لكل مدينة في العراق دورها في دفع عجلة الحضارة على طريق التطور. والحضر كان دورها كبيراً في عصر التحمت فيه على مسرح التاريخ في اقطار جنوب غربي آسيا حضارات مختلفة من آشورية وآرامية وعربية وفارسية ويونانية ورومانية وفرعونية. بلغت مدينة الحضر أوج مجدها في القرون الثلاثة الأولى للميلاد، حين كانت حاضرة لجزيرة العراق، يقصدها كل ذي مأرب ويحج معابدها كل ذي طلب وتنصب اليها الثروات من كل صوب، وتمكنت من ان تدخل التاريخ بكونها المدينة الوحيدة التي استطاعت ان تتحدى اطماع الرومان وان تصمد امام محاولاتهم للاستيلاء عليها. والحضر كأخواتها تدمر والبتراء وجرش من مدن البوادي التي يطلق عليها البعض من الباحثين مدن القوافل. وكان ابناء هذه المدن يتنقلون ويتصلون بالغير فتكون لديهم فن له سماته الخاصة. وأخذ الباحثون يسمونه بفن مدن الحدود لوقوع تلك المدن في البوادي الفاصلة بين امبراطوريتي الرومان والفرتيين. وباستيلاء الساساتيين على العراق ضعفت المقومات لوجود الحضر فما ان استولى عليها سابور الأول في عام 240/241 م حتى اختفت عن مسرح التاريخ فجأة والى يومنا هذا. مدينة الحضر مستديرة تقريباً، فطرها نحو كيلومترين، يحيط بها خندق عميق الجانب وسور مدعم ب 163 برجاً وبعدد من القلاع ويتكون هذا السور من جدارين عرض كل منهما 3م و5.2م والمسافة بينهما 12م من عند البوابة الشمالية. ويوجد خط يبدو انه ترابي يلف بالمدينة من كل الجهات على بعد نصف كيلومتر خارج السور ولا يعرف ان كان سوراً خارجياً ام حلقة احكم بها العدو حصاره للمدينة. وللمدينة اربعة ابواب مزورة الى يمين الداخل واقعة على سورها وهي في الاتجاهات الأربعة الرئيسية تقريباً. وتمتد من الأبواب شوارع الى وسط المدينة حيث يقوم المعبد الكبير الذي تشمخ جدرانه عالية فوق الاطلال فترى من مسافات بعيدة من جميع الجهات. ادرك الحضريون بتخطيط مدينتهم بهذا الأسلوب أموراً مهمة منها ان السور الدائري يعني اكبر مساحة في اقصر خط، وان الأبراج التي تكون على السور الدائري اصلح للدفاع لأن مدى الرؤية من المزاغل او الشرفات التي على تلك الابراج تكون بزاوية منفرجة واسعة. وعرفوا كذلك منفعة البوابات المزورة نحو يمين الداخل في ايام الحصار لأن اقتحامها اصعب كثيراً من اقتحام البوابات المستقيمة، وجعلوا المعبد الكبير مركزاً للشكل الدائري لمدينتهم لأن ذلك المعبد كان ايضاً مقراً لندواتهم واجتماعاتهم فيسهل عليهم وهم في المركز ادارة الدفاع عن المدينة اين كان الهجوم عليها. وتعد الحضر في هذه الصفات نموذجاً أولياً لما اتصفت به مدينة بغداد المدورة التي شيدها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بعد ذلك بنحو ستة قرون وجعلها مدورة، وشيد في مركزها قصره والمسجد الجامع وجعل ابوابها مزورة. في نهاية القرن التاسع عشر، قام القنصل الفرنسي في الموصل اميل بوتا بإجراء بعض التنقيبات في هذه المدينة. كما كان البحاثة الألماني والتر اندريه من بين ابرز المنقبين القدامى الذين تابعوا آثار مدينة الحضر، اذ قام بتفحص المدينة كاملة، وأخذ مقاييسها، ورسم تصاميمها بصورة دقيقة، وسحب لها صوراً فوتوغرافية، ووضع لها خرائط مفصلة. وبدأت مديرية الآثار العامة في العراق حملة كبيرة للتنقيب في هذه المدينة العربية بدأت عام 1951 ولم تتوقف الا مع بداية حرب الخليج. فحين زرتها عام 1990، وكنت اعمل وقتها في مشروع ري الجزيرة الشمالي، كانت ورشة العمل فيها لا تزال مستمرة. في موسم العمل رقم 16 عام 1970 انتهت بعض مراحل اعمال الصيانة وتم العثور على تمثال لهرقل بحجم اكبر من الحجم الطبيعي، والواح منحوتة، ومجموعة تماثيل اخرى، منها تمثال برونزي لهرقل. واهم ما اكتشف في هذا الموسم هو منجنيق النار، وهو كامل، ويتألف من بدن وأربع عجلات وعتلة القذف، وهو مصنوع من خشب الزان، ومغلف بصفائح من البرونز. وقد عثر عليه بين جداري السور الداخلي المزدوج من البوابة الشمالية للمدينة، قرب الجدار الفاصل الغربي، وهو الآن من معروضات متحف الموصل. قبل الحديث عن منجنيق الحضر، لا بد لنا من المامة قصيرة عن معنى المنجنيق واصله. جاء في معاجم اللغة ان كلمة منجنيق فارسية معربة وانها مكونة من من جه نيك اي أنا ما اجودني كما ان كلمة منجنيق يقابلها في الانكليزية Mangonee. اما عن اصل المنجنيق فقد اختلف فيه المؤرخون وعلماء الآثار والتاريخ، فرده البعض منهم الى اصول بيزنطية ورده آخرون الى أصول فارسية، فالمؤرخ البيزنطي اميانوس مارسلينوس، احد مؤرخي القرن الرابع الميلادي، يرجع بالمنجنيق الى اصل بيزنطي، وأشار في معرض حديثه عن آلات الحصار الى نوع من المنجنيق، ووصفه بأنه ذو الوتر المفرد وتتألف اجهزته من حبل مصنوع من مادة وترية، اخذت من امعاء الحيوان، وهذا الحبل يمر افقياً بين جانبي ضلعي اطار آلة تعمل على ذراع واحدة بواسطة مقلاع جلدي وصدمة الارتداد كانت تستلم على حصد محشي بالتبن. ونسب الحسن عبدالله صاحب كتاب "آثار الأول في تدبير الدول" اختراع المنجنيق الى الفرس حين قال عنهم "وأهل مدنهم متفوقون يردون بالحجر المصيب والمنجنيق من استنباطهم". وهو يقول في وصف المجانيق: "منه ما هو بلوالب ومنه ما هو بدائرة وفيه ثقالات من الرصاص. اذا دار فيها الرجال رفعت السهم، فإذا تركت رمت، فلا يحتاج الى رجال كثيرة، وقد يتخذ بقسى كبار موتورة وتجعل قبضاتها الى الأرض مشدودة في قواعد المنجنيق وفي اوتارها حبال مشدودة الى حلقة المنجنيق، وتحرك بزيادة قائم حتى تفتح اوتارها ويحرك الحجر بالكفة ثم يرمى ... واذا اراد الرمي بقدور النفط وكان ضعيفاً ثقله بالرصاص والأحجار، وان كان يرمي بالنفط والنار اتخذ له كفة الزرد وحبلاً بسلاسل". هذا الكلام لا يمكن اعتباره المحصلة النهائية للدراسات في هذا المجال، ولا يعد وثيقة ثابتة في اصل المنجنيق خصوصاً ان هذه الأحكام ليست مدعمة بالأدلة المادية. فهناك نصوص احتوت مؤشرات واضحة حول معرفة العرب بهذا السلاح لا سيما اكتشاف المنجنيق الذي نحن بصدده الذي يعد اقدم منجنيق عرف في العالم. فالطبري مثلاً يذكر في تاريخه "ان عروة بن مسعود وغيلان بن مسلمة لم يشهدا مع الرسول وقعة حنين ولا حصار الطائف لأنهما كانا يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق في بلدة جرش". اما احسان هندي صاحب كتاب "الحياة العسكرية عند العرب" فيقول ما يؤيد بأن هذا السلاح عرفه العرب منذ العصر الجاهلي، اذ افاد أن احد ملوك التنوخيين يقال له جذيمة الأبرش، وهو مؤسس دولة التنوخيين، كان أول من استعمل المنجنيق في الجاهلية. وقد يكون في الاكتشاف الأخير للمنجنيق في مدينة الحضر العربية ما يساعدنا في الوصول الى رأي مقبول حول حقيقة المنجنيق واصله. ذلك ان مدينة الحضر كما ذكرنا كانت ذات شأن عظيم في الحروب التي نشبت بين الفرتيين والرومان. وكانت مسرحاً للمعارك بين الأمبراطوريتين الكبيرتين. وقد يتبادر الى ذهن البعض أن وجود هذا السلاح في الحضر لا يعني انه اختراع عربي او من اصل عربي، فلربما كان مما حمله معهم الفرتيون أو الرومان واستعملوه في معاركهم، الا ان طبيعة مدينة الحضر بتحصيناتها المنيعة ووضعها العسكري، ومحاولة الرومان المتكررة للسيطرة عليها، لا بد ان يكون لها سلاح تستعد به للدفاع أو الهجوم حماية لنفسها. ومما يلفت انتباه الباحث انه توجد حقيقة مهمة اشار اليها الرومان انفسهم وهي ان اهل الحضر كانوا يقاتلون آنذاك بنوع من القذائف النارية. ومن الطبيعي ان يكون لهذه القذائف آلة خاصة لقذفها، وليس من المستبعد ان تكون هذه الآلة المنجنيق نفسه. ففي العام 116م حاصر القائد الروماني تراغان الحضر بيد ان مساعيه لاقتحام اسوارها باءت بالفشل فتخلى عنها... ويعزي المؤرخ الروماني ديوكاسيوس ذلك الفشل الى شدة الحر وقلة المياه وكثرة الذباب. ويبدو ان تراغان اقيم له في الحضر تمثال من الرخام يرمز الى سطوته، ووجد رأس ذلك التمثال في المعبد الكبير ويظن ان الحضريين قطعوه ووضعوه في ذلك المكان للتشهير بفشله وللتمجيد بصمودهم. ولم يكن خط سبتيموس سفيروس بأفضل من حظ سلفه اذ انه دحر ولقي معظم جنوده حتفهم بقذائف النار التي اشتهرت بها الحضر وتحطمت آلات الحصار التي كان يستخدمها. يتألف منجنيق الحضر من الاقسام الآتية: القاعدة، الدواليب والمكابح، منظومة الرمي أو القذف، مركز الموازنة والمصد، ومجموعة المواد المقذوفة. - القاعدة: تتألف قاعدة المنجنيق من الخشب السميك وهي قاعدة مستطيلة الشكل ابعادها 41.2 م طولاً و95.0 سم عرضاً. والجزء العلوي من المستطيل مغطى بطبقة من صفائح معدن النحاس مثبتة بمجموعة من المسامير ذات احجام وأشكال مختلفة، وقد عثر على نماذج من هذه المسامير بالقرب من المنجنيق. وثبتت زوايا المستطيل بطبقة من الحديد لحفظه من الاهتزاز والتفكك اثناء المسير والرمي. ويوجد في مقدمة ومؤخرة القاعدة فرضتان متشابهتان يستفاد منهما في تغيير جهة الرمي. - الدواليب والمكابح: يتحرك المنجنيق على أربعة دواليب ذات اصابع، وكل دولاب يحتوي على 8 اصابع وكل اصبع مثبت في الفلنجة بمسمارين. ويوجد في الفلنجة نتوءين تدخل فيهما دليل المحور. ولغرض تأمين الموازنة وعدم السماح للمنجنيق بالحركة اثناء الرمي زود كل دولاب بكابح. كما ان الدولاب مزود من الخارج بقضيب قطري على الدولاب يستفاد منه في تخليص المنجنيق من الأماكن الوعرة أو الموحلة في حال عدم امكان الحيوانات من سحبه. - مركز الموازنة والمصد: تقع لوحة مركز الموازنة عند منتصف القاعدة، وهي مستطيلة الشكل ومسقطها عمودي على القاعدة، واللوحة مصنوعة من المعدن لكي تتحمل صدمة عتلة الرمي، ولكي تؤمن الموازنة. ويستفاد من لوحة الموازنة على حمل الذراع وعتلة الرمي اذ يوجد في القسم العلوي منها فتحة يمر فيها الوتر الموصل الى عتلة الرمي المؤلفة من ذراع قابل للحركة مثبت من جهة في اسفل القاعدة بينما ينتهي من الناحية الأخرى بكفة المنجنيق وهي اشبه ما يكون بالطاسة المصنوعة من المعدن. وفي هذه الكفة أو الطاسة توضع المواد التي يراد قذفها. - مجموعة آلية الرمي: تتألف آلية الرمي من مجموعتين الأولى تقع في الجانب الأيمن ومؤلفة من أربعة مسامير مثبتة بالقاعدة ومشدودة بوتر غليظ تجتمع كلها في نقطة على شكل علامة ×. ومن منتصف هذه العلامة تتجه الى الجانب الأيمن وتشد الى مسمار متحرك. ويعتبر الوتران الجانبيان الأيمن والأيسر الوتر الزيّار لعتلة الرمي، فكلما شد الوتر المربوط من عتلة الرمي الى الآلية الخلفية توتر لدينا وتران، الوتر المار ذكره، والوتر الموصول بين مركز الموازنة وعتلة الرمي، اي ان القوة الدافعة فيها تأتي من شدة الوتر ثم تركه يعود الى حاله الطبيعية قاطعاً ما تحمله كفة الرمي الى بعد يتناسب مع قوة الشد اي من تزيير الوتر، ولغرض تقدير درجة شدة. من المحتمل انه كان هناك لسان او ظفر الى الجانب الأيمن من المنجنيق لكي يساعد على تنظيمه. أما المجموعة الثانية من مجموعة الرمي فتقع خلف كتلة الموازنة أو المصد وتحت عتلة الرمي اي في الجهة اليسرى. - مجموعة المواد المقذوفة: عثر في مدينة الحضر على كميات من الاحجار على شكل كرات، كما عثر ايضاً على مجموعة معدنية، يعتقد انها تشكل المقذوفات المستعملة في المنجنيق. والكرات الحجرية على احجام ثلاثة، كبيرة ومتوسطة وصغيرة، وأوزانها كالآتي: كيلو ونصف كيلو، وربع كيلو، أما اقطارها فهي 13و10و7 سم. أما القذائف المعدنية فهي على شكل اسطوانات تزن كل واحدة حوالى نصف كلغ. ولم تقتصر المواد التي تستخدم كقذائف في المنجنيق على الكرات الحجرية والاسطوانات المعدنية، بل كانت الى جانب ذلك مواد اشد خطورة وأكثر وقعاً على العدو، هي القذائف النارية، وكان الرومان قد اشاروا اليها في اخبارهم حيث ورد بأن اهل الحضر كانوا يحاربون بنوع غريب من النيران المخيفة والمرعبة، والمقصود بها هي هذه القذائف النارية المصنوعة من قماش مبلل بالنفط على حجر والقار السائل التي لا يمكن السيطرة عليها واطفائها بسهولة. وعثر المنقبون على آثار القار في امكان قريبة من المكان الذي تم العثور فيه على المنجنيق. ان خلاصة ما وصل اليه استقصاء البحث تظهر لنا الملاحظات ان منجنيق الحضر يعتبر اكثر تطوراً من الوصف الذي قدمه المؤرخون بشأن المجانيق القديمة البيزنطية والفارسية، للأمور الآتية: قابليته للحركة، له وتران للسحب مما يزيد في قوة دفع المقذوف وللتعويض عن احدهما في حال انقطاعه، اذ يستمر المنجنيق بالرمي ولو بكفاءة اقل. وان المصد معدني، وفي وسط المنجنيق مما يؤكد صحة التقدير الحسابي للمصمم بعدم اهتزاز أو انقلاب المنجنيق اثناء الرمي أو عند المسير. وأخيراً يعتمد في الرمي على وضع المقذوف في طاسة وليس على مقلاع جلدي كما هو الحال في المنجنيق البيزنطي، مما يساعد على رمي المقذوفات النارية.