"إن الأشياء التي نقولها علانية اليوم، ما كان في وسعنا قبل فترة قليلة من الزمن أن نقولها، ولو حتى داخل جدران مغلقة. لقد تبدلت الأمور كثيراً، بل أكثر مما كان يمكن لنا أن نأمل حتى في أكثر أحلامنا تفاؤلاً". بهذه العبارات، تحدث في ذلك اليوم من العام 1988، واحد من مندوبي الحزب في قصر المؤتمرات السوفياتي. وهو حين توقف عن الكلام ليلتقط أنفاسه، لاحظ أن عدداً من زملائه المندوبين يحاول أن يصفق له، فما كان منه، إلا أن رفع كفه طالباً الصمت، قبل أن يكمل "والحقيقة أنني لم أعد أدري إذا كان هذا الأمر خيراً أو شراً، سيؤدي الى التقدم أم أنه سوف يعود بنا الى الوراء. في الأحوال كافة، قد يكون علينا أن ننتهز الفرصة ونقول ما عندنا، قبل أن تتبدل الأمور، الى الأسوأ أو الى الأحسن". كانت تلك الجلسة التي عقدها مجلس مندوبي الحزب الشيوعي السوفياتي في ذلك الحين، جلسة تاريخية. وهي وصلت الى ذروة تاريخيتها في التاسع والعشرين من حزيران يونيو، حين وقف ذات لحظة واحد من مندوبي بلدة سوفياتية تقع في واحدة من الجمهوريات السوفياتية الأوروبية ليقول إن "الناس الذين ازدهرت أوضاعهم في عهد الزعيم السابق ليونيد بريجنيف، صار من الضروري اليوم إبعادهم عن السلطة وعن أية مناصب عليا". هنا قاطعه ميخائيل غورباتشيف، زعيم الحزب والبلاد، ليسأله عما إذا كان يعني في كلامه شخصاً معيناً أو أشخاصاً معينين، فأشار الرجل الى أندريه غروميكو، السياسي المخضرم ذي الثمانية والسبعين عاماً، وقال: "إنني أعنيه". في ذلك الوقت كان غروميكو عيّن رئيساً للدولة، بعد أن خدم تلك الدولة عشرات السنين كوزير لخارجيتها. وكان الجديد في أمر الاتحاد السوفياتي يومها، أن مثل ذلك الهجوم على شخص من وزن غروميكو بات ممكناً، حتى من دون أن يكون في خلفية الهجوم "مؤامرة" محبوكة من أي نوع كان. والفضل في ذلك كان، في الطبع، للسياسة التي كان غورباتشوف شرع في اتباعها، منذ وصوله الى السلطة قبل ثلاثة أعوام. وهي تلك السياسة التي اعتمدت مبدأي "الشفافية" غلاسنوست و"المكاشفة" بريسترويكا. غير أن ذلك اليوم من حزيران من ذلك العام، لم يشهد في مؤتمر الحزب امتداحاً لسياسة غورباتشوف، بل شهد هجوماً واسعاً عليها، وكان من المفارقة أن يستفيد المهاجمون من البريسترويكا نفسها للهجوم عليها، متهمينها بالتقصير، وبأن التغييرات التي تتحدث عنها ليست أكثر من تغييرات لفظية. لقد بدا واضحاً منذ ذلك اليوم، أن معركة حادة قد فتحت ضد غورباتشوف، وأن سلسلة الانتقادات والهجمات التي بدأت داخل أروقة المؤتمر، إنما هي طليعة معركة كبيرة مقبلة. وكان غورباتشوف هو الذي تولى بنفسه افتتاح ذلك المؤتمر الخاص الذي عقده الحزب الشيوعي السوفياتي وشارك فيه نحو 5000 مندوب دعاهم الزعيم الى "التعبير عن آرائهم بكل وسيلة ممكنة، وحول أي موضوع يرتأونه". وخلال خطبة الافتتاح كان غورباتشوف اعترف بأن ثمة أموراً كثيرة ليست على ما يرام، من ذلك مثلاً الشح في المواد الغذائية والنوعية السيئة لما هو متوافر في الأسواق، وأن أموراً كثيرة أخرى لم تنجز خلال سنوات حكمه الثلاث، مع أنه كان في الإمكان إنجازها. دامت خطبة غورباتشوف يومها ثلاث ساعات ونصف الساعة، وبدا خلالها الزعيم وكأنه يحاول أن يستبق شتى صنوف الانتقاد ويلتف عليها، لكنه في الحقيقة فتح الباب واسعاً أمام سلسلة من الانتقادات والهجمات لا سابق لها في تاريخ تلك الدولة. وعلى رغم أن كثيرين من المندوبين أثنوا على سياسات غورباتشوف إلا أن كثيرين أيضاً هاجموه، كما هاجم البعض طريقة تعيين المسؤولين، مطالبين بأن يصار من الآن وصاعداً الى انتخاب الرئيس على النمط الأميركي. الصورة: غورباتشوف. ابراهيم العريس