عشية قمة "كامب ديفيد" حذّر الرئيس بيل كلينتون من ان "أياً من الجانبين الفلسطيني او الاسرائيلي لا يمكنه تحقيق مئة في المئة من اهدافه". وفيما يمكن ان ينطبق هذا التصريح بصورة صحيحة على الحل المطروح لأي صراع، إلا ان واشنطن تروّج تصوراً ل "حل وسط تاريخي" من شأنه ان يديم السيطرة الاسرائيلية ويكبح حرية الفلسطينيين. ويقدم الشرح الاميركي لهذا التصور حلولاً جزئية تضفي شرعية على الوضع الراهن وتحلّ محل حلّ شامل مبني على الحقوق الفلسطينية المشروعة والتاريخية. للمسؤولين الأميركيين المختفين وراء أبواب كامب ديفيد هدفان رئيسيان: تشريع السيطرة الاسرائيلية على الكيان الفلسطيني الذي يبرز الى الوجود، واستحداث مرجعيات جديدة تلغي المواثيق الدولية وقرارات الأممالمتحدة، ولتحقيق هذا الهدف فإن "اتفاق اطار" سيضفي بصورة اساسية شرعية على الامر الواقع الذي اوجدته اسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة - وبالتالي السيطرة الاسرائيلية على الكيان الفلسطيني الناشئ - ويؤسس لمرجعيات جديدة تجعل المواثيق الدولية وقرارات الاممالمتحدة غير صالحة للتطبيق. وتسلط ظروف السرية التي فرضتها أميركا على مفاوضات كامب ديفيد، اضافة الى عزل الوفود في ذلك المنتجع في ولاية ماريلاند، الضوء على عزم الولاياتالمتحدة على انهاء الفصل الأخير للصراع الفلسطيني الاسرائيلي. ولا ينبع هذا الالحاح على الوصول الى اتفاق من رغبة الرئيس بيل كلينتون في دخول التاريخ ك"صانع للسلام"، بمقدار ما ترى واشنطن ان أمامها فرصة مواتية لفرض صيغة تنهي الى الأبد التحدي الفلسطيني، على المستويات السياسية والقانونية والأخلاقية، لإسرائيل. يبدو أصحاب هذا الهدف وكأنهم يتجاهلون الهوة العميقة والواسعة في مختلف القضايا بين الموقفين الفلسطيني والاسرائيلي، ولا يرون الحماقة التي ينطوي عليها سعيهم إلى حلّ خلاف مستمر منذ خمسين سنة خلال أيام معدودة. لكن الواقع أن واشنطن لا تسعى الى تجسير الهوة، بل الى اعادة تعريف القضايا الجوهرية في شكل ينتزعها من اطارها التاريخي، أي الحقوق الوطنية والقانون الدولي. وتشير قراءة دقيقة للتصريحات والبيانات الأميركية الى ان صانعي القرار الأميركيين يرون ان الوضع ملائم أكثر مما مضى لتسوية تعكس الخلل الكبير في ميزان القوى، ويتخذون توصلاً إلى ذلك استراتيجية تعتمد، كما يبدو، على ضعف ياسر عرفات من جهة، واستعداد ايهود باراك للقبول بكيان فلسطيني من نوع ما من الجهة الثانية. ومن عناصر الاستراتيجية أيضاً دفء العلاقات الشخصية بين كلينتون والزعيمين الفلسطيني والإسرائيلي، و"مهاراته في الاقناع" كما وصفها مندوبه الى الشرق الأوسط دنيس روس. الاعتبار الذي لا يقل عن ذلك أهمية للمنظور الأميركي ان اسرائيل خلال السنوات الست، منذ اتفاق أوسلو أقامت مستوطنات جديدة وطرقاً التفافية فيما دمرت مئات المساكن الفلسطينية في الضفة الغربية، راسمة بذلك على الأرض حدود كيان فلسطيني مفكك جغرافياً. إضافة الى ذلك لا تتوقع الولاياتالمتحدة من الطرفين التوصل الى اتفاق نهائي تفصيلي، بل الى "اتفاق اطار" يضع أسساً لحل كل القضايا، من الوضع المستقبلي للضفة الغربية وغزة، الى قضية اللاجئين والحدود والمياه والمستوطنات والقدسالشرقية. أي انه لن يكون موقتاً بل سيرسي أسس "حلول" تفصيلية لكل هذه القضايا الجوهرية. وحسب السيناريو، فإن هذا الاطار سيحل محل قرارات الأممالمتحدة والمواثيق الدولية، مانعاً الفلسطينيين من السعي الى سبل اخرى لتحقيق مطالبهم. بدأ المسؤولون الأميركيون في الشهور الأخيرة وضع الأهداف والاسس الفكرية لاتفاق الاطار. ووصف مسؤول أميركي مشهد التسوية الجديد هذا بالقول: "من منظور الاسرائيليين انهم يريدون ان يعرفوا اذا كان الثمن، في حال اتخذوا ذلك النوع من الخيارات الصعبة، هو انهاء المطالب الفلسطينية. ومن منظور الفلسطينيين فإنهم يتعاملون في الواقع مع عملية لم تلبِ تطلعاتهم ويشعرون بالكثير من الاحباط". ازاء ذلك يفرض الأميركيون أمراً واقعاً على الفلسطينيين يعني الغاء حقوقهم التاريخية المشروعة، وقيام شبه دولة ضعيفة ومفككة تكون واقعاً تحت سيطرة اسرائيل. تتطلب هذه التسوية اعادة تعريف الجوهر التاريخي للصراع، في شكل يطمس الاحتلال الاسرائيلي وما تعرض له الفلسطينيون من استلاب. بل أن المسؤولين الأميركيين ابتكروا مفهوماً جديداً - "مشكلة القرب" - لتحديد الوضع في الضفة الغربيةوغزة. ويشكل المفهوم مفتاح الموقف الأميركي. وتعني "مشكلة القرب" ان الصراع لا يدور على احتلال غير مشروع لأراضي الغير، بل ان التوتر ينبع من عدم قدرة مجموعتين متجاورتين تسكنان الأرض نفسها على التعايش. من هنا فإن أي حل يجب ان يقوم على سبل لعزل الطرفين عن بعضهما بعضاً لكي يتوقف الاحتكاك بينهما. وهكذا لا يعود الاحتلال، في المفهوم الأميركي، عنصراً في النزاع، ولا يعود حتى واقعة فعلية، إذ لا تعدو المستوطنات الاسرائيلية، ضمن هذا المنظور، أن تكون احياء سكنية أو بلدات يقيم فيها اليهود. أي ان الحل القائم على هذا المفهوم يعطي تشريعاً تلقائياً للمستوطنات ولكل مطالب اسرائيل الأمنية. هذا المنطق الأميركي لا يتماشى مع الموقف الاسرائيلي الرسمي فحسب، بل يوفر أساساً لتطلع باراك الى "الفصل" ما بين الطرفين. أي أن شبه الدولة الفلسطينية، حسب هذا المنطق، ليست سوى نتيجة لضرورة الفصل بين الطرفين، وهو ما يسمح لإسرائيل بفرض مطالبها بتحجيم السيادة الفلسطينية. هكذا يجري اختزال فكرة الدولة الفلسطينية من كونها ممارسة للحق الفلسطيني في تقرير المصير الى وسيلة لإدامة السيطرة الاسرائيلية. ولا يعود الفلسطينيون، ضمن التعريف الجديد، شعباً أصلياً على أرضه، بل جالية صادف وجودها هناك، وخطراً يجب احتواؤه لحماية الكيان الأكبر المحيط بهم. ولن تشكل الدولة الفلسطينية تأكيداً لشرعية الفلسطينيين، وهذا هو السبب في معارضة الولاياتالمتحدة اعلان الدولة المستقلة من جانب واحد وتأييد قيامها على أساس فكرة "مشكلة القرب". لأن قيامها على الفكرة الأخيرة سيحرمها مستقبلاً من حقها في السعي الى توسيع سيادتها القانونية على الأرض. ولكن الاكثر اهمية هو ان قبول مثل هذه الدولة الممسوخة التي لا تقوم على ممارسة حرّة لتقرير المصير ستجزئ المطالب الفلسطينية وتقوّض الاساس القانوني الراعي للحقوق الفلسطينية الجماعية. ويشكل هذا تماماً جزءاً من جوهر المقاربة الاميركية في كامب ديفيد: تقديم حل جزئي ومجزأ للقضايا الجوهرية المختلفة تحت عنوان "حلول مبتكرة" لا تعترف بكلية الحقوق الفلسطينية. إضافة إلى ذلك، فإن عدم قيام "الدولة" على الحق الشرعي في تقرير المصير سيضعف الأسس القانونية للقضايا الجوهرية المتبقية، مثل القدس واللاجئين والحدود والمياه. ومن شأن مثل هذا "الحل" الاميركي - الاسرائيلي ان يدمر بصورة دائمة اي اساس لهذه الحقوق الفلسطينية الجماعية. فحتى لو قبل الفلسطينيون بمبدأ تلك الحلول الجزئية فإنهم بذلك يقبلون بمرجعيات جديدة - ويطرحون بذلك جانباً القوانين والمواثيق الدولية وكل قرارات الامم ذات الصلة. واذا قبل الوفد الفلسطيني في كامب ديفيد بمثل هذا الانقلاب التاريخي فإنه سيسلب الشعب الفلسطيني واجياله المقبلة حقوقهم الثابتة التي أُبقيت حيّة عبر عقود من التضحيات. ولا أحد، حتى ياسر عرفات، يملك تفويضاً بعمل ذلك. * كاتبة فلسطينية.