قد لا توازي كوزموبوليتية المنتخب الفرنسي لكرة القدم الذي فاز أول من أمس ببطولة أوروبا وقبلها ببطولة العالم، إلا الكوزموبوليتية التي حصلت في ظلها احتفالات فوز هذا المنتخب في شارع الشانزيليزيه في باريس ليل أول من أمس. هذه الاحتفالات التي شارك فيها مئات الآلاف، لم تكن فرنسية نقية على الاطلاق، فقد رقص للفريق الفرنسي وغنى عشرات الأنواع من الجنسيات والألوان والأعراق، خصوصاً أن للكثيرين من هؤلاء حصصاً في المنتخب، كان احتفالهم في أحد وجوهه احتفالاً بتألق لاعبين من أبناء جنسياتهم أو ألوانهم أو أعراقهم. لم تكن فرنسية المنتخب هذه المرة امارة انتماء قومي أو وطني، وانما كانت هوية واهنة وجامعة في آن، أتاحت لأمم عدة التعاون لتحقيق هذا الفوز. هذا على الأقل ما عكسه اختلاط الاحتفالات والرقصات في الشارع الفرنسي. الشانزيليزيه الذي تقاطرت اليه حشود الشبيبة من باريس وضواحيها عبر خطوط ال"ميترو" المتقاطعة عنده، غيبت الحشود معالمه الأخرى وتحول الى مساحة تضم كتلاً بشرية غير متجانسة في أذواقها، وغايات احتفالها بالفوز، فاختلط الدخان الملون بألوان العلم الفرنسي مع ذلك المنبعث من مواقد اللحم المشوي التي انتشرت بكثافة، بعدما أفسح اقفال المطاعم في تلك الليلة لبائعيها بالاسترزاق. وشهد الشانزيليزيه ليلة الأحد - الاثنين لحظات اندماج ساهم الفرح بالفوز بنجاحها، كأن تدخل سيدة فرنسية شقراء الى حلقة رقص افريقية، أو ان يحمل طلاب مغاربة لافتة تهنئة للفرنسيين يطالبونهم فيها بدعم جهود بلادهم لاستضافة مونديال 2006، أما الأعلام فلم يكن الفرنسي وحده علم الفوز، فكانت الى جانبه أعلام الجزائر والمغرب، وبعض الأعلام الأوروبية الأخرى. لكن الشارع شهد أيضاً بعض مظاهر فشل اندماج هؤلاء الاخلاط، أو على الأقل تحول الى مرآة تعكس تعقد وتنابذ عناصر تلك الهوية الواهنة والجامعة التي كان المنتخب الفرنسي عينة صغيرة منها. فمن أتيحت له فرصة أن يستقل ال"ميترو" متجهاً الى الشانزيليزيه بصحبة المشجعين الجزائريين للمنتخب الفرنسي، شهد بعينه هذه المرة ذلك العنف الذي يولده تضافر هامشية هؤلاء الشبيبة في ضواحي العاصمة مع مشاكل الاندماج واللغة والهوية، والذي يتحول بسهولة الى طاقة تدميرية لا وجهة لها. فراح هؤلاء وفي لحظات الانتقال من الضواحي الى الشانزيليزيه، يضربون أيديهم بقوة على نوافذ الميترو، وأضوائه التي تحطم معظمها، وفي محطات توقف ال"ميترو" كانوا ينزلون لثوان قليلة من الأبواب باحثين عن مشجعين من نوع آخر للمنتخب، وكان العلم الجزائري بين أيديهم علامة تحد للمجموعات الأخرى، في حين دلت هتافاتهم على مضامين احتفالهم بفوز "زيزو" زين الدين زيدان. ففي لحظات احتدام المشاعر وصعودها كان الهتاف المفضل لهؤلاء المشجعين، عبارة: "نحن الأقوى" مترافقة مع تلويح بالعلم الجزائري و"يحيا الأجانب". وشبيبة الضواحي هؤلاء مرشحون لأن يتحولوا الى هوليغانز فرنسا، لا سيما أن شروط الهوليغانزية متوافرة فيهم مضافاً اليها عناصر جديدة، خصوصاً أن الفوز الثاني بدأ يحول كرة القدم في فرنسا الى مناسبة لانكشاف التفاوتات التي يسببها ذلك الاختلاط الكثيف الذي تعيشه المجتمعات الأوروبية. ولا يخلو المشهد في الشانزيليزيه من مظاهر الحاجة الفرنسية الى الصفاء العرقي، فتلك مجموعات صغيرة دهن أفرادها شعورهم بألوان العلم الفرنسي وراحوا يواجهون المجموعات الهاتفة لزيدان، بهتافات تؤكد "فرنسية" الفوز وضآلة مشاركة هذا الأخير في المباريات النهائية. وكان استنفار الشرطة الفرنسية ووقوف عناصرها متأهبين في وجه المحتفلين المحتقنين يمتص التوتر بين المجموعات ويحوله الى توتر بينها وبين الشرطة، فحاصرت هذه المجموعات عدداً من عناصر الشرطة وراحت تقذفها بالحجارة والزجاج وتهتف ضد الشرطة، في حين راح العناصر يتراجعون من دون أدنى ردة فعل. كان الفوز الفرنسي فوزاً صعباً، حُرمت خلاله مجموعات كثيرة من المحتفلين في الشانزيليزيه من اشهار تفوق ممثليها داخل المنتخب، فظهر أن الفرح بالفوز غير مبرر ما لم يكن مبعثه فرنسياً، ولكن ظهر أيضاً ان على فرنسا أن تعترف بألوانها الجديدة.