محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    قبل مواجهتي أستراليا وإندونيسيا "رينارد" يستبعد "العمري" من قائمة الأخضر    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    «الاختبار الأصعب» في الشرق الأوسط    حديقة ثلجية    «الدبلوماسية الدولية» تقف عاجزة أمام التصعيد في لبنان    البنك المركزي السعودي يخفّض معدل اتفاقيات إعادة الشراء وإعادة الشراء المعاكس    الهلال يهدي النصر نقطة    رودري يحصد ال«بالون دور» وصدمة بعد خسارة فينيسيوس    لصوص الثواني !    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    «التعليم»: تسليم إشعارات إكمال الطلاب الراسبين بالمواد الدراسية قبل إجازة الخريف    لحظات ماتعة    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    الهايكو رحلة شعرية في ضيافة كرسي الأدب السعودي    ما سطر في صفحات الكتمان    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    وزير الصحة يتفقد ويدشّن عدداً من المشاريع الصحية بالقصيم    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    نعم السعودية لا تكون معكم.. ولا وإياكم !    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    جودة خدمات ورفاهية    أنماط شراء وعادات تسوق تواكب الرقمنة    كولر: فترة التوقف فرصة لشفاء المصابين    الأزرق في حضن نيمار    ترسيخ حضور شغف «الترفيه» عبر الابتكار والتجديد    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    الغرب والقرن الأفريقي    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    الاتحاد يتغلب على العروبة بثنائية في دوري روشن للمحترفين    ضبط شخصين في جدة لترويجهما (2) كيلوجرام من مادة الحشيش المخدر    المربع الجديد يستعرض آفاق الابتكار الحضري المستدام في المؤتمر العالمي للمدن الذكية    أمير القصيم يرعى حفل تدشين 52 مشروعا صحيا بالمنطقة بتكلفة بلغت 456 مليون ريال    فقيه للرعاية الصحية تحقق 195.3 مليون ريال صافي ربح في أول 9 أشهر من 2024 بنسبة نمو 49%    رحيل نيمار أزمة في الهلال    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    المريد ماذا يريد؟    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    الدولار يقفز.. والذهب يتراجع إلى 2,683 دولاراً    رينارد يعلن قائمة الأخضر لمواجهتي أستراليا وإندونيسيا في تصفيات مونديال 2026    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ليل عروس الشمال    التعاطي مع الواقع    التكامل الصحي وفوضى منصات التواصل    الداخلية: انخفاض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    سلام مزيف    همسات في آذان بعض الأزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجربة محمد علي : في سوسيولوجيا الملاكمة والعنصرية في الولايات المتحدة
نشر في الحياة يوم 18 - 07 - 2000

التاريخ: ليلة 24 شباط فبراير 1964، والمكان: ميامي بيتش. كاسيوس كلاي ابن ال22 عاماً يخاف، كملاكم، للمرة الاولى والاخيرة في حياته. لم يكن حينذاك معروفاً على نطاق عالمي مع انه نال في 1960 الميدالية الذهبية في اولمبيا روما لملاكمي الوزن الخفيف.
التفاوض كان قد جرى مع خصمه، بطل العالم للوزن الثقيل، سوني ليستون كي لا يقضي عليه. المراسلون الصحافيون حجزوا سياراتهم لكي تنقلهم الى المستشفى التي لا بد ان ينتهي اليها هذا الغلام الثرثار: كاسيوس كلاي.
المواجهة بين كلاي وليستون التي كان مالكولم اكس من حضورها، هي التي يعقد ديفيد ريمنك كتابه عليها، جاعلاً من احد اوصاف كلاي لنفسه عنواناً للكتاب: "ملك العالم - محمد علي وصعود بطل اميركي" بيكادور. والعمل اقرب ما يكون الى قصيدة حب لسود اميركا لا سيما ملاكميهم، يخطّها احد ابرز صحافيي اميركا البيض. لهذا فالكتاب يتعدى تلك المبارزة، بل يتعدى سيرة كلاي، الى سوسيولوجيا الملاكمة في الولايات المتحدة لا سيما من زاوية المسألة العنصرية.
فالسود، وقبلهم اليهود والطليان، كانوا احتكروا هذا الميدان لأنه من الميادين القليلة المتاحة لهم، تماماً كما برع يهود اوروبا في مهن بعينها نتيجة اخراجهم من النطاق السياسي. غير ان امر السود، هنا، اشد اتصالا بالجسد الذي لم يكن لديهم غيره للتعويل عليه.
والملاكمة ليست تقليديا للطبقة الوسطى، بل للفقراء من لاعبي اليانصيب، والذين يخاطرون بحياتهم واجسامهم كيما يكسبوا زرقهم. فكل خصوم كلاي البارزين: ليستون وباترسون وفريزر وفورمان، ولدوا هكذا فقراء وانتموا الى "ما دون الطبقات".
وبمعنى ما ولدت الملاكمة في اميركا من العبودية، حتى ان ثمة من اعترض عليها اعتراضه على المصارعة لأنهما تبددان "الطاقة الثورية" للعبيد. فقد كان العبد المولود في فرجينيا، توم مولينو، اول بطل اميركي. وفي 1810 حين لاكم ندّه البريطاني توم كريب فعل الجمهور المستحيل كيما ينتصر الاخير لأنه لا يجوز لأسود ان يغلب ابيض. ورفض البطل الاميركي الابيض جون سوليفان متعالياً ان يلاكم زميلا اسود له، اما خليفته جون جفريز فقال انه يفضّل التقاعد حين لا يعود هناك بيضٌ يلاكمهم. وهو لئن لاكم مرةً ملاكما اسود فانما ليثبت "تفوق البيض"، فيما وقف معه الصحافيون بمن فيهم كتّاب راديكاليون بيض كجاك لندن! فحين واجه، في 1910، الملاكم الاسود جاك جونسون علت الهتافات تطالبه بقتل جونسون "النيغر" الزنجي في لفظ تحقيري. ومع ان جونسون هزمه بفارق ضخم، فقد اثار اعلان النبأ اضطرابات وشغباً بين البيض والسود لم يُعرف مثلها حتى اغتيال مارتن لوثر كينغ في 1968. كذلك هُدّد جونسون وطولب بقتله، وفي النهاية تمكنت المؤسسة البيضاء منه اذ نفى نفسه نفياً طويلاً تهرّباً من السجن ل"مخالفته" قانوناً يمنع النشاطات غير الاخلاقية وكان جونسون يملك كابريه في شيكاغو.
على ان ابطالا بيضا كثيرين ظلوا يتعاقبون حتى الثلاثينات رافضين ملاكمة السود الذين عادت البطولة اليهم في 1937 حين هزم جو لويس جيم برادّوك. ويومها علّق صحافيون مستنيرون في قضايا اخرى، بعنصرية فتحدثوا عن "وحشية" السود وقارنوهم بالوحوش. حتى الصحافة الشمالية شاركت في الحملة علماً بأن لويس كان، على عكس جونسون، من النوع المطواع والدمث. فقد تطوّع في الجيش الاميركي وابان الحرب الثانية تبرّع بأرباحه للمؤسسة العسكرية. لكنْ ما ان تغلّب عليه الالماني ماكس شملنغ حتى ظهرت في جرائد الجنوب اصوات تعاود اكتشاف "التفوق الابيض". ومجدداً انتقم لويس من شملنغ وحطّمه كما بات معبود البيئة الاميركية السوداء. وكان البائس ان لويس، وقد كبر في السن، انتقل الى المصارعة لاعالة نفسه، غير ان خصمه كسر ثلاثة من اضلاعه في مصارعته الاولى.
ومع مطالع الستينات، في عز زخم حركة الحقوق المدنية، ساد لدى السود انطباع مفاده ان اميركا تبالغ في التركيز على الرياضة وابطالها مهملةً ملايين الناس العاديين وهمومهم. ولئن صرف كثيرون انظارهم عن الملاكمة فالأهم انها شهدت، ايضاً، تكثيف صورتها كمجاز عن المسألة العرقية.
لقد كان محمد علي سليل جاك جونسون ورغبته في التحدي. وربما كانت اهميته، هنا، انه كسر النمطية التي فرضها البيض على الملاكم الاسود. فالاخير كان مُطالباً كيما يرضى عنه البيض، ومنهم المراهنون والمموّلون ومنظّمو الحفلات، ان يندرج في تنميطهم له. والبطلان اللذان توزعا "زعامة" الملاكمة ابان صعود كلاي، اي سوني ليستون وفلويد باترسون، كان اولهما يمثّل الاسود الشرير والكريه، وثانيهما يمثّل الاسود الطيّب والمدجّن الذي يريد الاندماج بشروط يقبل بها البيض. وقرر كلاي ان لا يصنع نفسه بموجب هذه الارادة فتجاوز إعلائياً العالم المعهود للملاكمة السوداء.
بيد ان ملاكمة كلاي وليستون كان لها ممهداتها. ففي 1961 عبّر الرئيس جون كينيدي عن رغبته في ان يرى باترسون وليستون وجهاً لوجه. ويومها كانت نجومية لوثر كينغ تتألّق فخاف على بطله باترسون، العديم العدوانية وذي الطبيعة التأملية. وخاف اكثر ما خاف من ان ينهزم نموذجه على يد ليستون المتورّط في المافيا والمسجون لضلوعه في سرقات مسلحة، فيبدو كأن الشرير هو "البطل" الذي يقدّمه السود للعالم.
وكما مصارعة العبدين لتسلية الرومان، تلاكما في 1962 فكانت ملاكمة شهدت مصالحة نورمن مايلر وجيمس بالدوين وهما يغطّيان الحدث للصحافة. والبطلان الاسودان هذان صادران عن بيئة الفقر والازقّة والعائلات المتصدّعة اياها.
وقد هزم ليستون باترسون في دقيقتين وست ثوان. لكنه، مع هذا، لم يحظ بأي تكريم كان يتمنى ان يكون قاطرته الى حياة اخرى بعيداً عن الشقاوة. اما الذين ارادوا تشويه ليستون فدأبوا على استخدام تنميط عنصري عن "الوحش" و"الغوريلا" متذرّعين بأنهم يقصدونه وحده. وكان ما يسهّل مهمتهم ان ليستون كان امياً من الجنوب، ولد ابان الكساد الكبير لأب لديه 25 ولداً.
اما كلاي فأحبّه الناس منذ 1960 بوصفه مُفوّهاً بل ثرثاراً يتحدث عن نفسه بصفته الاقوى والاجمل. لكنه لأنه اراد الخروج من الخانات الجاهزة، شاء لنفسه ان لا يكون ملاكماً فحسب، فبات عليه ان يضيف الى صورته ابعاداً اخرى.
هكذا كان صاحب "شو" متواصل ومقدّم عرض ترفيهي لا ينقطع. ومع تعاظم نجوميته وصلته بالاعلام، غدا رمزاً آخر من رموز تقليد اميركي عريق في الترويج الاستعراضي لنفسٍ نرجسية. لقد نمّت قدرته على ترويج نفسه عبر الكلام و"الشعر" عن ضعف القدرة يومذاك على استخدام وسائل الاعلام لترويج ملاكم لا يحبه الاعلاميون. والكثيرون من كتّاب اعمدة الرياضة كانوا يسخرون من الملاكمين السود، فيما الصحف كانت الوسيلة الأساسية في الدعاية. على ان كلاي، قبل ذلك، غيّر معايير الملاكمة. فالى المضي في الركض والنطنطة حول الحلقة كان يبقي يديه منخفضتين ويلكم اختلاساً باليسرى، موجهاً ضرباته الى الرأس لا الجسم. وكان دفاعه الأهم سرعته التي كفلت له تجنب الضربات ومن ثم توجيه الضربة للخصم.
وبتقنيته ملاكمةً واستعراضاً، وخصوصاً بسرعته الفائقة كلاماً وحركةً، دلل كلاي على ذكاء حاد يصير بالغ التفاوت حين نضيف جهله وغباءه في معظم الامور الاخرى.
لقد ولد كاسيوس في لويسفيل عام 1942 لعائلة يمكن عدّها من الطبقة الوسطى السوداء التي تختلف كثيراً، بالطبع، عن مثيلتها البيضاء. والده كان خطّاط لافتات وفناناً موسمياً، وأمه كانت تعتني ببيوت ابناء الطبقة العليا البيضاء. هكذا لم يتعرض هو وشقيقه للجوع او المتطلبات العادية الاخرى التي امكن دائماً توفيرها.
وكاسيوس الصغير والجميل الذي كانت امه تصطحبه الى الكنيسة كل أحد، عُرف بسرعة خاطره وخفّة دمه وكثرة ثرثرته. ولما كان والده سكّيراً يضرب أمه، ظل موضوع الأب موضوعاً محرجاً للملاكم اللاحق. وهنا ربما كمنت حاجة الى الأب البديل وفّرها، فيما بعد، اليجا محمد زعيم "امة الاسلام" الذي واجهه كلاي بامتثال فائق. لكن الأب درج على ردّ اخفاقات حياته الى البيض مُخبراً ابنيه بهذا. وهو سبق له ان ايّد مطالب تقرير المصير للسود رغم كراهيته اللاحقة ل"امة الاسلام"، كما أُعجب بماركوس غرايفي القائد الاسود الذي برز بعد الحرب الاولى ودعا الى الرجوع الى افريقيا.
ومن دون ان يعظه ابوه بذلك، كان هناك ما يكفي لنقل الاحساس بالعنصرية الى كاسيوس الصغير. فكنتاكي ولاية حدودية بين الشمال والجنوب، والفصل كان قائماً فيها يشمل الأحياء والمدارس والباصّات والسينمات والفنادق وغيرها. وكان كاسيوس حسّاساً لهذا، لكن اكثر ما اثّر فيه مقتل إيميت تيل، ابن ال14، عام 1955 في مسيسيبي، احدى اشد الولايات عنصرية، واخلاء سبيل القاتلين بعد محاكمة دامت 67 دقيقة.
وبقدر ما كان كاسيوس يتبجح بكونه الأعظم، كان يشتغل على بناء نفسه فيتدرّب بلا انقطاع تقريباً، يساعده بناء اخلاقي مضاد لصورة ابيه: فهو لا يدخّن ولا يشرب ولا يقارب النساء. ومع انه كان دائماً فاشلا في المدرسة كان محبوباً ومهذبا يداوم، بعد التدريب طبعا، على قراءة التوراة. على ان جهله بالعالم كان كبيرا. فهو، مثلاً، كان يخاف الطائرات وحين تقرر سفره الى روما في 1960، استغرق الامر اربع ساعات لاقناعه باستحالة الوصول اليها بالقطار. وفعلا سافر في الجو الا انه بقي طوال الرحلة لابساً الباراشوت.
وبعد عودته من روما سُرّ كثيراً بأن الناس باتوا يعرفونه وباستقباله استقبال الابطال في لويسفيل، كما سُرّ خصوصاً بوضعه الاستهلاكي والمالي الجديد. فهو كان يحب ان يشتري سيارات كاديلاك لأهله وله، كما كان يفضّل امتلاك الارض على الارصدة في المصارف لأن "البنوك تحترق"! لكن بروزه وتكريمه لم يمنعا ظهور اشارات امتعاض معلن من بعض بيض الولاية، ورفض احدى حاناتها تقديم كأس ليمون له.
وقد لاكم "صاحب الميدالية الذهبية واللسان الفضي" عدة مرات في ميامي، وكان كل مرة يزيد شعبيته قليلا. الا ان كثيرين من العارفين بالملاكمة ظلوا يأخذون عليه انه يتحدث اكثر بكثير مما يقاتل، قاصدين طريقته غير الكلاسيكية. فاذا كانوا بيضاً عنصريين جاءت اشاراتهم الى كثرة كلامه تحمل معنى آخر: ذاك ان الملاكم الاسود يلاكم ولا يتكلم. وكان جو لويس، مثلاً، يقول: "مديري يتحدث عني".
ومنذ 1960 وجد كلاي ما يخاطبه في "امة الاسلام" او "المسلمين السود". لقد أُعجب بدعوتهم السودَ الى الافتخار بذاتهم ولكنْ ايضاً بنظاميتهم وتراتُبيتهم وبُعدهم عن التدخين والمشروب. وقد تأثر بكلامهم عن محاولات استئصال هوية السود، وراح تورطه معهم يزداد. ومنهم سمع النقد لأسماء السود بصفتها اسماء اعطاهم اياها ملاكو العبيد، كما سمع نقداً للمسيحية بوصفها ديانة الرجل الابيض الذي اراد بها تخدير السود وتسكينهم بمحبة زائفة تمنعهم من النضال لتحرير انفسهم. ومنهم اطّلع على النقد الموجه لحركة الحقوق المدنية ومارتن لوثر كينغ لأنهما مستعدان للقبول بانزال الألم بالسود من اجل ان يقبل الابيض بهم. كذلك تعرّف الى اسم اليجا محمد الذي ورث مؤسسَ الحركة دبليو. دي. فارد، وهي حركة لا تحمل من الاسلام الحقيقي الا القليل اذ تقوم على مزجه بما لا يُحصى من اساطير وخرافات.
لقد صدّق كلاي خزعبلات فارد واليجا وراح يرددها ببغاوياً، وحين اعتنق "الاسلام" صار يقول ان اسم كلاي هو الاسم العبودي الذي اعطي لعائته، وهذا صحيح. الا انه، مع هذا، غدا اسماً تتباهى به العائلة. فكاسيوس كلاي هو بالأصل اسم المزارع الغني الأبيض الذي ورث في القرن التاسع عشر اربعين عبداً في كنتكي. لكنه تحول في وقت لاحق مطالباً بالغاء العبودية كما حرّر جريدة مناهضة لها سُمّيت "الأميركي الحقيقي"، مُعتقاً العبيد في مزرعته. وقد نشط وخطب ضد العبودية، فطُعن مرة في صدره ورد بطعن طاعنه. وعند كاسيوس هذا عمل جدّ ملاكمنا فأعطي اسمه، على ما كانت العادة. اما من جهة امه، فكان الدم على شيء من الاختلاط، ما سبّب للملاكم الشاب بعض الحرج فردّه الى اعمال الاغتصاب التي كان يُنزلها البيض بعبداتهم السوداوات.
وفي "الأمة" وجد محمد علي، الذي تعرف الى اليجا في اوائل الستينات، مدى له وافتخاراً واجابات بسيطة عن اسئلته البسيطة. وفحوى الاجابات عدم الثقة المطلقة بالبيض. لكنه خاف التصريح بعضويته اذ قد تضيق فرص تقدّمه للملاكمة في مباراة الوزن الثقيل. وقد حمت "أمة الاسلام" محمد علي من المافيا التي كانت مسيطرة على تجارة الملاكمة لكنه انفق عليها الكثير في المقابل، فيما كان اقرب المقرّبين يحذّرونه من ابتزازها له. والحال ان اليجا محمد كان يكره الملاكمة ويدعو الى إبطالها لأنها تمتّع البيض بقتال السود في ما بينهم، فلم يتغير رأيه الا في وقت تالٍ بسبب محمد علي الذي اعطاه، هو، تسميته البديل.
ولأن محمد علي بسيط وعفوي لا يجيد الكذب بدأت أخبار علاقته ب"أمة الاسلام" تتسرّب الى الصحافة. لكن لئن بدا اليجا متردداً حيال الصلة به فهذا ما لم يكن حال "وزيره" الابرز مالكولم أكس الذي قاده عالم الجريمة المديني الى السجن وهناك اعتنق، في 1948، دعوة اليجا. ومالكولم الجذاب الذي صار منافسا لزعيمه هو من ارتبط به محمد علي بصداقة وثيقة محتفظاً بالتقدير الرفيع للرجل الاول في "الامة". وتبادل الاثنان المودة والاعجاب الا ان اوائل 1963 سجّلت بدايات خلاف اليجا ومالكولم وهو ما تطور الى قطيعة. ولأن محمد علي كان بحاجة الى الأب اكثر مما الى الأخ، ولأن مداركه السياسية والثقافية كانت بالغة التردي والفجاجة آثر الانضمام الى اليجا.
في غضون ذلك كادت الملاكمة مع ليستون، التي رآها مالكولم مواجهة بين الهلال والصليب، تلتغي بسبب افتضاح انتماء محمد علي الى "امة الاسلام"، اذ كيف يأتي جنوبيو ميامي ليشاهدوا مَن يعتبر البيض شياطين؟ وبالفعل جاءت العائدات المالية لتلك المواجهة المهمة شحيحة جداً.
ومضى كلاي في حربه النفسية والتهكمية ضد ليستون "الدب" و"الشمبانزي" و"مقلّد الابيض" بما اوصل بطل العالم للوزن الثقيل الى الحلبة وهو منهار. وهنا لم نعد امام ثنائي "النيغرو الطيب" و"النيغرو الشرير"، بل اصبحنا امام "المسلم المرعب والمختلّ" في مواجهة "الأزعر المخيف". ولم يعد الامر لعباً بل غدا قتالاً. وفي نهاية الجولة السادسة طلب ليستون وقف الملاكمة، وكانت المرة الاولى تحدث لبطل وزن ثقيل من عيار عالمي. فحين انتصر محمد علي انتصاره المدوّي قال في مؤتمر صحافي: "كل ما اريده الآن ان اصير جنتلماناً طيّبا ونظيفا"، ليضيف بالصراحة التي عُرف بها: "أنا أقاتل فقط كي أؤمّن معيشتي، وحين أجمع ما يكفي من المال لن أعود الى القتال ابداً. انا لا احب ان اقاتل. لا أحب أن أُصاب بأذى ولا أن أؤذي أحداً... أشعر بحزن لليستون". وحين سأله صحافي عما اذا كان عضوا في "أمة الاسلام" اجاب: "انني اؤمن بالله وبالسلام. لا احاول ان انتقل الى مناطق السكن الابيض. لا احاول ان اتزوج من امرأة بيضاء. لقد عُمّدت حين كنت في الثانية عشرة لكنني لم اكن اعرف ماذا افعل. انا لم اعد مسيحياً. ليس علي ان اكون ما تريدونني ان اكونه. انا حر ان اكون ما اشاء". وهذا الجواب بدا كافياً لتعزيز قناعة الصحافة بعضويته.
لقد بدأ اهتمام الصحافة ب"أمة الاسلام" تبعاً لاهتمامها به هو الذي ظل يُمنع من دخول المطاعم البيضاء في ولايات عدة. وحين شاع امر انتسابه انزعج اهله، وانزعج الصحافيون، لكن المنزعجين ضموا ايضاً كثيرين من السود الذين يحاذرون اليجا، خصوصاً وقد فشا أنه اتصل بالكوكلاكس كلان في 1961 لأن الطرفين، ومن موقعين مختلفين، يرفضان الاندماج. ونظرت الصحافة السوداء المؤيدة للحقوق المدنية بريبة الى محمد علي والى انتمائه، علما ان بعض الكتّاب السود تفهّموا انتسابه الى طرف هامشي ك"الأمة".
وضمن الحرب الكبرى كانت هناك حرب صغرى بين اليجا ومالكولم على محمد علي الذي كان يدرّ مالا وفيراً على "الأمة". لكنْ منذ اواخر 1964 بدأ حزب اليجا محاولاته المتكررة للتخلص من مالكولم الى ان نجح بحسب الروايات بتنسيق مع الكوكلاكس كلان والحزب النازي الاميركي في 21/2/1965 وكان مالكولم في التاسعة والثلاثين. ولم يُظهر كلاي اي عاطفة حيال مصرعه مُصدّقاً رواية اليجا عن براءته. على ان هذا كله كان يجري في هامش ضيق: فأميركا بدت مهتمة بحركة لوثر كينغ اكثر مما بصراع اليجا ومالكولم. وفي النهاية كان الأثر الفعلي الذي تركته "الحقوق المدنية" اكبر بما لا يقاس من اية ايجابية خلّفتها "أمة الاسلام".
وعانى محمد علي صعوبة التوفيق بين اصدقائه ومدربيه ومدرائه البيض وبين عضويته في "الامة" التي راحت تحذّره من كل فرد ليس في عدادها، لا سيما متى كان ابيض. ولئن تعرف عن طريق "الامة" الى زوجته الاولى سونجي روي، فان اصرارها على ملابسها وسخريتها من "اخوانه" وتنبيهها له في ما خص ابتزازهم المالي، ادى الى طلاقهما ونهاية قصة حب درامية. كذلك ساد النفور علاقته باهله الذين حذّروه، بدورهم، من "الامة" وابتزاز اليجا له.
وبعد ليستون الذي هزمه مرتين هزم علي اربعة ملاكمين بيض لينتقل الى مواجهة فلويد باترسون. فالاخير عيّن نفسه الملاك الذي ينتقم للملاكمة وللمسيحية وبالغ في استفزازه حتى قرر محمد علي تحطيمه. ولما كان باترسون حبيب الليبراليين والاندماجيين البيض، مثّل علي لهم رفض الاندماج، اي الموقف الذي كان مالكولم قد عمّمه شعبياً. وغالى باترسون في رساليّته مشدداً على ان وضع بطولة اميركا في يد واحد من "الامة" عار على البلد وعلى المسيحية.
وانزل علي هزيمة مريرة به، لكن باترسون كان يتلذذ بالألم الذي تحدثه ضربات خصمه الاصغر والافتى! ولاحقاً امتدحه علي قائلاً إن من العيب على الحكومة ان تترك باترسون في حاجة لأن يعمل كي يعيش بعد تاريخه المجيد. وتأثّر باترسون فعلاً فسمّى خصمه للمرة الاولى باسمه الحقيقي: محمد علي.
وبعد ثلاثة اشهر على هزيمته باترسون بدأت معركة اخرى، مع الحكومة هذه المرة. فعند تطويعه في الجندية فشل فشلاً ذريعاً ومعيباً في امتحان الذكاء فواجه الأمر بالسخرية: لقد قلت انني الاعظم لا الاقوى. ذاك ان فشله لم يقتصر على الاجابات اذ عجز ايضاً عن فهم الاسئلة البسيطة. واعيد اخضاعه للامتحان علّه كان يتظاهر بالجهل كي لا يُجنّد، ليتبين ان الأمر غير ذلك. لكن مع توسيع التطويع الى فييتنام اصبح هو نفسه، وبالمواصفات التي فيه، مطلوباً. وهو لم تكن لديه اية فكرة عن الحرب او عن فييتنام. وبعد اندهاشاته باسئلة الصحافيين عنهما انقذته سرعته المعهودة فقال العبارة التي غدت شعاراً: "هاي. انا لا مشكلة لديّ مع الفييتكونغ". واتسع نطاق تمرده الذي انضافت اليه هذه القضية الجديدة فيما زاد انقسام الناس من حوله. ولأشهر تالية ظل يتلقّى سيل التليفونات التي تشتمه ل"عدم وطنيته" وتلك التي تمتدحه لعدائه للحرب. وكان برتراند راسل احد المتصلين، ثم ابرق له مُشجّعاً فيما كانت الحكومة الاميركية تصادر جواز سفره.
مذّاك تحول محمد علي مناضلاً ضد الحرب كما وسّع معرفته بفييتنام. ولئن خسر بموقفه هذا لقبه وحب الكثيرين له وبالطبع ملايين عدة، الا انه حوّل الموضوع مسألةً مبدئية لا يساوم فيها. فهاجمه بضراوة صحافيون واعضاء في الكونغرس لكن اوساطا جديدة من الشبيبة، لا سيما السوداء، حوّلته ايقونة لها.
وراحت الأف. بي. آي تتابعه فيما التقارير عن حركاته وسكناته تتكدّس على طاولة ادغار هوفر. فقد بدا لهم اخطر مما كان جاك جونسون، كما لاح ان السجن ونهاية مهنته احتمال وارد. وكان هو يزداد تصلباً بدوره، وشعاراه: "إما قوانين الأرض او قوانين الله" و"الحرب الوحيدة التي يمكن ان اشارك فيها هي التي تحرر ملايين السود من شعبي". وفي النهاية حُكم بالسجن خمس سنوات وبدفع غرامة 10 آلاف دولار، الا ان المحكمة برّأته في 1971 على ان يُمنع من الملاكمة لثلاث سنوات ونصف السنة. وفعلا ظل لا يلاكم على بطولة الوزن الثقيل حتى 1974 حين هزم جورج فورمان في زائير.
الى اية مصائر انتهى ابطال رواية ديفيد ريمنِك؟
باترسون فقد ذاكرته، وليستون قضى بموت يُرجّح ان تكون المافيا وراءه. اما علي فرغم انه استعاد بطولته بدا اثقل وابطأ مما كان. وهو لئن ظن ان سرعته تقيه الضربات، راح يتلقى لكمات كثيرة انتهى معها مصاباً بالباركنسون. وكان ابأس ما في قصته ان هربرت محمد، ابن اليجا، كان احد الذين عرفوا بتقارير الاطباء التي اوصت مبكراً بتقاعده فلم يطلعه عليها.
وبدورها فالملاكمة فقدت جاذبيتها فتراجعت كرياضة واقفلت معظم نواديها.
* كاتب ومعلّق لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.