لا يهم الكاتب العراقي عبدالرحمن مجيد الربيعي في كتابه "فصول من كتاب الحب التونسي" سوى ان يقول الوقائع والاحداث والافكار، ويعكس رؤيته المباشرة في كثير من القضايا، اما الشعر فيأتي في الدرجة الثانية في الاهمية، ويأخذ شكلاً تطعيمياً لقوله الذي يظل ضمن ماهيته كقول فقط. منذ الصفحة الاولى تتضح الوظيفة التي يتوخاها الكاتب للشعر اذ يهدي كتابه الى "العراق الجرح"، "تونس الملاذ"، "لبنان الحنين"، ومن خلال عنواني فصلي الكتاب "الاصحاح الاول: نصوص اللهفة والعشق"، و"الاصحاح الثاني: نصوص الخراب والخذلان" يمكن استكشاف المناخات التي تناولتها المقاطع، والتي هي في حقيقتها مواضيع، وكلّ مقطع يختص بموضوع معين. لا يتخصص القول الذي يكتبه الربيعي قصصياً، كما انه لا يتخصص شعرياً، بخلاف الكلمة التقريظية المكتوبة على الغلاف الاخير والتي تنسب الى قصائده سمات جمالية تجعلها تحتضن "اساليب السرد والرسم" معاً وتجمع "الوان اللوحة وحركة الرواية". يكتب الربيعي كمن يلقي خطاباً. والخطابية التي تطغى على كل كتابه لا تتحدد فقط في الموضوعات والمناخات السياسية والعاطفية، بل تتبدى ايضاً من خلال طبيعة اشتغاله اللغوي، فضلاً عن "الاجهزة" البلاغية والبيانية التي ينهض عليها قوله الذي لا يغادر الانشاء والتقرير والاخبار، فهو يتسم بنبرة عالية مصحوبة بجلجلة لفظية، تنقل القارئ بقوة الى معاناته وليس الى الشعر الذي يظل في خلفية اهتمامه. فهو لا يحرص على صوغ القول شعرياً او شعرنة السرد الذي نلحظه احياناً، بل تحميله همومه وشواغله العاطفية المباشرة من هنا نجد ان معظم المقاطع امتلأت بالاستطرادات المجانية المبنية على تصعيد نفسي، الهدف منه التبليغ. "اطلق صوتي الملتاع: مها / فيرد جسر الرصافة: مها / وترد اسواق تونس العتيقة: مها / ويأتيني صوتك من زخم القرون عيون المها... عيون المها / اتنفسه واستنجد بنداء: مها / فأين المها؟ / واين مها؟ / اين قبل اودعتها / فوق كف مها؟ / رشفتها من مسام مها...". يحفل الكتاب باسماء المدن والشوارع والاماكن الاثرية التي مر بها الكاتب وهو - هنا - يسعى الى رصفها بعضها فوق بعض داخل النصوص في شكل يجعل المقاطع اشبه بسجل يحتوي على قوائم الامكنة السياحية. والربيعي في تسجيله هذه الاسماء، لا يهتم بنقلها من موقعيتها الزمنية الطبيعية الى موقعية شعرية، ولا يسعى الى القبض على الكثافات النفسية او الشعورية لعلاقة الذات مع المكان، ومحوّلاً الجغرافيا الطبيعية الى جغرافيا داخلية تحيل على مكابدات المنفى وشجونه. فالفعل اللغوي للكاتب لا يتجاوز السرد الاحصائي الاستعراضي او هذا ما جعل القول ينهض على الاحصاء "اعانق في محياك كبرياء البحر الابيض المتوسط / واعيش هيبة الصلاة في مسجد عقبة بن نافع / واعرف لذة التطواف في "واحة شنني" / والوقوف بانشداه امام فتنة شطآن سوسة / والتيه وراء البياض والزرقة في سيدي بو سعيد / ومعك اتجول في اسواق "القصبة" / واشرب الشاي قرب ضريح "المرابط"... الخ". وعلاوة على امتلاء النصوص باسماء الامكنة فهي غصت بالاسماء التاريخية القديمة، شخوصاً وامكنة، وقد استلها الكاتب من التاريخين العراقيوالتونسي بحسب تعبيره. وهي تتوزع على التاريخ العربي، السيرة الشعبية، الاساطير وتبدأ ب"لبنى وعزّة وليلى وعليّة وشمشون وجلجامش مروراً بشهريار وشهرزاد وابن خلدون، وبني هلال، ولا تنتهي الا عند الكوفيين والبصريين وابن الجهم". وما يميز اغراق الكاتب نصوصه بهذا الحشد الاضافي من الاسماء، ورودها في سياقاتها التاريخية والاسطورية نفسها، وعدم اخذها اي سياقات اخرى. وهي تظل تتبدى داخل النصوص مهلهلة وفضفاضة على القول. يرصف الكاتب الكلام العادي، ويوزعه على مقاطع يعطيها ارقاماً، محاولاً صوغ جمل شعرية خاطفة، مكثفة، مقتضبته. ولكن ما يصل اليه بعد جهد كثيف، هو شيء آخر تماماً فالمقاطع المرقمة لا تغادر ما هو بديهي، عادي، على رغم لعبه على كثير من الافكار واعتماده كليّاً اساليب بلاغية ترتكز عليها القصيدة العمودية كالجناس والطباق والمقابلة في كثير من الاحيان، او ذهابه نحو تجريب لغوي بسيط اجتره مراراً: "انت امرأة مرتبكة / فكيف ادمنتك"، "هل ليلة القتلة / مثل ليلة الضحايا"، "متى اولد / ليكون لي اسم"، "من فينا الطريدة / ومن فينا الصياد"، "خصوم الكبار إن لم يكونوا كباراً / تصبح المعركة غير متكافئة". واذا كان الكاتب يتوسل كتابة "فصول من كتاب الحب التونسي" فإننا لو بحثنا ومحصنا في الكتاب، فإننا لن نجد قصيدة حب واحدة، بل اوصافاً غزلية تتبدى من خلال قول ينهض في بناه ومستوياته التخييلية على علاقات استعارية مستهلكة ومستنفدة تنتسب ليس الى القصيدة العربية الكلاسيكية الجديدة فحسب بل تجد مرجعيته لها في شعر العصر "الجاهلي" وقد اجترها مئات الشعراء، واقلعوا عنها منذ قرون عدة. فصورة المرأة التي تطلق السهام وتردي الرجل قتيلاً تتكرر عشرات المرات في الكتاب "سهم في القلب / صليل في الذاكرة / هكذا صرت"، "اضحكي ولتتهاطل علي السهام"، "مقتول بك لا بسهمك"، "سهمك المسدد / لم يقطع شرياناً مني"، "سهمك لن انتزعه من احشائي". وتتكرر صورة المرأة في وصفها بحارةً تجوب "امواج القلب" وعيناها اشبه بالبحر "لا يخاف الغرق في لجة البحر / لكنه يخاف الغرق في مدّ عينيك". اما شعرها فهو "شلال". تظهر المرأة في الكتاب ايضاً في وصفها رمزاً يضم البلدان العربية جميعاً بأنهارها ومناظرها ومساجدها. فهي تمثل "زهو جنائن بابل المعلقة" و"غرناطة الحلم" او "فراتاً او نيلاً / عاصياً او بردى". ان طبيعة الاشتغال الشعري التي يتنكبها الكاتب هنا ومقاربته المرأة في وصفها ارضاً ووطناً تمثل عودة قسرية الى كتابة عافها معظم شعراء المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وذهبوا نحو كتابة قصيدة تقترب من المرأة في وصفها كائناً حياً من لحم ودم. يعود الكاتب الى الوراء وحيداً، نحو مكان غادره الشعراء نحو فضاءات اكثر اقتراباً من العوالم الداخلية والروحية للذات متخلصين من الافكار المفاهيمية الكبرى عن الحرية والارض والثورة والنضال والانتصار، التي كانوا يرمّزونها بالمرأة. تلك الافكار تضع الشعر في مرتبة دنيا وتحرّفه نحو اداء مهمة ووظيفة غير شعريتين. وما يلفت الانتباه في المقاطع هو تبدي الأنا داخل النصوص في وصفها انا ذكورية متضخمة، منتفخة، متشنجة، ودخولها في حرب مع الذات الانثوية، فالكاتب يغدق عدداً كبيراً من الصفات على المرأة تحط من قدرها وانسانيتها، وتنزلها منزلة دنيا ما جعل المرأة داخل النصوص في كثير من الاحيان الى محلّ قدح وذم واستهجان، فراحت تتلقى نسقاً هائلاً من الاوامر والضربات الذكورية العمياء: "الفرق بيني وبينك / انك تمشين على يديك / اما انا / فأمشي على قدمي"، "ها انت جرح لم يضمد / وضلع مكسور / وانامل يسكنها الشلل". وتتكرر ايضاً صورة المرأة في وصفها سلطة والكاتب يقوم بانقلاب عليها: "ممكن جداً ان اقوم بانقلاب عليك / وازيحك عن عرش قلبي / ألست عراقياً" واذا كان الشعر التحريضي من اختصاص الشعراء العموديين والتفعيليين، فان الربيعي ينقله الى النثر، وقد خصص كثيراً من المقطوعات للوقائع السياسية. والسياسي في هذه المقاطع لا يظهر من خلال المناخ فحسب بل يتكشف عبر القاموس اللغوي السياسي: "حرب تحرير شعبية، انقلاب، الحرية، اليعربي، الزمن الاميركي، الحرب، معارك، خندق، الاغتيال، منفيون، لاجئون... الخ. لا يسعى الربيعي الى اجتراح مناخات سياسية تنبثق من العملية الشعرية بل يرغب في رواية الاحداث رواية فجة، مباشرة: "انبثقي مثل الثأر في عيون اطفال "العامرية" / سأسامرك حتى موتي / انا نصف الحي / نصف الميت / من تلاقى بصدر عار مع طائرات الشبح / وقارع اطناناً من الحقد...". لا يتموضع القول الذي يتوسله الربيعي ضمن القصيدة النثرية، ولا ضمن الشعر المنثور بل يجد انعكاساً له في النثر النثري. يظهر ذلك من خلال سياقات القول وبناه الجمالية والتعبيرية كافة التي تعتمد مع الاخبار والوصف والانشاء. وهذا ما يخرجه حتى من المحاولات النثرية الاولى في الشعر العربي. فقوله يسوده فقر في مستوياته كافة سواء التخييلية او البلاغية او التركيبية، وهو يسرد او يروي ويلقي افكاره عبر منظار يحيل على رؤية قشرية للعالم والاشياء، ويتسم بانفعالية مباشرة ادخلت القول ضمن نطاق النثر وفي احيان قليلة قريته من الشعر المنثور. ولو بحثنا عن الحضور التونسي في الكتاب نجد ان تونس لا تظهر الا من خلال الاسماء التي يعددها الكاتب تتابعاً، في شكل سردي مقدماً رواية كلاسيكية عن الخارج. يطرح كتاب "فصول من كتاب الحب التونسي" بؤس الشعر حين يتحول ذراعاً لنقل السياسي، وكتابة المغامرة الحياتية مباشرة، ما يجعله يؤدي اغراضاً ووظائف غير شعرية، وبؤس ما يكتبه روائيون ونقاد عرب يطلعون على القارئ باعمال شعرية نثرية ظانين ان تحرير نصوصهم من الايقاع وحده يكفي لكتابة قصيدة نثرية. * صدر الكتاب عن "الحركة الشعرية"، المكسيك 2000، وضمّ رسوماً للمؤلف