} "الوحدة تبدو مطلباً لدول اوروبا. والألمانيتان توحدتا. وكثير من الدول تبحث عن تكتلات اقتصادية أو سياسية مع دول اخرى قد لا تمت اليها بصلة جوهرية. فالاحرى بالدول العربية التي تربطها روابط تاريخية عديدة أن تتطلع الى تحقيق الوحدة ولو على مراحل واذا لم تتحقق حتى الآن فهي تبقى هدفاً مشروعاً". من كلمة الدكتور بشار الأسد في اختتام المؤتمر القطري التاسع لحزب البعث في سورية لا نقاش مع الخلاصة التي يتوصل اليها الفريق الدكتور بشار الأسد ومؤداها ضرورة بقاء الوحدة هدفاً مشروعاً. وإذا كان من نقاش فهو يتناول كيفية جعل الوحدة هدفاً عملياً. هل اليوم الذي مضى قادنا الى مزيد من الاتحاد أم الى مزيد من الانقسام؟ عندما يلح هذا السؤال على العرب، نخباً وحكاماً وشعوباً، يكون حصل تقدم في الاتجاه الصحيح. غير ان هذه الوحدة كانت هدفاً منذ عقود. ولذا فإن النقاش ضروري حول أسباب تمنّعها. لماذا حصل ما حصل؟ واللافت أن هناك شبه اجماع على استحضار المثال الأوروبي. فلقد أسست اتفاقية الحديد والصلب لمنحى عام في حين بقيت المعاهدات الوحدوية العربية حبراً على ورق في أحسن التقديرات. ومع الأهمية الخاصة للوحدة المصرية - السورية فإن احباطها لم يأخذ حقه من التفكير. وبما أن الكلام الذي قاله الدكتور بشار جاء في اختتام مؤتمر فإن مسؤولية حزب البعث الماضية لم تأخذ حيزاً كافياً من الاهتمام وكذلك مسؤوليته الراهنة وهو الحاكم في بلدين جارين. لم يكن ممكناً لهذا المؤتمر أن يؤدي وظيفة من هذا النوع. ولكن الأجواء التي سبقته، وأحاطت به، والكلام الذي قيل في ختامه، ان هذه كلها توحي بوجود استعداد ما لمراجعة "أقانيم" تحولت في الممارسة الى نقائضها. ان العبارة الواردة على لسان الرئيس السوري المقبل، والأمين القطري للحزب، تشي بانفتاح يستدعي نقاشاً. وهذه فرصة يجب ألا تفوّت. "الوحدة تبدو مطلباً لدول أوروبا". تستوجب هذه الكلمات القليلة تدقيقاً كبيراً. فنحن أمام دول - أمم حققت وحداتها القومية وانتجت، في السابق، نظريات الهمت بعضها تيارات في الحركة القومية العربية. فهل يعني كلام الأسد دعوة الى انتقال في الوعي من استلهام نموذج الوحدة القومية الفرنسية أو الالمانية أو الايطالية او غيرها الى نموذج "الوحدة الأوروبية". اذا كان هذا هو المعنى فنحن امام انعطافة ايديولوجية بارزة بمعايير حزب البعث. ومع ذلك فإن التدقيق ضروري. وربما هو ضروري بسبب ذلك. ان الوحدة ليست، في الواقع، مطلباً لدول أوروبا: فلقد تحققت وحدة اقتصادية بين بعض هذه الدول. ووحدة نقدية بين بعضها على الأقل. غير ان هذه الوحدة في مجالات الأمن والسياسة الخارجية بعيدة المنال جداً ومرفوضة من كثيرين. والأمر نفسه بالنسبة الى التشريعات الاجتماعية. وليس سراً أن دولاً عديدة ترفض هذا القدر مما تحقق وأخرى ترفض الانضمام الى "يورو" أو الى "شينغن". على المسرح الأوروبي تبدو أكثر الأفكار غلواً في "الاتحادية" وليس الوحدة تلك التي أطلقها قبل أسابيع وزير خارجية المانيا يوشكا فيشر حين دعا الى "فدرالية". ولقد أقامت هذه الدعوة الدنيا ولم تقعدها. ولم يتجاوب معها كثيرون، وهي أصلاً لم تكن موجهة الى الجميع الى "نواة صلبة" فقط، ووجد في فرنسا، مثلاً، وزير الداخلية جان بيار شوفنمان من يعتبرها محاولة للهرب الى "ما بعد القومية" من أجل حل المشكلة التي تطرحها على الألمان هويتهم الوطنية المثقلة بالإرث النازي راجع مناظرة فيشر - شوفنمان في "لوموند" - عدد 21 حزيران/ يونيو. طرح فيشر فكرته في ظرف حساس. فأوروبا الغربية تعيش مرحلة مفصلية بعد توسعها الأخير وانصرافها الى وضع معايير التوسيع الجديد الذي ينقلها، خلال سنوات، لتضم حوالى ثلاثين دولة. والسجال مفتوح حول المؤسسات المشتركة القادرة على ادارة العلاقات بين الأمم - الدول الأوروبية وما اذا كانت هذه المؤسسات دافعة في اتجاه الفدرالية أم لا: صلاحيات البرلمان، ماهية الأكثرية الموصوفة في المجلس الأوروبي، كيفية اتخاذ القرارات ضمن المفوضية، إحجام الدول الكبرى والأقل عدداً، المكوّن الدفاعي وصلته بحلف شمال الأطلسي، التمييز بين ما هو سيادي وما هو مشترك في الشؤون الخارجية... ان النقاش خصب وغني وجدي. ولقد كان كذلك على الدوام مقارنة بمناقشاتنا لقضايانا. ولذا فإن التقدم كان بطيئاً... دؤوباً. لم يكن بديهياً اكتشاف المصالح المشتركة بين عدد متنام باستمرار من الدول والشعوب. وزاد من صعوبة ذلك تدخل عاملين: الأول هو العولمة التي "تهدد" السيادات الوطنية، والثاني هو اللامركزية المتكاثر اعتمادها حتى في دول يعقوبية مثل فرنسا. ولقد كان من نتائج تضافر هذين العاملين اثارة الخوف على الهويات الوطنية الخاصة بدليل صعود اليمين القومي المتطرف واثارة هلع الفئات المفقرة والهامشية بدليل تزايد الاحتجاجات ضد آثار العولمة وتحرير الاقتصاد. الدولة القطرية اذا كنا نريد لنموذجنا الوحدوي الجديد ان يقتدي المثال الأوروبي فيجب التوقف عند عنوان مهم. ان التوجه الأوروبي نحو شكل اتحادي هو مشروع تقدم عليه، طواعية، الدول "القطرية" الثابتة والراسخة. فهذه الدول، بصفتها المجال الوحيد حتى الآن لممارسة السيادة الشعبية وحق الاختيار الوطني، هي، بالضبط، التي تشعر بالقدرة على التخلي الطوعي التدريجي عن بعض سيادتها وصلاحياتها. ويمكن القول، والحال هذه، ان الدولة القطرية الديموقراطية هي الممر الاجباري الى الاتحاد. فهي تشعر أنها تمثّل شعبها حقاً، وتعرّض خياراتها كلها بما في ذلك الأوروبية الى الاختيار الانتخابي. ولذا فهي تتقدم نحو تخويل صلاحياتها لهيئة أو "كيان" أعلى فاعلة ذلك على قاعدة الانحياز الأكثري. ولا يعني هذا الانحياز الأكثري المزاج الشعبي في لحظة راهنة استفتاء فقط وإنما حصيلة عمليات اقتراع حرة وديموقراطية فعلاً تكون أوروبا، معظم الأحيان، في صلبها. هل يتضمن كلام الدكتور بشار الأسد هذه المعاني كلها عندما يدافع عن شعار الوحدة العربية بالقول ان "الوحدة تبدو مطلباً لدول أوروبا؟". فهذه المعاني تعني نظرة اخرى الى الدول القطرية، والى الديموقراطية داخلها، والى ضرورة قيادة الحياة الفكرية والسياسية والاقتصادية فيها نحو تطور متواز يجعلها متقاربة البرلمان الأوروبي منقسم الى "عائلات" تضم احزاباً من بلدان مختلفة. ويكفي ان نستذكر حجم النقاشات والتضحيات التي جرت تحت عنوان "معايير ماستريخت" لندرك صعوبة التوصل الى "تطور متواز" يجعل جانباً من جوانب الوحدة - العملة - قابلاً للتحقق. الاندماج وما بعد القومية إذا كانت "الوحدة تبدو مطلباً لدول أوروبا" فهذا يعني أن القارة على عتبة دخول مرحلة ما بعد القومية. فكيف ينطبق هذا التوصيف على العرب الذي يعيشون، عبر التجزئة، مرحلة ما دون القومية، وعبر التصدعات الداخلية، مرحلة ما قبل الوطنية؟ وهل تجب الاستفادة من مظاهر ضعف الدولة الوطنية للقفز مباشرة نحو الطرح الوحدوي القومي ام انه من الأفضل تدعيم الدولة القطرية والوحدات الوطنية الداخلية في سياق وعي الهدف القومي المشروع وإنما البعيد؟ يبدو، بعد مرارة التجارب، أن الخيار الثاني هو الأفضل وهو المتاح فعلاً في الأصل. ومن المؤكد أن العرب يدفعون غالياً جداً ثمن التجزئة المتفاقمة وسيدفعون أكثر اذا زاد انخراطهم في الاقتصاد العالمي والسياسة العالمية والهندسة الاستراتيجية العالمية منفردين وكل دولة على حدة. ولكن المؤكد، في المقابل، انهم دفعوا ثمن الجموح الوحدوي أو ثمن تصور للوحدة غير عملي وغير مرتبط بتوليد قناعات مصلحية مباشرة للمواطنين. الدخول العراقي الى الكويت نموذج سيئ. و"الوحدات" على طريقة العقيد معمر القذافي مضرّة بفكرة الوحدة. وحتى التنسيق بين المسارات العربية التفاوضية مع اسرائيل انهار. وكان يمكن للعلاقات اللبنانية - السورية ان تقدم تصوراً مغايراً غير انها لم تفعل ذلك كفاية. فهي انبنت على قاعدة هرم امنية - سياسية وقمة هرم اقتصادية واستمرت كذلك. ولذا بقيت معرّضة امام التحولات الاقليمية من نوع ما يجري الآن. لم تستطع ان تنتج مصالح شعبية واسعة وملموسة تعيش حال استنفار عند تعرضها للاهتزاز. وهذا بند مطروح على جدول اعمال الدولتين بقوة. ويخطئ من يتجاهله برفض الاعتراف بالمشكلات أو برفض الإقرار بالايجابيات وآخرها تحرير الجنوب المحتل. ان درجة الاندماج بين الدول الأوروبية أعلى بما لا يقاس مما هي عليه بين الدول العربية. ولذلك فهي توفر قاعدة صلبة لتوجه نحو مزيد من الاتحاد. لا بل ثمة مناطق حدودية بين بلدان اوروبية تتوزع حياتها على بلدين أو أكثر وتشكل، بالتالي، صلات وصل متينة في حين أن مناطقنا الحدودية غالباً ما تكون مصدر توتير للعلاقات البينية. ان هذا القدر من الاندماج هو الذي يوفر مصلحة لفرنسا أو لألمانيا وللفرنسيين والألمان مثلاً في مساعدة ايرلندا أو البرتغال أو اليونان. فهذه المساعدة تعود لتصب في دورة اقتصادية اجمالية واحدة الى حد بعيد. وليست هذه هي الحال العربية. فعندما تدفع الميزانية الاتحادية لاسبانيا فإنها تكون تدفع، بشكل أو بآخر، للدول التي تسهم، بنسب متفاوتة ومدروسة، في هذه الميزانية. ويصبح الأمر مبرراً بالتالي امام المواطن - دافع الضرائب. أما اذا دفعت دولة الامارات العربية المتحدة مثلاً الى السودان فإن الأمر أقرب الى التبرع منه الى تعزيز حياة اقتصادية متجهة الى الاندماج. لقد أدى تقارب الأنظمة السياسية - الاقتصادية - الاجتماعية الى تعزيز اتجاه دول اوروبا نحو الاتحاد والتكامل. وكانت هذه الدول تطرح، في كل مرحلة، المشكلات الواجب حلها حين يكون تقاربها وفّر معطيات لهذا الحل. ومع ذلك فإن "الفكرة الأوروبية" تملك اعداء كثيرين لها في أوروبا بقدر ما نملك تصورات متباينة. بريطانيا ترى اليها بصفتها سوقاً مشتركة فحسب مثال "نافتا" وألمانيا ترغب في الاقتراب من الفدرالية، وفرنسا تميل الى الحديث عن "اتحاد بين أمم"، والدانمارك متحدثة، الخ... وفي هذا الوقت ثمة شكوى من غموض الفكرة، وعدم نجاحها في التعبئة الشعبية، وارتباطها بسياسات ليبرالية قصوى تجعلها جذابة للفئات الأغنى أكثر مما هي للفئات الأكثر فقراً وهشاشة. وبمقارنة بسيطة مع "الفكرة العربية" يبدو أن الأوروبيين أكثر برودة ومصلحية وعقلانية في تقاربهم، والعرب أكثر عاطفية وخطابية من "عروبتهم". لذا فإن الأولى تبدو على سكة توصل الى مكان في حين تراوح الثانية محلها ويقودها انفصال الخطاب عن الممارسة الى ارتكاسات مستمرة ومتلاحقة. الألمانيتان .. "والألمانيتان توحدتا" يقول الدكتور الأسد في معرض دفاعه عن ضرورة تمسك العرب بالوحدة كهدف مشروع. ان الاكثر دقة هو القول بأن نظام المانياالشرقية انهار في سياق الانهيار الشامل للأنظمة الاشتراكية. ان ألمان المانياالشرقية اسقطوا الجدار وارتموا في أحضان أشقائهم الغربيين. وتحولت الوحدة الألمانية، بهذا المعنى، حدثاً مرتبطاً بانعطافة جذرية في الوضع الدولي وتدشياًن لمرحلة تاريخية جديدة. انتصر نموذج المانيا الغربية على نموذج ألمانياالشرقية. ولكن هذا الانتصار لم يكن مجرد وهم أو تفوّق نظري وايديولوجي. والدليل ان بون اتخذت قراراً بدفع كلفة الوحدة الفورية في ظل تخوفات من ألا تستطيع تحمل ذلك. ولا يستطيع أحد تقدير مئات بلايين الدولارات التي أنفقت في السنوات العشر الأخيرة على هذا المشروع الجبار الذي يعتبر بعض "القوميين" العرب انهم قادرون على حلّه بالكلمات الطيبة والمشاعر الجيّاشة. وكذلك فإن أحداً لا يستطيع تقدير حجم المساهمة الأوروبية في ذلك. فلقد اضطرت المانيا الى رفع فوائدها لمواجهة التضخم واستدرار الأموال وجارتها الدول الأوروبية في ذلك. وأدى الأمر، كما هو معروف، الى ركود وزيادة في نسبة البطالة حيث شهد عقد التسعينات عودة الولاياتالمتحدة الى التقدم على أوروبا في وتيرة النمو. وكذلك كانت المانيا أكثر كرماً من غيرها مع موسكو من أجل أن تتساهل هذه مع الوحدة أولاً ثم مع انتقال المانيا الموحدة الى الحلف الغربي. وفي الوقت الذي كان بزوغ المانيا القوية يثير مخاوف عدة لدى الجيران وافق هؤلاء على "الدفع" من أجل تقنين المستقبل "الجرماني" أوروبياً ومنع شياطين الماضي من الانبعاث. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو: هل توجد حال عربية مستعدة لتحمل هذا العبء كله من أجل التوحد مع قطر عربي آخر... اكثر فقراً. ان الجواب سلبي على الأرجح خصوصاً أن "القدر" شاء أن تكون الدول العربية الأغنى هي الأقل عدداً والأفقر هي الأكثر عدداً عكس الحال الألمانية. المثال لا ينطبق اذاً على الوضع العربي. وبمقارنة مع حالة شبيهة به هي الحال اليمنية فإن عنصر المقارنة الوحيد ربما هو استمرار قدر من المرارة في المانياالشرقية كما في المحافظات الجنوبية سابقاً. يجب أن نضيف الى ذلك ان الوحدة اليمنية، ولأن الشطر الأكبر لا يملك الأدوات العامة لها تفوق مالي وثقافي ومؤسساتي ومجتمعي، لم يتم "تبنيها" الا بعد حرب ضارية وما زالت، مع الأسف، هشة. ان الدرس الألماني الرئيسي للعرب هو أن الشعور بالانتماء الواحد، والثقافة الواحدة، و"الشعب الواحد في دولتين"، واللغة الواحدة... هذه كلها عناصر ضرورية ولكنها غير كافية اذا لم يمتلك الوحدويون أدوات الوحدة. نعم الوحدة العربية هدف مشروع وضروري. وهي لن تتحقق الا على مراحل وبشكل يجمع تدخل الارادة، والتعبئة الواسعة، وتطويع الوقائع، والانحياز الشعبي الطوعي، وايكال الدور الحاسم للدول القطرية الديموقراطية. والواضح ان كلمة الدكتور بشار في ختام المؤتمر القطري التاسع للبعث هي خطوة في اتجاه امتلاك وعي مطابق لهذه القضية المحورية في حياة العرب. ولكن هل في الامكان اختتام هذا الاستعراض للكلمة من دون التساؤل عن مغزى تغييب الصراع مع اسرائيل عن تفكير يتناول الوحدة العربية. "الصراع طريق الوحدة"، "الوحدة طريق الصراع"، لقد تساجل هذان المفهومان طويلاً، فهل نحن أمام طرح جديد؟ * صحافي من أسرة "الحياة".