بلحيته البيضاء المنقطة بالأسود القليل، وببزة هادئة الألوان لا تغيب عنها "الموضة"، حضر الدكتور محمد شعلان في حلقة قدمتها الفنانة هلا صادق ضمن برنامج "يا هلا" خلال أيار مايو الماضي وتناولت مشكلة "إدمان" البانغو والحشيش في أوساط الشباب المصري. وبصوت فيه بعض الخشونة والكثير من النصح الدافئ، خرج شعلان على الكليشيهات البدائية من التخويف والترهيب في شأن الحشيش، مشيراً الى الوقائع العلمية عن آثاره، وإلى تغيير النظرة في الغرب وأوروبا خصوصاً إلى تناول الماريجوانا على سبيل المثال. لم يخل كلام الطبيب النفساني من مداعبة للأوتار الحماسية عند الحضور المشارك في تلك الحلقة، وجلّهم من الشباب. فأشار الى خطر الكحول وإدمانها، وقارنهما بالآثار الأقل خطراً و"إدمانية"، وبحد كبير، والناجمة عن تناول الحشيش. ثم أعطى مقارنة بأن الكحول تعفى من الترهيب "فكأنها قصة المعايير المزدوجة نفسها التي تعفي إسرائيل من العقاب على عدوانيتها، فيما يحاصر العراق ويعاقب". فعلت المقارنة فعلها في تحريك العواطف المباشرة والمتوترة للجمهور الشاب في مصر. أ.م هل يأتي يوم يعاقب القانون المصري كل من يثبت انه احتسى كأساً من الفودكا او كوباً من البيرة في بار او ناد ليلي؟ لعل لا شيء يثير استغراب الدكتور محمد شعلان، استاذ الطب النفسي في جامعة الازهر ومدير احد مراكز معالجة الادمان في القاهرة، قدر عدم تحوّط الاعلام حيال صورة الخمر، في مقابل صور تهويلية عن الحشيش. وينصب استغرابه على صورة الاستعمال في وسائل الاعلام، مع تمييز الأمر عن الادمان الذي هو ظاهرة مرضية متعددة الابعاد. ويرى ان الاعلام يقدّم صورة "مخففة" للكحوليات، كأنه يغفل ان ادمانها لا يقل شراسة عن الحشيش، بل ويفوقه كثيراً. يقول شعلان: "هناك ادوية مهدئة اكتشفت قبل نحو 30 عاماً، وأضحت تستعمل في شكل غير طبي، ولها تأثير الكحول نفسه، وإن كانت اقل ضرراً. والغريب ان الكحول تصرف دون "روشتة طبيب". ويشير بإصبع الاتهام الى الثقافة الغربية بأنها السبب وراء اباحة الكحول باعتباره واجهة اجتماعية، ومشروباً يتناول للترفيه، على رغم انه اسوأ من أي نوع آخر من المخدرات، "فهو أسوأ من الأفيون والكوكايين والهيرويين في ما يتعلق بالصحة النفسية والبدنية، إذ يؤدي الى تلف الكبد وتصلب الشرايين وضمور خلايا المخ، وتدهور العقل". الاستعمار وثقافته الإدمانية؟ ويعود شعلان بالقضية الى جذورها. ففي تراث كل شعب مادة تلجأ اليها قلة من غير القادرين على التكيف مع المجتمع، وتكون تلك المادة الكيميائية طريقته للهرب. ولكل شعب مادته المفضلة، وفي الشرق الاوسط تلك المادة هي الحشيش وفي الغرب "اختاروا الخمر، لأن الاستعمار اراد منا ان نتبع نمطه، فأصدر القوانين المحرمة لتعاطي الحشيش، واباح الخمر" .... ويؤمن شعلان بأن ذلك نوع من الاستعمار الثقافي الادماني. "فبدلاً من ان ندمن مادتنا الطبيعية التي تزرع في الشرق، نستورد منهم الويسكي والسكوتش والجن والفودكا واصبح شيئاً محترماً ان يدعو أحدهم شخصاً إلى كأس من الخمر، ولكن من غير المحترم ان يدعوه الى نفس حشيش"! ويستطرد في تعضيد وجهة نظره: "ما دام البعض سيتعاطى الحشيش سواء كان مسموحاً أو ممنوعاً، فليتعاطه علناً، على ان نتيح له فرص العلاج، وبدلاً من ان يدخل ابني السجن لانه دخن سيجارة حشيش، اتيح له فرصة العلاج، لان السجن اسوأ من الحشيش". ويضيف شعلان: "سن قوانين مخالفة للتراث توهين للقانون". ويعتقد في حال السماح بتعاطي الحشيش، أن "متعاطيه سينعمون براحة البال، ونسبة منهم ستطلب العلاج من دون استحياء من ادمانه، وقد يقبل على تجربته البعض، ما يعني ان نسبة استخدامه قد تزيد بين 10 و15 في المئة". وتسأله "الحياة" عن ردود الفعل الرسمية وغير الرسمية على دعوته تلك، فيقول: "على المستوى الرسمي، اجري معي تحقيق في الجامعة من دون ان اعلم انه تحقيق، بل كان في شكل مناقشة، لتبادل وجهات النظر". وعلى المستوى غير الرسمي، تتعرض فكرته للكثير من الانتقاد والمعارضة، خصوصاً من زملائه العاملين في المجال نفسه. وسواء أقبل البعض على احتساء الخمر، او تدخين سيجارة حشيش، او شم حفنة هيرويين او حتى شرب فنجان من القهوة، فإن الجميع يحاول ان يهرب باللجوء الى مادة معينة، فلماذا؟ يقول شعلان: "لدى كل منا حاجة إلى الهرب من الوعي الحالي في شكل مصطنع، لانه غير قادر على الهرب في شكل طبيعي". ويعدد وسائل الهرب "الطبيعي": التأمل والتعبد والتصوف والرياضة والفن والابداع والكتابة. الا انه يعترف ان وسائل الهرب "الطبيعي" كثيراً ما تعجز عن قضاء الغرض، والدليل ان مبدعين وفنانين كثيرين يحتسون الخمر مثلاً، لان القادر على الاكتفاء بوسائل الطبيعة شخص مثالي، وهذا بعيد من الواقع. ويدعو شعلان الى الاعتراف بأن نسبة من المواطنين ستظل مدمنة. ويضرب مثالاً لنظريته، ما حدث في انكلترا حيث جُرب توفير المادة الادمانية في شكل نظيف للمدمن، حتى لا يصاب بأمراض في الكبد والكلى، خوفاً من ان تتكبد وزارة الصحة كلفة علاجه، شرط ان يسجل نفسه كمدمن. ويعود الى المعنى المتعارف عليه والأكثر شيوعاً للادمان، وهو ادمان المواد الكيميائية التي نسميها مخدرات: "هي تسمية خاطئة، لان ليست كل المواد الكيميائية التي تؤدي الى الادمان مخدرة، ثم ان كلمة ادمان نفسها تحولت تعلقاً او اعتماداً". ويوضح ان الادمان كان ينطبق على عدد من المواد الكيميائية التي تترك آثاراً جسمانية واضحة، لكن هناك ادماناً لا يترك آثاراً جسمانية. المواد الإعتمادية وتصنيفها هذا التعريف اذاً في حاجة الى التعرف الى أنواع المواد المؤثرة في الوعي. فهناك ما يثبط الوعي، وما يثير الوعي ويشعله، وهناك بين بين الذي يغير الوعي. والمثبطات تبدأ من اليانسون ومشروبات الاعشاب الاخرى المهدئة، وهي غير ممنوعة، وتمر بمجموعتين تسببان مشكلة في المجتمع: الكحوليات والمهدئات الصغرى، وهي مشتقات Benzodia-zepines البنزوديازبين، كمثل الفاليوم، وهذه أدوية اسيء استخدامها، ولها تأثير الكحول نفسه، وإن اقل ضرراً. والدرجة الثالثة في مجموعة المثبطات هي مشتقات الأفيون الكثيرة، من هيرويين وبيثيدين، وهي تهدئ من الاحساس بالألم، وخطورتها تكمن في انها تسبب ادماناً فيزيائياً، بمعنى أنها في حال الاقلاع عنها تسبب اعراضاً مثل الصداع والمغص وعدم القدرة على النوم. وأخف درجات المجموعة الثانية المنشطات الشاي والقهوة والى حد اقل الكاكاو. وهي تؤدي إلى الادمان وتؤثر في الأعصاب. أما الدرجة الأعلى فهي مشتقات الإمفيتامين Amphetamine مواد تم اصطناعها أصلا كعلاج للاكتئاب، ولكن اتضح ان تأثيرها وقتي وسريع، ويؤدي الى التعلق بها. ويحل في درجة مساوية الكوكايين Cocaine وتكمن خطورته في ان النشوة المصاحبة له تجعل الانسان بالغ التعلق به. اما المهلوسات فلها درجات ثلاث: الاولى وهي الاخف تكمن في "جوزة الطيب" التي تباع لدى البقالين والعطارين وتستخدم توابل للطعام، فإذا زاد استهلاك الفرد منها تؤدي الى ما يشبه الهلوسة. وتحل ثانية مشتقات القنب بانغو وماريجوانا وغيرهما وهي تذيب حدود الوعي، فيخلط متعاطيها بين ما هو داخلي وخارجي. وأخيراً هناك عقاقير الهلوسة، واشهرها LSD، التي تذيب حدود الوعي الى حد كبير، فيذكر متعاطيها احداثاً وقعت في الماضي، قد تعود الى لحظة الميلاد وما قبلها، وهي لا تسبب ادماناً فيزيولوجياً لانه خبرة عميقة تهز الانسان، وفي العادة لا يقوى على تكرارها. ويؤكد شعلان ان هناك حداً فاصلاً بين الادمان والاستخدام، فهناك مثلاً من يحتسي كأساً او كأسين من الخمر في المناسبات. ويفجر معلومة اخرى، وهي ان خطر التبغ يفوق الأخطار الناجمة على كل انواع المخدرات مجتمعة. فعدد الوفيات الناجمة عن تدخين السجائر يفوق عدد الوفيات بسبب تعاطي المخدرات، على أنواعها "وعلى رغم ذلك فالسجائر مسموح بيعها ويتم الاعلان عنها، بل ان الحكومة تسهم في انتاجها". ويرفض شعلان تفسير زيادة الاقبال على استخدام "المواد المؤثرة في الوعي" في ضوء نظرية "المؤامرة"، التي يصفها باسلوب "العاجزين عن المواجهة". ويقول: "تدهور العالم الاسلامي ليس نتيجة تآمر الغرب ضده، لكنه نتيجة لتدهور الحضارة الاسلامية عبر القرون الماضية". والخروج من دائرة الادمان يكمن - في تقدير شعلان - في الروحانية. فيقول: "اللجوء الى الدين والايمان بوجود قوة عظمى قادرة على انقاذك، هو الحل".