للمرة الاولى منذ قيام الدولة العبرية على انقاض الشعب الفلسطيني عام 1948، شُرع علناً وعبر المحكمة العليا الاسرائيلية في جدل يهودي - يهودي عن مصير ملايين الدونمات من اراضي الفلسطينيين التي استولت عليها اسرائيل تحت حجة انها "املاك غائبين" وحولتها "أراضي دولة" في يد ما يسمى "دائرة اراضي اسرائيل". وتفجر الجدل الذي طالما بقي خلف أبواب مغلقة، بعدما اتخذت "دائرة اراضي اسرائيل" قراراً بتحويل اراض زراعية أقامت عليها نخبة من اليهود الغربيين الاشكيناز قرى زراعية تسمى بالعبرية "كيبوتس" أو "موشاف" شكلت نواة الدولة الصهيونية، ارضاً صناعية وتجارية. ورأى اليهود الشرقيون الوافدون من الدول العربية والذين يشكلون غالبية في المجتمع اليهودي، في الأمر خطوة تمهد لبيع هذه الاراضي الى نخبة من المزراعين اليهود الاشكيناز الذين استأجروها من "الدولة" في مقابل مبالغ رمزية منذ الخمسينات. ويأتي قرار"خصخصة"الأرض في وقت تحاول المؤسسة الحاكمة تمليك اليهود اراضي فلسطين التاريخية لاسدال الستار على ملف اللاجئين الفلسطينيين في اطار "حل دائم" تسعى الى التوصل اليه مع السلطة الفلسطينية. وبناءً على التماس تقدمت به مجموعة من اليهود الشرقيين احتجاجاً على"الاجحاف"الذي سيلحق بهم، من جراء الاستمرار في عملية التحويل والخصخصة لما تعتبره اسرائيل "اراضي الدولة"، اصدرت هيئة خاصة من سبعة قضاة، برئاسة القاضي اهاورن باراك، الاثنين الماضي، قراراً يطالب فيه "دائرة اراضي اسرائيل" بتعليل قرارها تمديد مدة تأجير الاراضي من 40- 49 سنة الى 86 - 186 سنة. وهذا يعد من وجهة النظر القانونية بمثابة "تملك". البروفسور الاسرائيلي اورن يفتاحيل، من جامعة بن غوريون، الذي حضر جلسة المحكمة بصفته "شاهداً مختصاً" عن اليهود الشرقيين، أكد ان الجدل الدائر يهودي - يهودي في جوهره، الا ان حقوق اللاجئين الفلسطينيين في الأرض القت بظلالها على الجلسة التي استمرت نحو أربع ساعات وقررت هيئة المحكمة تأجيل اتخاذ قرار حتى اواخر آب اغسطس المقبل. وأبرز ممثلو "دائرة اراضي اسرائيل" والمزارعون الاشكيناز الذين يشكلون نخبة من أكبر المحامين الاسرائيليين وأشهرهم، في مرافعاتهم "كيف انهم حاربوا العرب من اجل التوطن في ارض صهيون وكيف ان ايديهم نزفت دماء، وهم يحرثون الارض لتحقيق حلمهم الصهيوني" في محاولة لاقناع المحكمة بأهمية ابقاء الارض في ايديهم وتحويلها من اراض عامة الى اراض خاصة يملكها اليهود فقط. وتشكل الاراضي، موضع البحث، نحو92 في المئة من اراضي الفلسطينيين ما وراء الخط الاخضر. وقال البروفسور الاسرائيلي أن ما يهدف اليه الملتمسون الى المحكمة، ابقاء الارض "ملكية عامة"، وتوزيعها ديمقراطياً بين مواطني الدولة، كهدف استراتيجي، من دون اعطاء امتيازات لفئة معينة على حساب فئة أخرى. ويشمل ذلك من وجهة نظر البروفسور الشخصية ايجاد حل لقضية اللاجئين الفلسطينيين. وسيطر على هذه ال "كيبوتسات" مزارعون يؤمنون بالحلم الصهيوني الذي كرسه حزب العمل "اليساري"، وهو يقوم على نخبة يهودية غربية حكمت الدولة العبرية منذ قيامها واهملت اليهود الشرقيين الذين تلقفتهم الاحزاب "اليمينية" وعلى رأسها حزب ليكود. وتنبه اليهود الشرقيون الى التحول الجاري في انظمة "دائرة اراضي اسرائيل" وقوانينها، في ضوء تمرير اقتراح في الكنيست الاسرائيلية في الرابع عشر من حزيران يونيو الماضي، بالقراءة التمهيدية، يفتح الباب، اذا ما اقر، امام سن قانون يسمح بخصخصة ثلاثة ارياع الاراضي الفلسطينيةالمحتلة عام 1948 للمرة الاولى في تاريخ الدولة العبرية وطبعاً لليهود فقط. قدم الاقتراح النائبان شالوم سمحون حزب العمل ويسرائيل كاتس ليكود، خصوصاً أن عملية الاستيلاء على اراضي اللاجئين الفلسطينيين تلقى اجماعاً من مختلف الأحزاب الصهيونية الاسرائيلية. واستناداً الى اجراءات الكنيست القانونية، أحيل الاقتراح على لجنة خاصة تحيله بدورها على لجنة الاقتصاد أو لجنة المال التابعتين للكنيست، لتمريره بالقراءات الاولى والثانية والثالثة قبل ان يصبح قانونا. هذا الاقتراح ليس الاول من نوعه. فقد حاول اعضاء كنيست من احزاب عدة، منها العمل وميرتس وشاس والمفدال، تمرير اقتراح مماثل في كانون الثاني يناير 1999، بوضع اقتراح القانون على جدول اعمال لجنة الاقتصاد للتصويت عليه وتحضيره للقراءة الاولى، الا ان معارضة النائبين عزمي بشارة وعبد المالك دهامشة في حينه عضوا اللجنة أدى الى تأجيل بت اقتراح القانون وانتهى موعد نهاية اعمال الكنيست في حينه. وبحسب اقتراح القانون، ستنقل الى ملكية المزارعين اليهود، في مقابل مبالغ رمزية، ملايين الدونمات من الأراضي التي تقدر قيمتها بعشرات بلايين الشيكلات، والتي صودرت من اصحابها العرب في الخمسينات واعتبرت أملاك غائبين، وحولها حارس أملاك الغائبين لاحقاً الى"دائرة اراضي اسرائيل". وبالنسبة إلى اليهود الشرقيين، يعني ذلك ثراء فاحشاً للنخبة الاشكينازية الحاكمة ومزيداً من الفقر المدقع لهم. وبعثت مؤسسة "عدالة" التابعة للمركز القانوني لحقوق القلة العربية في الدولة العبرية، بورقة عمل الى اللجنة الوزارية التي تبحث في حيثيات الاقتراح، تشرح فيها المخاطر والأبعاد والتداعيات لسن مثل هذا القانون الذي يعني عملياً اضفاء صبغة شرعية وقانونية على عملية نهب اراض تعود الى ستة ملايين فلسطيني خمسة ملا يين لاجئ إضافة الى مليون عربي يعيشون في الدولة العبرية. وقال المحامي جميل دكور من المركز المذكور ان "دائرة اراضي اسرائيل" التي وضعت يدها على ما تسميه "اموال غائبين" تعود عملياً إلى اللاجئين الفلسطينيين أو الفلسطينيين الذي بقوا في اراضيهم، تريد تنفيذ مخطط يحول ملكية هذه الاراضي الى ما نسبته ثلاثة في المئة من اليهود الذين استفادوا على مر العقود الماضية من امتيازات منحتها لهم المؤسسة الحاكمة، من دون ان يسهموا فعلاً في بناء اقتصاد الدولة العبرية كما كان مأمولاً. وأضاف دكور ان هذه الاجراءات تستثني، في شكل مفجع، اصحاب الأرض الحقيقيين الذين لا يعرفون، في معظمهم، ما الذي تبيته لأراضيهم المؤسسة الحاكمة، لانشغالهم أساساً في قضايا نهب الأرض المباشرة والواضحة للعيان، مثل شق طريق "عابر اسرائيل"الذي يمهد للاستيلاء على ما تبقى من أراض يحرثونها، وكذلك قضية هدم البيوت التي اصبحت هاجساً يقض مضجع كل عربي في الدولة العبرية. واشار الحقوقي الفلسطيني الذي شارك في اعداد الورقة أن التركيز تم اساساً على حقوق اللاجئين الفلسطينيين في اراضيهم التي استولت عليها اسرائيل. واوضح ان مركزه القانوني ومؤسسات عربية قانونية أخرى تلتزم الحذر الشديد، وقد امتنعت عن التوجه الى المحكمة العليا منذ تمرير الاقتراح في الكنيست بالقراءة الاولى، قبل اسبوعين، بسبب تركيبة هذه المحكمة والايديولوجيا التي تحكم قضاتها، والخوف من ان يستغل اي التماس قانوناً في هذا الشأن لإصدار قوانين ملزمة تستخدمها اسرائيل كسابقة قانونية. وأشار الى أهمية تحرك خارجي يقوم به الفلسطينييون للكشف عما تحاول الدولة العبرية القيام به. وعلى الصعيد نفسه، ارسل الدكتور سلمان ابو ستة مذكرة، في هذا الشأن، توضح خطورة الاجراءات الإسرائيلية على قضية اللاجئين الفلسطينيين وأراضيهم الى جامعة الدول العربية ومستشار الرئيس المصري أسامة الباز ووزير خارجية الأردن عبدالإله الخطيب وعدد من المسؤولين الفلسطينيين. وتتضمن تفاصيل عن مساحات الأراضي التي يمسها القرار والقوانين التي تستخدمها إسرائيل لتمرير مشروعها الهادف إلى بيع اراضي الفلسطينيين الى يهود العالم.