«الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    رئيسة (WAIPA): رؤية 2030 نموذج يحتذى لتحقيق التنمية    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    إسماعيل رشيد: صوت أصيل يودّع الحياة    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    ألوان الطيف    ضاحية بيروت.. دمار شامل    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نقاط شائكة تعصف بهدنة إسرائيل وحزب الله    أهمية قواعد البيانات في البحث الأكاديمي والمعلومات المالية    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    تطوير الموظفين.. دور من ؟    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي    قصر بعظام الإبل في حوراء أملج    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    صورة العام 2024!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    وزير الخارجية يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لوقف النار في غزة ولبنان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الأهل والأقارب أولاً    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تنتهي بإضراب عمالي ومحاولة اغتيال وحل "الإخوان" 3 من 12
نشر في الحياة يوم 25 - 07 - 2000

تنشر "الحياة" مذكرات عبدالمحسن أبو النور أيام الثلاثاء والأربعاء والسبت والأحد من كل أسبوع.
... وفي مساء يوم 24 فبراير شباط 1954 طلبني جمال عبدالناصر لمقابلته في مبنى مجلس قيادة الثورة في الجزيرة، وقال لي إن نجيب مصرّ على أن يكون له الكلمة الأولى في مجلس قيادة الثورة، وأنه إذا اعترض على قرارات المجلس لا تنفذ. وقال إنه على صلة بالإخوان وينقل إليهم أنه لم يكن موافقاً على حل جماعتهم، مع أنه كان من الموافقين على ذلك.
كما أن محمد رياض ياوره الخاص يعمل كهمزة وصل بينه وبين الوفديين، وأنهم هم الذين يزيدون الهوة التي بينه وبين أعضاء مجلس الثورة اتساعاً ...، والمجلس ليس أمامه إلا حلاّن: إما الموافقة على طلبات محمد نجيب، واعتباره المسيطر على جميع الأمور مع الأخذ في الاعتبار علاقته بالإخوان والوفديين، وفي هذه الحال نستقيل جميعاً كأعضاء مجلس قيادة الثورة ونترك له الأمور، وإما قبول استقالته.
نجيب... الشعبي ونصف السوداني
وناقشنا معاً الأمر، ووضح أن الوصول مع محمد نجيب الى حل أو اتفاق مقبول أصبح مستحيلاً، وأن محمد نجيب تعمد تقديم استقالته في ذلك الوقت لكي يضع مجلس قيادة الثورة في موقف حرج إذ ليس من السهل التضحية بمحمد نجيب لسببين اثنين هما:
1- إن محمد نجيب قائد الثورة، وإن أجهزة الإعلام والدولة أظهرت محمد نجيب القائد للثورة ... ما جعله فعلاً بطلاً جماهيرياً من الصعب على الجماهير أن تقبل خروجه من الحكم ....
2- إنه كان قد تقرر سفر محمد نجيب ممثلاً للثورة المصرية الى السودان وتحدد موعد السفر فعلاً بعد ثلاثة أيام من تقديمه استقالته. وكانت وسائل الإعلام ألمحت الى أن محمد نجيب من أم سودانية، ومعنى هذا أنه نصف سوداني وأن وجوده على رأس الحكم في مصر، إنما هو أصدق تعبير عن الوحدة المصرية السودانية ....
واجتمعنا في القيادة العامة للقوات المسلحة، وكنا مجموعة من "الضباط الأحرار"، أذكر منهم صلاح نصر وسعد زايد وطلعت خيري وعماد رشدي وأبو اليسر الأنصاري وعباس رضوان وعلي صبري. وبعد مناقشة طويلة استقر الرأي على أن الثورة يجب أن تستمر ولو اقتضى الأمر قبول استقالة محمد نجيب على رغم ما فيها من مخاطر ومحاذير. واتفقنا على الترتيبات اللازم اتخاذها. وفي ساعة متأخرة من الليل اتصل بنا جمال عبدالناصر وقال إن المجلس قرر قبول استقالة محمد نجيب. ثم طلب مني باعتباري قائد الحرس الجمهوري، منع خروج محمد نجيب من منزله وقطع اتصال أي شخص به، لأننا نتوقع رد فعل شديداً عند إعلان استقالته. ... وقلت: يجب رفع الحرس الجمهوري من حراسة منزل محمد نجيب، وإحلال وحدة أخرى من الجيش محله، لأن أفراد الحرس، مثل باقي أفراد الشعب متعلقون به، ويحبونه، ومن الصعب أن يكونوا حراساً عليه بين يوم وليلة بدلاً من أن يكونوا حراساً له. ....
الأحزاب وسلاح الفرسان
ضد استقالة نجيب
... وفي الحقيقة لم يكن أمر قبول استقالة محمد نجيب أمراً سهلاً أو يسيراً. فمنذ قيام الثورة لم يعرف الشعب أو الضباط إلا محمد نجيب .... وبعد أن أصبح ملء السمع والبصر يفاجأ الشعب بقبول استقالته وإبعاده من مجلس قيادة الثورة، ولذلك جاء رد الفعل الشعبي، الذي أيدته جماعة الإخوان المسلمين، شديداً ضد هذا القرار فقام بتظاهرات عدة تهتف لمحمد نجيب. كما أن سلاح الفرسان لم يتمكن حسين الشافعي من إقناعة. فذهب عبدالناصر إليهم، فقابلوه بمعارضة شديدة. وصمموا على عودة محمد نجيب وعودة الحياة النيابية، وظلوا مجتمعين طالبين الموافقة على طلباتهم. واجتمع مجلس الثورة يناقش ذلك واستقر رأيهم على الآتي:
أولاً: عودة محمد نجيب،
ثانياً: يقوم خالد محيي الدين بتشكيل الوزارة،
ثالثاً: عودة الحياة النيابية،
رابعاً: استقالة مجلس قيادة الثورة.
وأعلنوا ذلك للمجتمعين في سلاح الفرسان. ولكن في الوقت الذي كان مجلس الثورة يدرس موقف سلاح الفرسان اجتمع باقي "الضباط الأحرار" من مختلف أسلحة الجيش ومنهم سعد زايد وطلعت خيري وعماد رشدي وأبو اليسر الأنصاري عن المدفعية ومحمد السيد وعبدالمحسن أبو النور وحمدي عبيد وصلاح بدر وعبدالحليم عبدالعال عن المشاة، ووحيد رمضان عن تنظيم الشباب في التحرير ووجيه أباظة وعلي صبري عن الطيران ومجدي حسنين عن خدمة الجيش، وأحمد طعيمة والطحاوي عن هيئة التحرير، وأحمد أنور عن الشرطة العسكرية، وكمال رفعت وصلاح نصر وعباس رضوان وحسن التهامي وشمس بدران عن القيادة العامة، وحلمي السعيد عن المهندسين وآخرون لا أتذكرهم الآن، وتدارسوا الأمر، وقرروا عدم قبول مطالب سلاح الفرسان والتصدي له. واتفقوا على الإجراءات التي تتخذ إذا ما قبل مجلس قيادة الثورة مطالب سلاح الفرسان، وتخلى عن مسؤوليته. وتتمثل هذه الإجراءات في أن تقوم كتيبة 13 ومعسكرها منشية البكري، وكتيبة 12 مشاة ومعسكرها في العباسية، ومعهما وحدات من المدفعية المضادة للدبابات، بمحاصرة معسكر سلاح الفرسان من جميع الاتجاهات كما تقوم مدفعية الميدان بفتح مركزها في ألماظة، وتصويب مدافعها الى معسكر سلاح الفرسان، ويستعد سلاح الطيران للتحليق فوق معسكر سلاح الفرسان مع أول ضوء ويكون جاهزاً لقصف معسكر سلاح الفرسان إذا حاولوا التحرك لنصرة محمد نجيب.
وقبل فجر هذا اليوم، خرج أعضاء مجلس الثورة ليعلنوا قرارهم للضباط المجتمعين بموافقتهم على مطلاب سلاح الفرسان. وذهب خالد محيي الدين ليبلغ ذلك لمحمد نجيب... ولكن "الضباط الأحرار" الذين كانوا مجتمعين بالقيادة رفضوا القرار. وحدثت مشادات كثيرة بين أعضاء مجلس الثورة وبيننا. فأعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا يريدون الحؤول دون وقوع تصادم بين قوات الجيش ينتج منه مذبحة لا يرضون عنها. ونحن الممثلين لباقي أسلحة الجيش لا يمكن أن نقبل أن يفرض علينا سلاح الفرسان رأيه أو أن تتخلى الثورة عن أهدافها التي قامت من أجلها. وفي الوقت الذي ذهب خالد محيي الدين ومعه عباس رضوان وشمس بدران الى محمد نجيب، تحركت الوحدات التي أشرت إليها، وحاصرت فعلاً سلاح الفرسان، واستعدت المدفعية الميدانية للقصف.
وعندما عاد خالد محيي الدين من مقابلة محمد نجيب، وعرفنا أن محمد نجيب وافق على تخلي مجلس الثورة عن مهامه، كان سلاح الفرسان تمت محاصرته، في فجر يوم 27 فبراير. وفي هذه الأثناء كان أحد الجنود يعمر أحد المدافع المضادة للدبابات عند طريق الخليفة المأمون، فخرجت طلقة منه عفواً تجاه سلاح الفرسان ثم حلقت الطائرات فوق سلاح الفرسان مهددة بقصفه. عندئذ عاد أعضاء مجلس قيادة الثورة، وتماسكوا وأعادوا النظر في قرارهم، وطلبوا من خالد محيي الدين أن يذهب الى سلاح الفرسان، ويطلب منهم التسليم وقبول بقاء مجلس الثورة، على أن يتم ذلك قبل الساعة الثامنة صباحاً، وإلا سيكونون مسؤولين عما يحدث. وحاول بعض الضباط الموجودين بالقيادة الاعتداء على خالد محيي الدين، ومنهم وحيد جودة رمضان، ولكني ومجموعة من الضباط الموجودين منعنا ذلك.
وذهب خالد فعلاً الى سلاح الفرسان، وقابل القيادات المعارضة، وعاد وأبلغنا قبول سلاح الفرسان مطالبنا، وكان هذا موقفاً وطنياً منه. وبذلك انتهت أخطر أزمة في تاريخ الثورة وتاريخ الجيش.
وبعد ان اطمأن مجلس الثورة الى وقوف الجيش خلفه، وحتى تتفادى الثورة غضب الجماهير ولا تتأثر العلاقة بيننا وبين السودان ... قرر مجلس الثورة عدم قبول استقالة محمد نجيب. وقامت تظاهرات تأييد لمحمد نجيب دبرها الإخوان المسلمون، والوفديون والشيوعيون. وعاد محمد نجيب، ولكنه عرف أن الجيش لا يسانده في موقفه، وأخذ في الاستعداد للسفر الى السودان. وسافر محمد نجيب الى السودان. وهناك حدثت مذبحة وتظاهرات مضادة لمصر ولمحمد نجيب دبرها حزب الأمة ....
وعاد نجيب الى مصر وجماهير الشعب تهتف له وتناصره. فبعد سنة من تمجيد الإعلام المصري له لم يكن معقولاً أن ينقلب الشعب عليه بين يوم وليلة من دون مبرر قوي. ولكن أعضاء مجلس قيادة الثورة أرادوا أن يحتووا الموقف، ويحافظوا على وحدة الجيش، وألا يصدموا جماهير الشعب في رمز الثورة. فاتفقوا مع محمد نجيب على حل وسط. فأصدر محمد نجيب بياناً قال فيه إن خلافاته مع مجلس الثورة تمت تسويتها، وأصدر المجلس قرارات 5 مارس آذار وانتخب لجنة تقوم بإقرار دستور جديد للبلاد، بموجبه يعاد تشكيل الأحزاب، ويكون لمجلس الثورة سلطة السيادة. ولكن محمد نجيب، بدافع من الإخوان المسلمين عاد ليطلب ألا ينفذ أي قرار لمجلس الثورة أو لمجلس الوزراء إلا إذا وافق عليه هو. وهذا هو مطلبه القديم. بل زاد عليه أن يكون له الحق في تعيين قيادات الجيش حتى رتبة قادة الكتائب.
وبعد اجتماعات مطولة، عاد الوضع الى ما كان عليه... محمد نجيب رئيساً للجمهورية، ورئيساً لمجلس الثورة، ومجلس الوزراء حتى يتم إقرار الدستور الجديد وتشكيل الأحزاب، وتم إلغاء الرقابة على الصحف.
وفي حوالى يوم 15مارس، على ما ذكر، فوجئت بعبدالناصر يبحث عني. وحضرت إليه في القيادة العامة للقوات المسلحة، فوجدته يطلب مني الاستعداد لرئاسة محكمة عسكرية لمحاكمة أحمد أبو الفتح لأنه كان يقود حملة ضارية في الصحافة ضد الثورة ومجلس الثورة وضباط الجيش، ويطالب بمحاكمتهم، ما أثار ضباط الجيش وجعلهم يوجهون اللوم لمجلس الثورة على ترك هذا الهجوم الضاري على الضباط. ولكن أمكنني أن أقنعه أن هذا سيكون له تأثير شديد في ثروت عكاشة، باعتباره زوج شقيقة أبو الفتح، وأن هذا ليس هو الحل لوقف هجوم الصحافة والأحزاب القديمة، بل إن الحل هو عودة مجلس الثورة ليمارس اختصاصاته، كما كان قبل الأزمات التي افتعلها محمد نجيب، وبصرف النظر عن محاكمة أحمد أبو الفتح لا بد من أن نعترف بأنه إذا استمر الشد والجذب بين محمد نجيب ومجلس الثورة فإنه سيثير بلبلة كبيرة وسط الجيش ووسط الشعب.
وبمجرد إلغاء الرقابة على الصحف، يوم 6 مارس 1954، خرجت بعض الصحف، وخصوصاً جريدة "المصري" مطالبة بإنهاء حكم الجيش وعودته الى الثكنات. وطالبت بوزارة مدنية لا يشترك فيها الضباط، ثم أخذت في مهاجمة ضباط الجيش عموماً، واتهمتهم باستغلال النفوذ، ما أثار غضب الجيش وزاد ضباطه ارتباطاً بعبدالناصر، وخصوصاً بعد أن اتضح لهم تواطؤ محمد نجيب مع الأحزاب.
جبهتا الحرب السياسية
وزاد محمد نجيب في مطالبه. فاشترط أن تتم ترقية الضباط بقرار جمهوري، وأن يكون له الحق في تعيين الملحقين العسكريين، وفي الاعتراض على قرارات مجلس قيادة الثورة أو مجلس الوزراء. وأراد أن يتم استفتاء شعبي عليه كرئيس جمهورية، فلا يستطيع مجلس الثورة إقصاؤه. وبدأ الصراع يشتد والثورة لم تحقق شيئاً يذكر من مبادئها الستة، وخصوصاً مبدأ الجلاء الإنكليزي عن مصر. والجدير بالذكر، والذي لا يمكن أن يذهب من ذاكرتي، أنه في الاجتماع الحاشد لضباط الجيش في نادي الضباط يوم 4 مارس 1954 دعا محمد نجيب ضباط الجيش الى ترك السياسة للمدنيين. وهنا ظهر التباين جلياً حين وقف جمال عبدالناصر في نفس الاجتماع، وقال: "لقد أشاع المغرضون أن وحدتنا قد تفككت وخرجت الرجعية من جحورها يساندها الاستعمار الذي ما زال أيضاً على أرض مصر وأخذوا يتهمون الثورة بالزور والبهتان، وقالوا إن الثورة تصفي أعمالها، ولكنني أقول إن الثورة مستمرة في طريقها بقوة وشجاعة، وأن هذه الثورة ممثلة فيكم يا رجال الجيش حيث انكم تؤمنون بمبادئها التي هي مبادئ هذا الشعب، وأنكم تحسون بآلامها، فأنتم نبضها وإننا نسير في طريقنا لتحقيق هذه الأهداف بكل قوة وشجاعة، وإننا الآن أقوى مما كنا عليه في الماضي".
وبدأت الأمور تسير في طريقها، كما بدأ الإعداد للدستور الجديد. وجرت مناقشة تشكيل حزب يمثل الجيش وأهدافه وكان خالد محيي الدين ويوسف منصور صديق من أشد المتحمسين لهذا الاتجاه. ولكن يوسف صديق كان رأيه عودة البرلمان الوفدي وتأليف وزارة ائتلافية تضم الوفد والإخوان والشيوعيين. وقد أعلن في الصحف أن الجيش سيقوم بتشكيل حزب يتبنى مبادئ الثورة. وقام محمد نجيب في اليوم التالي وأعلن عدم صحة ذلك. وفي الوقت نفسه خرجت "المصري" تهاجم تشكيل هذا الحزب وتطالب بعودة الأحزاب القديمة. وفي هذا الجو بدأت بعض الصحف تهاجم الثورة وتظهر التباين في الرأي بين محمد نجيب من جهة، وأعضاء مجلس الثورة من جهة أخرى، وبدأ بعض الضباط من ذوي الرتب الكبيرة من غير "الضباط الأحرار" مثل البكباشي عبدالحميد لطفي يضمون إليهم قلة من "الضباط الأحرار" الذين كانوا يطمعون في تحقيق أهداف شخصية لهم، وينادون بما نادى به محمد نجيب مثل عودة الضباط الى الثكنات ....
وإزاء هذه الموجة العارمة من الهجوم على الثورة أصدر عبدالناصر في مجلس الوزراء ومجلس الثورة قرارات 25 مارس وهي تقضي:
1 - بالسماح بالأحزاب،
2 - وبألا يؤلف مجلس الثورة حزباً،
3 - وبحل مجلس الثورة يوم 24 يوليو تموز 1954،
4 - ولا حرمان لأحد من الحقوق السياسية،
5 - وبانتخاب جمعية تأسيسية تقوم بسلطة المجلس النيابي وتنتخب رئيس الجمهورية.
وكان عبدالناصر ومعه الغالبية العظمى من أعضاء المجلس بل والغالبية العظمى من ضباط الجيش، يؤمن بأن الثورة لا بد من أن تستمر لتحقيق أهدافها. ... ومن هنا بدأ عبدالناصر يناور لكي يتجاوز الأحداث التي تمخضت عنها أزمة الصراع مع نجيب والقوى المعادية للثورة. وجاء وقت أصبح فيه التخلص من محمد نجيب واجباً وطنياً باعتباره السبب في كل ما جرى... فخطط عبدالناصر أولاً للتخلص من الضباط الذين أظهروا تعاطفهم مع الأحزاب ومنهم قائم مقام أحمد شوقي ...، - وثانياً لتفريق كتلة الأحزاب القديمة التي توحدت ضد الثورة، فبدأ بالإفراج عن الإخوان المسلمين، بل وذهب بنفسه الى منزل حسن الهضيبي ليزيل كل أثر في نفسه تجاه عبدالناصر واتفق معه على عودة الإخوان المسلمين وفعلاً صدر قرار بعودة الإخوان المسلمين لنشاطهم، وبدأ الإخوان يعملون ضد باقي الأحزاب، ويهاجمونها علناً وخصوصاً الوفد والشيوعيين. - وخطط ثالثاً لاستمرار مجلس الثورة وإنهاء وضع محمد نجيب. وكان محمد نجيب ظن أن كفته الراجحة، وأنه في سبيله للقضاء على مجلس الثورة. وكان ذهب أحمد الصاوي، رئيس اتحاد نقابات النقل، الى أحمد طعيمة، مسؤول النقابات في هيئة التحرير، وأخطره أن يوسف منصور صديق اتصل به لكي تقوم نقابات العمال بتظاهرات لإعادة الأحزاب، ومعنى هذا تأييد محمد نجيب وإنهاء الثورة، وقام طعيمة بزيارة عبدالناصر، وأخطره بما حدث، وقال له إنه يمكنه الاتفاق مع العمال على القيام بتظاهرات تأييد لمجلس الثورة، واستمرار الثورة لتحقيق أهدافها، ولم يعطه عبدالناصر رأياً لا بالموافقة ولا المعارضة. وقد قام أحمد طعيمة، على مسؤوليته، باجتماع مع رؤساء نقابات العمال يوم الجمعة 26 مارس 1954 وأمكنه إقناعهم بخطورة تخلي الثورة عن الحكم وضرره على العمال وعلى مصر. وتم الاتفاق على قيام عمال النقل المشترك بالاضراب والاعتصام حتى تجاب مطالبهم، وأهمها اثنان:
1- استمرار مجلس الثورة بالقيام بواجباته التي قامت من أجلها الثورة..
2- رفض عودة الأحزاب.
وفي صباح يوم 27 مارس توقفت جميع وسائل المواصلات في مصر، حتى السكك الحديد. وتحرك "الضباط الأحرار" وسيطروا على الموقف داخل الجيش وأقنعوا ضباط الجيش بضرورة استمرار الثورة فأصبح الجيش كله خلف عبدالناصر. أما الضباط الذين كانوا يناصرون محمد نجيب وأغلبهم من سلاح الفرسان فتم اعتقالهم ومحاكمتهم لما قاموا به من تصرفات يسألون عنها، كما تم إيفاد خالد محيي الدين خارج البلاد واستبعاده من مجلس الثورة. وبعد أن انقلبت الآية أصبح محمد نجيب في موقف الضعف. وبعد ذلك اجتمع مجلس الثورة وأصدر قراراً بإرجاء تنفيذ قرارات 25 مارس. وبذلك انتهى الإضراب الذي قام به العمال. وكان مجمد نجيب بالاسكندرية برفقة الملك سعود الذي كان في زيارة لمصر. وكان مقرراً عودتهما بالقطار. ولما انقطعت المواصلات عاد نجيب مع الملك سعود بالطائرة. ولما أصبح محمد نجيب في موقف ضعيف، خشي على نفسه، وطلب من الملك سعود السفر معه الى السعودية، ولما حضر عبدالناصر الى قصر القبة لتحية اللك سعود، وجد لديه محمد نجيب. وحاول الملك سعود أن يصلح بينهم، وانتهى الأمر باستمرار نجيب في منصب رئيس مجلس الثورة ورئيس الجمهورية، بينما تولى عبدالناصر رئاسة الوزارة. واستمر المجلس بوضعه الجديد متخذاً طريقه بعد أخطر أزمة قابلته حتى وصل الى اتفاقية الجلاء مع الإنكليز في 19 اكتوبر تشرين الأول 1954.
وبذلك حققت الثورة أحد أهدافها الأساسية التي ناضلت مصر في سبيل تحقيقها مدة 70 عاماً. وفي اجتماع شعبي في المنشية بالاسكندرية لشرح اتفاقية الجلاء قام أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وهو محمود عبداللطيف، بإطلاق الرصاص على عبدالناصر. وظهرت في هذا الوقت شجاعة عبدالناصر وكان لها أكبر الأثر في التفاف الجماهير حول الثورة. وفي 4 نوفمبر تشرين الثاني 1954 تم إعفاء محمد نجيب، وتحديد إقامته مع حل جماعة الإخوان المسلمين. وبهذا انتهت أخطر أزمة مرت بها الثورة لكي تباشر مهامها في تحقيق أهدافها الستة التي قامت من أجلها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.