اذا كانت هناك شكوك أو أوهام حول العملية التي بدأت في أوسلو فقد بددتها تماماً قمة كامب ديفيد. إذ برهنت المفاوضات هناك أن هذه العملية لا يمكن ان تقود الى الحد الأدنى من متطلبات سلام عادل ودائم، ناهيك عن تلبية الحقوق الفلسطينية. فقد أطلق نهج أوسلو، كما رأينا في كامب ديفيد، ديناميات سياسية تسلب الفلسطينيين ارادتهم الحرة وتنزع الشرعية عن مقاومتهم وتضعف حقهم في الاستناد الى القانون الدولي. الواجب الآن الغاء كل هذا - الالغاء فوراً وليس في ما بعد. الواقع ان مفاوضات كامب ديفيد لخّصت بشكل واضح المأزق الذي شلّ المبادرة الفلسطينية منذ البداية. إذ ذهب الفلسطينيون الى كامب ديفيد، نظرياً على الأقل، بهدف معلن هو اعادة تفعيل القرارات الدولية والمطالبة بتنفيذها بالكامل. لكن ليس في عملية أوسلو مكان للقانون الدولي أو حقوق الفلسطينيين. وأوضحت اسرائيل والولاياتالمتحدة انهما لن تسمحا بتغيير المعادلة، واعتبرتا أن القانون الدولي "عاجز تماماً" وأن المطالب الفلسطينية كأنها غير موجودة عملياً. هكذا تم حشر الوفد الفلسطيني في زاوية، من دون خيار سوى رد الفعل على الاقتراحات الأميركية والاسرائيلية. وكما كان متوقعاً، وتأكد فيما بعد، فإن جوهر تلك الاقتراحات كان تشريع الوضع القائم مع بعض التعديلات الطفيفة. من الأمثلة المهمة على ذلك الاقتراحات الخاصة بوضع القدسالشرقية. فقد كان جوهرها الرضوخ للاحتلال الاسرائيلي، مع تغييرات بسيطة لا تتحدى الهيمنة الاسرائيلية. وترافق تقديمها مع حملة اعلامية صاخبة صوّرت الاقتراحات بأنها "تنازل" من جانب اسرائيل، ودانت الفلسطينيين بسوء النية عندما رفضوها. وتماشى هذا التزييف مع المحاولة الأميركية المستمرة لإعادة تعريف الصراع، من كونه نتيجة احتلال أرض فلسطين وسلب شعبها الى نزاع بين مجموعتين سكانيتين تحت السيادة الاسرائيلية المطلقة. وحفل الاعلام الأميركي بالتقارير والمقالات التي تركز على أهمية القدس لليهود. لكن لم يكن هناك ما يستحق الذكر عن الأوضاع الحقيقية للقدس الشرقية وسكانها الفلسطينيين نتيجة الاحتلال وما جرّه من دمار. ولم يترك بيل كلينتون مجالاً للشك، عندما دان عملياً في نهاية القمة "تصلب" ياسر عرفات فيما أثنى على "رؤية" ايهود باراك، في ان الولاياتالمتحدة توافق ضمناً على ضم اسرائيل للقدس الشرقية. وفي اليوم التالي سادت هذه النغمة المقالات والتعليقات التي اتهمت الفلسطينيين خصوصاً والعرب عموماً بسوء النية. الأهم من ذلك ان كلينتون اعطى اشارة الى الرأي العام والاعلام الأميركيين بأن الولاياتالمتحدة ترى ان ليس على اسرائيل او ليس في مقدورها تقديم المزيد من "التنازلات بشأن القدس". واعطى تصريح كلينتون وزناً اضافياً وصدقية لحملة التضليل الأميركية الاسرائيلية الناجحة التي رافقت مفاوضات كمب ديفيد. وزاد من فاعلية تلك الحملة قبول المفاوضين الفلسطينيين بالقواعد التي فرضتها واشنطن، ما كمم أفواههم في الوقت الذي ترك لاسرائيل السيطرة الكاملة على نظرة الرأي العام الى المفاوضات. وعندما حاول كثيرون منّا التصدي في الصحف والتلفزيون للمنظور الاسرائيلي واجهوا المقاومة القوية والرفض. وسمحت عملية اوسلو لمساندي اسرائيل بالقول ان عرفات نفسه تخلى عن القانون الدولي منذ البداية. لكن اذا كان صحيحاً ان غياب القانون الدولي عن اتفاقات أوسلو يشكل واحداً من أخطر نواقصها واكثرها تدميراً فمن الخطأ تماماً القول ان ذلك يعني الغاءه. بالمقابل فإن فاعليته وامكان اللجوء اليه سيضعفان كثيراً اذا وقع الفلسطينيون على اتفاق دائم يقوم على حلول تقبل، كلياً أو جزئياً، بوجود المستوطنات الاسرائيلية وضم القدسالشرقية والسيطرة على الحدود والموارد المائية. الواقع ان هذا بالضبط سبب محاولة واشنطن المحمومة فرض حلول للقضايا الجوهرية تلغي، اذا وافق عليها الفلسطينيون، القانون الدولي وقرارات الأممالمتحدة. ان رفض الولاياتالمتحدة للقانون الدولي لا يتعلق بالأوجه القانونية لاتفاقات أوسلو بمقدار ما يتعلق برغبتها الحادة في الطمس التام لارادة الشعب الفلسطيني. هذا الطمس الوقح هو الوظيفة المباشرة لاتفاقات أوسلو التي أرست هياكل قمعية لكبح ارادة الفلسطينيين وتهميش اجماعهم الشعبي. وقامت السلطة الفلسطينية بشكل منظم طوال السنين الست الماضية بقمع حرية التعبير والنشاط السياسي استرضاء لاسرائيل والولاياتالمتحدة. والقت بالمعارضين الى السجون وخنقت الأصوات، وكل ذلك لدعم ما يسمونه عملية السلام. لكن ها نحن وصلنا الى نهاية هذا الدرب. ولم تكن نتيجة "فرض الأمن الاسرائيلي" بهذا الشكل سوى تعميق الخلل، الهائل أصلاً، في ميزان القوى الاستراتيجي، وترك تحديد مصير الفلسطينيين بشكل كامل في يد اميركا واسرائيل. ولماذا يهتم اميركا واسرائيل بالرأي العام الفلسطيني اذا كانتا تتوقعان من عرفات، حسب عملية اوسلو، قمع المعارضة واخماد صوتها؟ هذا كان من بين اسس العملية، وهو ما مكّن اسرائيل والولاياتالمتحدة من مواجهة الفلسطينيين بتلك المطالب والاقتراحات المجحفة. من الضروري الآن انهاء السياسة الفلسطينية الرسمية القائمة على استرضاء أميركا واسرائيل، ووقف القمع الذي تمارسه السلطة الفلسطينية باسم "السلام". فقد برهنت قمة كامب ديفيد، ثم تهديدات كلينتون الوقحة بنقل السفارة الأميركية الى القدس، خصوصاً انه وجهها عبر تلفزيون اسرائيل، على افلاس سياسة الخنوع لأوامر الولاياتالمتحدة واسرائيل. لكن المؤسف ان بعض المسؤولين الفلسطينيين يواصل امتداح "التزام" كلينتون عملية السلام، ما يشير الى استمرار السياسة المزدوجة - سياسة استرضاء أميركا وقمع الارادة الفلسطينية - بعدما تبين بوضوح انها الولاياتالمتحدة تستغل كبح الارادة الفلسطينية لمضاعفة الضغوط من أجل تحقيق اهدافها. الواضح ان لا سبيل الآن سوى استعادة التوافق الفلسطيني. وعلى السلطة الفلسطينية الآن ان تقرر ما هو المصدر الحقيقي لشرعيتها: فاذا كان مصدرها موافقة الأميركيين والاسرائيليين فإن النهاية ستكون حتماً الرضوخ للحلول الأميركية - الاسرائيلية. أما اذا كان الشعب الفلسطيني نفسه مصدر تلك الشرعية فإنها تعرف بالتأكيد ان الكثيرين يرفضون السير على طريقها، فيما لا يزال لدى البعض بصيص من الأمل في التزام عرفات الحقوق الفلسطينية. في أي حال، نحن نقترب من ساعة الحسم. فاذا استمرت السلطة على سياستها المعهودة، في ظل التعنت الاميركي - الاسرائيلي كما بدا في مفاوضات كامب ديفيد وبعدها، فلن تجد خلفها في مسيرتها على طريق الأوهام هذا سوى قلة قليلة من الفلسطينيين. * كاتبة فلسطينية