من القصص الناعمة التي كتبتها الكاتبة الاميركية كاترين فوربز، حكاية رجل مدين، وهي تبدأ بإعلان في نافذة منزل عن غرفة للايجار. قرأها مستر هايد فنقر على الباب ودلف الى الداخل. يحكي القصة بعد ذلك احد الاطفال في سن العاشرة. يقول الراوي: مضيت مع الغريب ومعنا امي الى الغرفة ليراها، لم تسأله والدتي ان يدفع الاجرة مقدماً، او ان يذكر رجلاً معروفاً يمكن الرجوع اليه في حال تخلفه عن الدفع، وكانت امي تناست كل هذه الاشياء لانها لم تعهد من قبل تأجير الغرف. قال المستأجر بعد أن ألقى على الغرفة نظرة سريعة: أرى الغرفة ترضينى.. سأبعث بحقائبي في المساء، وبكتبي ايضاً. وصار المستأجر الجديد كأنه واحد منا، كان عمله غير منتظم المواعيد، ولكنه كان رقيق الحاشية مع الصغار والكبار، وكان إذا مر بوالدتي في البهو ينحني لها انحناء السيد الكريم. وأحبه والدي ايضا، فقد اتيح لهذا المستأجر ان يذهب مرة الى النرويج وهو موطن ابي، فكان في وسعه ان يتحدث معه عن مباهج صيد السمك هناك. لكنّ عمتي لم تكن تحسن الظن به، وكانت تملك منزلاً تؤجر غرفاً فيه فصارت تسأل: متى ينوي ان يوفي اجرة غرفته.. وكانت امي تجيبها: انا اخجل ان اسأله، ولكنه سيدفع قريباً.. ولكن عمتي كانت تسخر مما تقوله امي، وكانت تؤكد انها رأت اناساً على شاكلته من قبل، وخير لوالدتي ان تنسى المعطف الذي كانت تحلم ان تشتريه من ايجار الغرفة. ووقع ذلك موقعاً أليماً في نفوسنا نحن الصغار. كنا نعلم ان امي قامت بتأجير الغرفة لكي تنال بعضاً من المال يعينها على شراء معطف للشتاء. اما والدتي فكانت تبتسم حين ترى امارات الهم على وجوهنا ثم تعنفنا بقولها: ما هذا الكلام، احسنوا الظن بالناس. ثم تمضي فتعد القهوة لعمتي حتى تكفها عن الثرثرة. ثم أقبل فصل الشتاء.. وركب الهم امي لأن حجرة المستأجر كانت باردة اثناء الليل، فحملت ابي على ان يدعوه ليشاركنا الجلوس في المطبخ الدافئ. فكنت اجلس مع اخوتي تحت مصباح كبير نعد دروسنا، وكان ابي ومستأجر الغرفة يدخنان الغليون قرب الموقد، وكانت والدتي تعد الجبن للفطور. وكان هذا المستأجر، بعد ان صار واحداً منا، يرشد أخي في امور دروسه ويعينه على حب اللغة اللاتينية ودراستها، فزاد اهتمام أخي بدروسه وارتفعت درجاته. وكنا اذا فرغنا من دروسنا جلسنا نستمع الى اسفار هذا الرجل ومغامراته وكان علمه واسعاً، فكأنك ترى التاريخ والجغرافيا وقد نفخت فيهما الحياة فجاءا يدبان في الغرفة دبيباً. ثم بدأ يقرأ ديكنز فتفتحت امامنا آفاق عوالم رحبة وعجيبة.. وبعد ان قرأ لنا كتابين من مؤلفات ديكنز قرأ لنا شكسبير.. وكان صوته يبدو مثل صوت ممثل عظيم.. وقلّت اوقات خروجنا.. كما تناقصت رغبتنا في الخروج من البيت بعد ان سحرنا هذا المستأجر برواياته وقراءاته. وفرحت امي بهذه النتيجة.. فهي كانت تكره ان ترانا هائمين في الشوارع. وكان المستأجر قطع شوطاً بعيداً في رواية ايفن هو، يوم تلقى رسالة قال لأمي بعدها: ينبغي ان ارحل.. سأترك كتبي للصغار، وهذا شيك بكل ما عليّ، وارجو ان تتقبلي شكري الصادق على حسن ضيافتك. وكم أحزننا ان نراه يرحل، لكنّ ترك كتبه لنا أسعدنا كثيراً ورحنا نقلب فيها ونقرأ بعض عناوينها: قصة مدينتين، اوليفر تويست.. حلم ليلة صيف.. هاملت. ومضت امي تنفض الغبار عنها برفق وهي تقول: ما أكثر ما نستطيع ان نتعلمه منها، وفي وسع شقيقكم الأكبر ان يقرأ لنا منها كما كان مستر هايد يفعل. وعرضت امي الشيك على عمتي وقالت لها: الم اقل لك، سأظفر بالمعطف ايضاً.. ومما يؤسف له ان عمتي كانت لا تزال في بيتنا حين جاء المستر كروبر صاحب المطعم والمخبز في شارعنا وكان ينتفض غضباً ويقول لأمي: هذا الرجل هايد ليس سوى لص.. انظري الى الشيك الذي اعطاني إياه، انه لا قيمة له، هو شيك بلا رصيد، قال لي رجال المصرف انه صرف للناس شيكات مثل هذا الشيك. وهزت عمتي رأسها وكأنها تقول: ألم أنبئكم بحقيقة امره! وسأل كروبر امي قائلاً: لا ريب ان هذا الرجل مدين لكم بمبلغ ضخم، واجالت امي نظرها فينا واستقرت نظرتها على الكتب، ثم سارت الى الموقد والقت الشيك في النار، واجابت المستر كروبر: لا.. لم يكن مديناً لنا بشيء!