت تساوره شكوك، حيال الثورة الإسلامية، فإن هذه الشكوك تتضاءل بالنسبة الى النموذج الإصلاحي الذي تقدمه إيران الآن. ولتقريب المعنى من الأذهان وتجسيد صورة الإصلاح في ايران، يمكن تشبيه الحركة الإصلاحية الإيرانية بالطفل الحديث الولادة، إذ بلغ اليوم السنة الثالثة ونصف السنة من عمره، ومثل كل الأطفال تارة يقف على رجليه وطوراً يتحرك الى الأمام ليثبت قدرته على المضي قدماً مثل الآخرين، ولا ينتظر أوامر الحركات الإصلاحية العالمية. وعلى رغم أن منافسي هذا البيت الإيراني وأعداءه لا يحبون الحركة الإصلاحية اليافعة ويتطلعون الى فشلها، لكنهم لا يتمكنون من إنكار نموها كماً وكيفاً بالنسبة الى دول المنطقة. فقد أضحت الآفاق الإيرانية مفتوحة للتنمية السياسية والاقتصادية والثقافية. وفي المقابل يحاول المتشائمون بالحركة الإصلاحية داخل البلاد أن يعكسوا مسيرة الإصلاح ويصوروها كأنها ابتعاد عن الثورة وقيمها. ثم أن المتشائمين في خارج البلاد يوظفون كل طاقاتهم، كالحظر والإعلام الموجه ليقولوا إن الثورة الإسلامية أضحت جثة تلفظ أنفاسها الأخيرة وأن الفساد بات ينخرها من الداخل. وعلى أي حال، يجب الاعتراف أن التاريخ يؤكد أن الشعب الإيراني وعلى رغم مشكلاته الداخلية يختار الإصلاحات الحقيقية في الوقت المناسب لتستمر الثورة في حياتها ويتواصل إبداعها واستحداثها، وأن تجارب الانتخابات الحرة والديموقراطية وتكون تكتلات شعبية وغير حكومية والمضي قدماً في النشاطات الحرة وتشكيل الأحزاب السياسية المتعددة وبالتالي توفير الأرضية المناسبة لتشكيل مجتمع مدني إسلامي، كلها آمال حديثة نبعت من صميم الشعب الإيراني. وعلى رغم كل المشكلات الاجتماعية وخلافات التيارات والأزمات الاقتصادية والعوائق الثقافية، تبقى هذه الآمال متحركة في عقول أبناء الشعب الإيراني في ظل النظام الجمهوري الإسلامي. * كاتب سياسي إيراني.