يجمع الكثير من العرب الشاغلين بالتراث، وعلى هدى الخط الأكاديمي/ الثقافي الاستشراقي، أن المسلمين الأوائل عرفوا الفلسفة اليونانية، وبالتالي فإن مباحث علم الكلام في نشأتها الأولى تأثرت بالتراث الإغريقي. واطلاع الكلاميين على هذه الفلسفة تمّ على صعيدين: صعيد مدرسة الاسكندرية وانتقالها الى المسلمين، وصعيد مدارس حرّان والرُّها وجنديسابور ونقل تراثها الى العربية. تهدف هذه السطور الى تفكيك هذه المصادرة، لتلقي بذلك أضواء جديدة على نوعية الاصالة التي يمتاز بها الفكر الكلامي في نشأته الأولى من ناحية ما سُمِّيَ "بتأثره" بالتراث الاغريقي. منوهين أنا نعني بالمسلمين الأوائل أولئك الذين عاشوا في القرن الأول الهجري، أو امتدت حياتهم الى الربع الأول من القرن الثاني الهجري، وتكوّنت بوجودهم الاتجاهات الكلامية الأساسية التي نمت وتوسعت لاحقاً متخذة أشكالاً مختلفة. 1- مدرسة الاسكندرية كانت مدرسة الاسكندرية - كما يقول المؤرخون - زاخرة بالعلم لما دخل الاسلام الى مصر سنة 19 ه. ولكن هذه المدرسة تشكل في حدّ ذاتها اشكالية. من ناحية، ان بعض الروايات تقول أنها احرقت على يد المسلمين لما دخلوا الى مصر، وذلك بأمر الخليفة عمر بن الخطاب روايات القفطي. غير أن هذه الروايات يصعب الأخذ بها، لأنه من المستبعد ان يكون المسلمون أقدموا على حرق المكتبة، بعد ان دخلوا الاسكندرية صلحاً وأعطوا أهل مصر الأمان على أنفسهم وملّتهم وأموالهم وكنائسهم رواية ابن كثير في البداية والنهاية. والمؤرخون العرب يعطون روايات مختلفة كثيرة عن هذه المدرسة. فالقفطي مثلاً يذكر في "إخبار الحكماء بأخبار الحكماء" أن مدرسة الاسكندرية كانت مزدهرة، ويقول عنها إنه رتّب فيها "دار العلم ومجالس الدرس الطبي"، وكانت كتب جالينوس تقرأ فيها "على الشكل الذي تقرأ اليوم عليه". ويوضح القفطي أن أركان هذه المدرسة عملوا على قراءة كتب جالينوس، وتفسيرها، وهؤلاء الأركان هم: اصطفن الاكسندراني، ثم جاسيوس وانقيلاؤس ومارينوس، فهؤلاء الأربعة عمدة الأطباء الاسكندرانيين، هم الذين عملوا الجوامع والتفاسير. ولكن هؤلاء العمدة الذين تكثر الأخبار عنهم عند القفطي، يظهرون في أقدم المصادر العربية، في "الفهرست" لابن النديم، وغمضت اخبارهم، اذا لا نجد سوى خبر صغير يقول: أسماء جماعة من الأطباء القدامى مقلّين ولا تعرف أوقاتهم على صحة: اصطفن، جاسيوس، انقيلاؤس، مارينوس، هؤلاء اسكندرانيون وهم ممن فسَّر كتب جالينوس وجمعها واختصرها وأوجز القول فيها، ولا سيما كتب جالينوس الستة عشر. ولكن عدد هؤلاء العمدة يزداد بعد وفاة القفطي سنة 1248م . فابن ابي اصيبعة ت 668 ه يذكر في "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" أن عدد هؤلاء العمدة هو سبعة وهم: اصطفن وجاسيوس واكيلاوس وتاودوسيوس وانقيلاؤس ويحيى النحوي. وهكذا، نجد أن الأخبار تلتقي من جهة وتتعارض من جهة أخرى حول هذه المدرسة، فعمدتها "لا تُعرف أوقاتهم على صحة"، وهم تارة أربعة وطوراً سبعة، بالاضافة الى ان الأخبار التاريخية بعصر ما قبل الاسلام لا تحدثنا عنها في عصرها المتأخر. وهذا الوضع، يفسر بوضوح أن هذه المدرسة لم تكن تحتل المكانة التي أعطيت لها، عندما دخل الاسلام الى مصر، وان ما نسب اليها من نشاط علمي كبير، لا سيما القرن السابع الهجري، هو أمر مبالغ فيه. ويؤيد وجهة النظر هذه، المسألة التي تعترض الباحث في ما يتعلق بانتقال هذه المدرسة الى انطاكية في نهاية القرن الأول الهجري. ذلك أننا لو سلمنا أنها كانت تمارس نشاطاً علمياً مهماً، أعطى شخصيات معرفية غنية مطلع القرن السابع، فإنه ليثب بسرعة الى الفكر السؤال عن السبب الذي جعلها تقفل أبوابها في الاسكندرية لتنتقل الى انطاكية. فانطاكية يوم انتقلت اليها كانت دخلت في الخلافة الاسلامية، لأن المسلمين دخلوها سنة 17ه. ومن المستبعد ان تكون الخلافة الاسلامية منعت نشاط هذه المدرسة في مصر لكي تطلقه في انطاكية. لذلك، يظهر انتقالها الى انطاكية كمسألة مهمة من مسائل أخبارها المنقطعة في عصرها المتأخر. 2- مدرسة انطاكية حفظ التاريخ بعض الروايات عن انتقال هذه المدرسة من الاسكندرية وحتى وصولها الى بغداد. وهذه الروايات تظهر بوضوح أن علم الكلام كان بعيداً عن ان يكون عرف تراث الاسكندرية. فهناك رواية الفارابي، وهذه الرواية يذكرها ابن ابي اصيبعة نقلاً عن كتاب مفقود للفيلسوف، وهي تقول: "انتقل التعليم بعد ظهور الاسلام من الاسكندرية الى انطاكية وبقي فيها زمناً طويلاً، الى ان بقي معلم واحد، فتعلم منه رجلان، وخرجا ومعهما الكتب، فكان احدهما من اهل حران والآخر من اهل مرو، فأما الذي من أهل مرو، فتعلم منه رجلان: أحدهما ابراهيم المروزي، والآخر يوحنا بن حيلان. وتعلم من الحراني اسرائيل الأسقف وقويري، وسارا الى بغداد. فتشاغل اسرائيل بالدين وأخذ قويري في التعليم، وأما يوحنا بن حيلان، فإنه تشاغل ايضاً بدينه، وانحدر ابراهيم المروزي الى بغداد فأقام بها، وتعلَّم من المروزي متى بن يونان. وقال أبو نصر الفارابي عن نفسه انه تعلم من يوحنا بن حيلان الى آخر كتاب البرهان". فهذه الرواية إن دلت على شيء فإنما تدل على الغموض التام عن سبب عملية الانتقال، اذ لا تذكر اي تعليل لهذه العملية. ولكن هذه الرواية مهمة من ناحية، انها تظهر ضعف الاقبال على التعليم الذي كانت تؤمنه هذه المدرسة. فهي بعد ان انتقلت الى انطاكية وبقي التعليم فيها زمناً طويلاً لم يبق فيها الا معلم واحد. وبقاء معلم واحد يفيد من دون أدنى ريب الى أي درجة كان أثرها ضعيفاً، ان لم نقل معدوماً في تلك المرحلة التي بقيت خلالها في انطاكية، كما وان بقاء معلم واحد في المدرسة كلها يفيد، من جهة ثانية، أن هذه المدرسة لم يكن يختلف وضعها عن وضع الأديرة التي كانت منتشرة في البلاد التي ابقاها الاسلام على وضعها، وهذا ما جعل المسلمين لا يقبلون عليها. وهناك غموض آخر، فهذه الرواية لا تحدد الزمن الذي انتقلت فيه هذه المدرسة من انطاكية، ولا المدة التي بقي التعليم فيها، مكتفية بذكر الحدث، بالاضافة الى انها لا تذكر اسم المعلم الواحد الذي كان آخر الأساتذة في انطاكية، كما وأنها لا تذكر اسم الرجلين اللذين تتلمذا على يد هذا الاستاذ، في الوقت الذي تذكر فيه اسم بلديهما. وهنا السؤال الذي جعل اسماء هؤلاء الرجال الثلاثة تبقى مجهولة. ونجد تقريباً الغموض نفسه في رواية اخرى لمعاصر للفارابي هو المسعودي، الذي يذكر في "التنبيه والاشراف" أن "مجلس التعليم" انتقل من "أثينا الى الاسكندرية من بلاد مصر. وجعل أوغسطس الملك، لما قتل كليوبطرة الملكة، التعليم بمكانين، الاسكندرية ورومية، ونقل تيودوسيوس الملك - الذي ظهر في ايامه اهل الكهف - التعليم من رومية ورده اياه الى الاسكندرية، ولأي سبب نُقِلَ التعليم في ايام عمر بن عبدالعزيز من الاسكندرية الى انطاكية، ثم انتقاله الى حران في ايام المتوكل، وانتهى ذلك في ايام المعتضد، الى قويري ويوحنا بن حيلان، وكانت وفاته بمدينة السلام في أيام المقتدر، وابراهيم المروزي، ثم الى محمد بن كرنيب وأبي بشر متى بن يونس تلميذَيّ ابراهيم المروزي. وكانت وفاته ببغداد في خلافة الراضي، ثم الى ابي نصر محمد بن محمد الفارابي تلميذ يوحنا بن حيلان". فهذه الرواية كسابقتها، لا تعلل سبب انتقال التعليم الى انطاكية، ولكنها تحدد المراحل التي مرّ بها العلم اليوناني حتى وصل الى المسلمين، من دون ان تذكر شيئاً عن الذين نقلوا العلم من الاسكندرية الى انطاكية، ثم من انطاكية الى حران. فالغموض يكتنفها أيضاً. وبحسب رواية المسعودي، فالمدرسة انتقلت الى حران في ايام المتوكل. والمعلوم ان المتوكل حكم بين 232-247ه. وهذا يعني أن المدرسة بقيت في انطاكية ما يقرب 140 سنة، والأخبار عنها خلال هذه الفترة كلها غامضة، اذ لا نجد خبراً واحداً، لا عن رجالات العلم فيها ولا عن نشاطها العلمي. وهذا الوضع يدعو الى كثير من الأسئلة. فالظاهر أنها انحصرت في الأديرة لتمارس نشاطها العلمي بين رجالات الدين فقط. وقد يكون هذا التعليل قريباً من الواقع، بدليل ان التعليم في الاسكندرية كان بيد رجال الدين. فالواقع الذي يجد الباحث نفسه ازاءه، هو أن مدرسة الاسكندرية لم تصل الى حران، إلاّ بعد سنة 232 ه، انتقلت بعدها الى بغداد في عهد الخليفة المعتضد، الذي حكم بين 279-289 ه. الأمر الذي يفيد أن المدرسة بقيت في حران ما يقرب من 40 سنة، فهي بالاستناد الى هذا الواقع، وصلت الى بغداد متأخرة على حركة الترجمة والنقل، التي كان بدأها المأمون، بعد ان أنشأ بيت الحكمة قبل سنة 215ه. 3- مدارس حران والرُّها وجنديسابور اذا كانت مدرسة الاسكندرية وصلت الى المسلمين متأخرة عن نشأة علم الكلام، فإن المدارس الأخرى، مدارس حران والرُّها ونصيبين والمدائن وجنديسابور وآمد أو ديار بكر، التي كانت دونها في المرتبة والشأن، لم يكن حظها أوفر منها بكثير. فالاسلام ترك هذه المدارس وشأنها لما فتح البلاد، وهي في الواقع لم تكن مدارس بمفهومنا الحاضر للمدرسة، بل كانت أديرة ألحقت بها مدارس. ولفظ "اسكول" السرياني المأخوذ عن اليونانية، والذي استعمل لتسمية المدارس في الأديرة، يدلّ على مدرسة مسيحية أو مدرسة ملحقة بدير، وكانت الغالبية العظمى من هذه المدارس مدارس لاهوتية دينية. وكان يسمح في الكثير منها بدراسة العلوم الدنيوية: النحو والبيان والفلسفة والطب والموسيقى والرياضيات والفلك، وكان التعليم الفلسفي يقتصر على بعض أجزاء المنطق الأرسطوطالي والتعليم الطبي على أمهات مؤلفات بقراط وجالينوس. وهذه المدارس، لم تستطع ان تلعب دوراً مهماً في الفكر الإسلامي إلاّ في عهد متأخر، من طريق نقلها للتراث اليوناني الى اللغة العربية، بعد ان كانت نقلت معظمه الى السريانية. فهي، حسبما يظهر، اقتصر نشاطها على الترجمة والنقل، سواء في العصر الذي سبق الاسلام، أم في العصور الأخرى التي تلته. فنحن اذاً ابان ظهور الاسلام أمام تراث يوناني ينقل الى السريانية. واستمرت حركة النقل في القرن السابع الميلادي، فظهر من النساطرة: "سلوانوس الفردي" و"حينانشو الأول الجاثليق" و"شمعون الراهب"، وظهر من اليعاقبة: "سويرس سيبوخت" ت 47 ه وتلميداه: "اثناسيوس البلدي" و"أيوب الرهاوي" ت 90 ه... ثم "جورجيوس" ت 106 ه، أسقف العرب المسيحيين في المنطقة المسماة اليوم حوران، وكان تلميذ الأخيرين اشتهر شارحاً ومترجماً لمنطق أرسطو. وهنا، على هذا الصعيد تعترض الباحث مسألة معرفة الكتب التي ترجمت الى العربية في هذا العصر. ذلك أن هؤلاء الرجال عاشوا في ظل الخلافة الاسلامية في عهدي الخلفاء الراشدين وبني أمية. والظاهر ان ترجماتهم كانت كلها في هذا العصر من اليونانية الى السريانية، لأننا لو رجعنا الى أقدم المصادر العربية: "الفهرست" لابن النديم، لوجدنا في الصفحة التي يخصها لذكر اسماء النقلة الى اللسان العربي، أنه لا يذكر من هؤلاء الرجال سوى أيوب الرهاوي، وهو يكتفي بذكر اسمه فقط. ولئن انتقلنا الى المصادر العربية الأخرى اللاحقة على ابن النديم أمثال: المسعودي أو القفطي أو ابن ابي اصيبعة: فإننا لا نجد فيها ما ينبئ عن وجود ترجمات من اليونانية الى العربية. فالترجمات لم توجد إلاّ متأخرة. فالتراث الأرسطي بقي مجهولاً طيلة عهد الخلافة الأموية التي انتهت سنة 132 ه. والظاهر ان هذا التراث، ومعه ايضاً التراث اليوناني ككل، لم يبدأ المسلمون بالتعرف إليه إلاّ مع بداية النصف الثاني من القرن الهجري الثاني. ولكن علينا ان نتنبه بأن المنطق هو الذي عرف في أول الأمر. فصاعد الأندلسي، يذكر في "طبقات الأحمر" أن أول من اشتهر بالمنطق في ظل الدولة العباسية كان "عبدالله بن المقفع، الخطيب الفارسي كاتب ابي جعفر المنصور، فإنه ترجم كتب أرسططاليس المنطقية الثلاثة... وهي: كتاب قاطيغورياس، وكتاب باري أرميناس وكتاب أنولوطيقا... وترجم كذلك المدخل الى كتاب المنطق المعروف بالايساغوجي لفرفوريوس الصوري". غير ان ابن النديم يذكر في "الفهرست" أن عبدالله بن المقفع كان "في خدمة عبدالله بن علي وكان يعمل ضد سياسة المنصور"، ثم أن ابن النديم لا يذكر في الفصل الذي أفرده لعبدالله بن المقفع كلمة واحدة عن تراجم يونانية له، بينما يذكر في مكان آخر في فصل ثبت مترجمي كتابي أرسطو: قاطيغورس وباري ارميناس، اسم ابن المقفع فقط، الأمر الذي يقود الى الافتراض أنا إزاء شخصين مختلفين وقريبين. وبالعودة الى قول الجاحظ في كتاب "الحيوان"، يذكر ابن المقفع كمترجم لأرسطو، وهو يرى أن هذا المترجم هو ابن عبدالله بن المقفع، والرواية التي تذكر عبدالله ككاتب لأبي جعفر المنصور تعني برأيه الابن، لأن الأب توفى 139 ه، اي بعد قدوم المنصور على الخلافة بثلاث سنوات، بينما توفى المنصور 158 ه، لذلك لا يستبعد ان يكون محمد بن المقفع الابن هو كاتب المنصور وترجمانه. والحقيقة التي تنكشف أمامنا من قول صاعد الأندلسي، هي ان الترجمات اليونانية لم تبدأ في العالم الاسلامي، قبل قدوم ابي جعفر المنصور الى كرسي الخلافة، أي مع نهاية النصف الأول من القرن الثاني الهجري. ومن جهة أخرى، نشير الى أمر في غاية الأهمية، تم في هذا العهد، وهو قدوم جرجس بن بختيشوع النسطوري من جنديسابور الى بغداد سنة 148 ه، تلبية لطلب المنصور نفسه. وكان ابن بختيشوع هذا رئيس أطباء بيمارستان جنديسابور. ومن ذلك الحين بقيت اسرة بختيشوع طوال ثلاثة قرون ذات مكانة كبرى عند الخلفاء، فتوطدت العلاقة بين جنديسابور وبغداد بمساعدة الأفراد الذين كانوا ينتمون الى هذه الأسرة في حلقات علمية، ومن بينهم: المطران ابن بهريز الذي عمل طبيباً للمهدي وهارون الرشيد والأمين. غير ان أمراً مهماً ينبغي التوقف عنده، وهو أن الترجمات التي بدأت في عهد المنصور اقتصرت على المنطق فقط. فالظاهر هو أن ابن المقفع، اذا استندنا الى الترجمات التي قام بها، كان ما يزال متقيداً بالتقليد الاسكندراني الذي كان السريان المغربيون، اي اليعاقبة، ساروا عليه، وهو قصر النقل من منطق أرسطو على الكتب المشار اليها سابقاً، بسبب أن الباقي من "التحليل الأول" وكل "التحليل الثاني" يشتملان على مواد يخشى فيها على الايمان في نظرهم. فكتب الفلسفة لم تكن اذاً عرفت، وهي كانت توضع جانباً حتى في مدرسة الاسكندرية في عصرها المتأخر. فالفارابي يقول عن المكتبة في الاسكندرية وعن انشاء أوغسطس لفرع الأكاديمية في روما: "فصار التعليم في موضعين، وجرى الأمر على ذلك الى ان جاءت النصرانية في ذلك، واجتمع الأساقفة وتشاوروا فيما يترك من هذا التعليم وما يبطل، فرأوا أن يعلَّم من كتب المنطق الى آخر الإشكال الوجودية ولا يعلَّم ما بعده، لأنهم رأوا في ذلك ضرراً على النصرانية، وأن فيما اطلقوا تعليمه ما يستعان به على نصرة دينهم. فبقي الظاهر من التعليم هذا المقدار، وما ينظر فيه من الباقي مستور حتى كان الاسلام بعده بمدة طويلة". ولم يحدث تغيير مهم في هذا الوضع حتى نهاية القرن الثاني الهجري. فعهد المهدي، ومن بعده عهد هارون الرشيد، لم يعرفا من التراجم غير الكتب المنطقية. وطيموثاوس الأول الذي انتخب جاثليقاً للنساطرة سنة 163 ه، الذي كان ذا حظوة كبيرة لدى المهدي وهارون الرشيد، عمل، بناء على أمر الخليفة، على نقل كتب ارسطو الى العربية، وتناول النقل، بمساعدة مترجم آخر هو أبو نوح الأنباري الذي كان كاتب والي الموصل موسى بن صعب، الكتب المنطقية المنسوبة الى ابن المقفع، يضاف اليها كتب اخرى من الأورغانون، ولا سيما كتاب "الطوبيقا"، و"الأبوديقتيقا" اي التحليلي أو "الأنالوطيقا الثاني"، وكتابي "الشعر والخطابة". تغير الوضع كلياً في عهد المأمون. ففي بداية هذا العهد، كانت معرفة المسلمين للفسلفة الأرسطية تشمل تقريباً كتب المنطق كلها. ولكن المأمون سرعان ما أطلق حركة الترجمة اطلاقاً كلياً حين أنشأ "بيت الحكمة" قبل سنة 215 ه. وجعله مدرسة للترجمة واضعاً على رأسها يوحنا بن ماسويه. ومن أهم من نشط في الترجمة في هذه المدرسة، كان حنين بن اسحق، الذي نزل ميدان العمل سنة 211 ه، وكان سنُّه لا يتجاوز بعد السابعة عشرة، واستلم رئاسة المدرسة في عهد الخليفة المتوكل ت 247 ه، واستطاع ان يترجم حتى موته 262ه، من كتب جالينوس مئة الى السريانية ونصفها الى العربية. وترجم ايضاً كتباً عديدة من تأليف اوريباسيوس وبولس الاجانيطي ثم من تأليف بقراط وأرسطو وشروحهما. فمع عصر المأمون، ابتدأ اذاً نقل قسم كبير من التراث اليوناني الى اللغة العربية. فهذا العصر يمكن اعتباره بحق بداية لمرحلة جديدة في الفكر الاسلامي. وهنا يظهر لنا واضحاً أن مدارس حران والرُّها وغيرها من مدارس الشرق الأدنى، سبق وصولها الى المسلمين قبل مدرسة الاسكندرية، وهي مع ذلك وصلت متأخرة قرناً ونيف من الزمان على بزوغ وتكوين الأطر الأساسية للحركات الكلامية.