ما أن بدأت الأنباء تتواتر عن اندحار جيش الاحتلال الإسرائيلي وانكفائه المرتبك إلى خارج الحدود الدولية للبنان والانهيار السريع لقوات الميليشيا العميلة قوات لحد المتواطئة معه، تحت وطأة المقاومة وكفاحها البطولي المعمد بالدم والتضحيات، حتى بادر اللبنانيون وبعفوية وتلقائية ومن كل المناطق ومختلف الاتجاهات والمنحدرات الاجتماعية والمذهبية والحزبية إلى جانب المسؤولين اللبنانيين، إلى الزحف جنوباً صوب البلدات والقرى المحررة، التي تحولت محجاً تقاطر إليها عشرات الآلاف من الأهالي. واللافت هو تلاحم لبنان الرسمي مع لبنان الشعبي وفي القلب منه المقاومة الباسلة التي شكل حزب الله رأس الرمح والقوة الأساسية فيها. وسرعان ما زفت القرى والبلدات المحررة على إيقاع الأهازيج والدبكة اللبنانية التقليدية وسط مظاهر الفرح والبهجة التي غمرت قلوب وعواطف الأهالي في ملحمة تعيد إلى الذهن والوجدان معنى المقاومة المدنية والأهلية في مواجهة قوى التسلط والحرب والعدوان. وكان منظر اللبنانيين وهم يتوعدون قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي على الجانب الآخر من الحدود بعبارة "إن عدتم عدنا" بمثابة تحفيز للعقل والذاكرة العربية المهترئة والمحبطة بفعل الهزائم والخيبات المتتالية على امتداد نصف القرن الماضي من المواجهة المريرة مع اسرائيل واستعادة وميض أمل وبريق انتصار طال انتظاره. السؤال المركزي الذي سيظل مؤرقاً ومستفزاً المشاعر والوجدان بل الوجود والمصير والمستقبل العربي هو لماذا انتصرت المقاومة اللبنانية واستطاعت على قلة عددها وعدتها تمريغ غطرسة القوة والآلة الإسرائيلية الجبارة في التراب في حين عجزت الأنظمة العربية بجيوشها وأسلحتها وإمكانياتها المادية الضخمة من تحقيق أي نصر حقيقي، وبالتالي هل يجب أن يكون الحدث اللبناني هو الاستثناء الذي يثبت القاعدة ولا ينفيها؟ هزمت الأنظمة العربية في الحروب والمواجهة نستثني حرب تشرين 73 التي أرادها السادات حرب تحريك لا حرب تحرير وهي تحصد الثمار المرة الآن من خلال التسوية ومفاوضات السلام المتعثرة والمذلة على رغم كل التنازلات والتفريط والتلاعب بالذاكرة والحقوق التاريخية والقومية وقبل كل شيء سحق الإنسان العربي وابتلاع حقوقه على مختلف الأصعدة والمستويات بغض النظر عن الاحتفاء العربي الرسمي بالنصر والتحرير. لقد قيل بحق أن الهزيمة لا أب لها أما النصر فله آباء عديدون. لقد كان السيد نصرالله متواضعاً وواقعياً في خطابه عندما جير النصر إلى تضافر مقومات وعوامل عدة داخلية وإقليمية ذكر بالتحديد المقاومة اللبنانية والالتفاف الشعبي والرسمي معها داخلياً والدعم السوري والإيراني إقليمياً غير أنه في التحليل الأخير تبقى حقيقة أن النصر صنعه أولئك الأبطال المقاومون الذين قدموا الدم وارتضوا الشهادة جسراً للتحرير والنصر، وحققوا ذلك بفضل الإرادة الراسخة للقوى الحية القادرة والمستعدة لاستنهاض الشعب بكل فئاته وشرائحه للالتفاف حول المقاومة. وفي هذا المجال علينا تأكيد دور مختلف القوى والتيارات السياسية الوطنية في لبنان في صنع الانتصار المجيد، ويجب أن لا ننسى أن انطلاقة المقاومة اثر الاحتلال قادتها جبهة المقاومة الوطنية التي ضمت العديد من الفصائل الوطنية واليسارية بالتحديد واستشهد وجرح وأسر المئات من أفرادها بمن فيهم العديد من النساء ومنهن ولاء عبود وسناء محيدلي، وسهى بشارة وغيرهن. وقد اشاد السيد نصرالله ضمناً بالدور الذي لعبته بقية أطراف المقاومة حين رفض اضفاء الطابع الطائفي الضيق على المقاومة، مؤكداً لبنانية المقاومة. وفي هذا الصدد يطرح التساؤل: هل يختلف حزب الله في لبنان عن غيره من التنظيمات والجماعات الإسلامية التي يزخر بها العالم العربي والإسلامي والتي ترفع شعار "الإسلام هو الحل"؟ هذه الجماعات التي إلى حد كبير تمارس فرض الوصاية على المجتمع والفكر والحرية من خلال رفض الآخر المختلف وتكفير المجتمع والدولة واللجوء إلى استخدم العنف المادي أو الرمزي إزاء المخالفين ليس على المستوى السياسي والأيديولوجي فقط بل طاول حرية الإبداع والفكر والاجتهاد ومحاولة استخدام كل القنوات المتاحة، وهي ليست قليلة، من أجل استعداء الدولة وتأليب البسطاء من الشعب وتأجيج الاحتقان الاجتماعي والتعصب الفكري وفرض حالة من الإرهاب ليس إزاء المختلفين معهم سياسياً وأيديولوجياً فحسب إذ وصل الارهاب والعنف ليطال مختلف الفصائل والمجموعات الاسلامية في ما بينها وذلك لأسباب سياسية أو مصلحية أو ايديولوجية، والأمثلة على ذلك كثيرة: باكستان، السودان، مصر، الجزائر وإلى حد ما إيران مع خصوصية الوضع هناك، إذ تعيش ايران مرحلة انتقالية سيتحدد في ضوءها مستقبل الجمهورية الإسلامية في المعركة المفتوحة الدائرة الآن بين الإصلاحيين والمحافظين. وفي هذا الصدد فإن ما يميز حزب الله عن بقية الفصائل والمجموعات الإسلامية الموجودة الآن كونه ارتبط منذ نشوئه بمعركة التحرير والمقاومة ضد الاحتلال الأجنبي الإسرائيلي والسيطرة والهيمنة، وهو يشترك في هذه الخاصية مع حركات التحرر والمقاومة الشعبية التي استظلت بالدين ليس لأسباب عقدية فقط بل باعتباره معبر عن الهوية الاجتماعية والثقافية والسياج الوطني العام للجميع، كما تمثل في ثورة الجزائر وفي ثورة العشرين في العراق وفي ثورة المشروطية في ايران وفي الثورة الشعبية في ايران بقيادة آية الله الخميني وكذلك الدور الوطني الذي لعبه الأزهر ضد الاحتلال والهيمنة البريطانية ثورة 1919 إضافة الى الدور التعبوي الذي لعبه الدين في مقاومة الجيش السوفياتي في أفغانستان. غير أن ما يميز هذه الحركات والتيارات، على اختلافها وتباين منحدراتها المذهبية والطائفية، هو غياب أو ضعف الرؤية الاستراتيجية وامتلاك برنامج ملموس يحدد أهدافها وخططها الآنية والمستقبلية على مختلف الأصعدة والمستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلى مستوى الحكم بأنظمته وقوانينه وعلى مستوى العلاقات الخارجية والإقليمية والدولية يختزل هذا كله بمقولة "الإسلام هو الحل" ومن خلال هذه السياسة التعالي على الزمان والمكان يطرح في الغالب مسألة أساسية هي إسقاط أنظمة الحكم وازدراء الديموقراطية والحريات العامة وفرض النموذج الإسلامي البديل، وهو في هذه الحال يرفض بطبيعة الحال كل ما عداه، إذ تجري محاولة مستميتة لمصادرة المجتمع المدني بهيئاته ومكوناته المستقلة. انطلق حزب الله من قاعدة أساسية فهمها واستوعبها جيداً وبنى عليها مختلف مواقفه وتكتيكاته السياسية والنضالية في الداخل وعلاقاته مع مختلف الأطراف الفاعلة والمؤثرة إقليمياً. هذه القاعدة تقول بأن المجتمع في لبنان تعددي ومختلف ومتباين دينياً وأثنياً وطائفياً ومناطقياً، وبالتالي لا يمكن فرض تصور أو رؤية وحيدة فهو غير ممكن ومستحيل عملياً كما أن من شأنه الاخلال بالتركيبة الطائفية المتحكمة في لبنان منذ الاستقلال ميثاق 43 وحتى الآن وهو ما كرسه اتفاق الطائف عملياً. صحيح أن حزب الله دخل في صراع دموي حاد في البداية مع الفصائل والمجموعات السياسية الأخرى من أجل تحييدها وحسم السيطرة في الشارع الشيعي سواء مع الفصائل اليسارية الحزب الشيوعي أو مع حركة "أمل" ذهب ضحيتها كثيرون، غير أنه سرعان ما تجاوز هذه الممارسات مبدياً مزيداً من التفتح والوعي والسلوك السياسي الواقعي في التعامل مع الأحداث والحوار مع القوى والتيارات الأخرى، واستطاع من خلال ارتباطه بالجماهير وتقديم الخدمات الاجتماعية والإنسانية المتنوعة لهم في ظل غياب الدولة وأجهزتها وإهمالها للمتطلبات الأساسية للأهالي من سد الفراغ. العامل الإقليمي في لبنان يتمثل بالدورين السوري والإيراني. سورية من منطلق وجودها وحضورها في لبنان سياسياً وعسكرياً وأمنياً وارتباط هذا الوجود بالمصلحة اللبنانية/السورية المشتركة خصوصاً في ضوء تعثر التسوية وفقاً لصيغة مدريد التي ارتضاها العرب خياراً استراتيجياً بديلاً عن الحرب والمواجهة وكانت هنالك مصلحة سورية لبنانية مشتركة في امتلاك ورقة المقاومة وإبقاء الجنوب المحتل ساخناً لاستنزاف إسرائيل عسكرياً وبشرياً وتحسين شروط التسوية التي أصرت سورية ولبنان على أن تتضمن الانسحاب الكامل من كل الأراضي السورية المحتلة في 1967 وفقاً للقرارين 242 و 338 وانسحاب القوات الإسرائيلية من جنوبلبنان وفقاً للقرارين 425 و 426. أما الدور الإيراني في دعم المقاومة فإنه يأتي في سياق موقف إيران المعلن الرافض للتسوية والداعم للحقوق العربية بدون تحفظ إلى جانب البعد الأيدلوجي والعقائدي في دعم الحركات الإسلامية وبخاصة تلك الحركات التي تتبنى التصور والرؤية السياسية والأيدلوجية الإيرانية وبطبيعة الحال فان حزب الله استفاد كثيراً من الدعم السوري والإيراني سياسياً وعسكرياً ومالياً وإعلامياً غير أنه في الوقت نفسه حافظ على استقلاليته المتيمزة ورفض أن يتحول إلى تابع لأية جهة كانت وليس أدل على ذلك رفض قيادة حزب الله تقليد مرجعية السيد خامنئي المرشد وولي الفقية في الجمهورية الإسلامية. لقد حافظ حزب الله على المسافة الصحيحة التي تفصله عن الدولة اللبنانية، فهو تجنب الاصطدام بها وسعى إلى تحسين صلاته معها خصوصاً في عهد الرئيس الحالي أميل لحود الذي تبنت حكومته المقاومة وأعلنت رفضها لأي شكل من أشكال التطبيع السياسي والعسكري أو الأمني مع اسرائيل مشترطة أولوية الانسحاب الاسرائيلي من غير قيد أو شرط وهو ما يتفق مع سياسة حزب الله المعلنة. وفي الوقت نفسه سعى حزب الله إلى الاندماج وبقوة في النسيج الاجتماعي العام وضمن التركيبة السياسية والبرلمان ومن خلال تكتيكاته الانتخابية وصلاته المتنوعة مع الشارع الشيعي إضافة وهذا أمر مهم الاستفادة من زخم المقاومة والالتفاف الشعبي معها والتضحيات الضخمة التي قدمها عناصر حزب الله استشهاد هادي نصرالله نجل زعيم الحزب كمثال وهو ما أوجد حالاً من المصداقية والانسجام بين مواقف الحزب وممارساته العملية من جهة وأطروحاته ومبادئه وشعاراته المرفوعة من جهة أخرى الأمر الذي أهله لأن يحتل موقعاً مؤثراً وحيوياً ضمن المشهد السياسي اللبناني وسيستمر هذا الدور إثر جلاء الاحتلال في حالة استطاع التكيف مع ظروف المرحلة ومتطلباتها وتطوير آليات وأساليب عمله والتفاعل مع مختلف تكوينات المجتمع الطائفية والسياسية بروح من الانفتاح والتعاون. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل يؤسس حزب الله في لبنان ظاهرة مشابهة لحركات لاهوت التحرير التي دشنتها الكنيسة المنشقة في أميركا الجنوبية ضد الدكتاتورية والتسلط والارهاب واقتربت في اطروحاتها وممارساتها السياسية والنضالية مع شعارات واطروحات المعارضة الجذرية ولكن من منطلقات دينية كاثوليكية وفي اعتقادي أنه إذا تمكن حزب الله في لبنان من المزاوجة ما بين المقاومة المسلحة التي خرج منتصراً فيها والنضال السلمي المدني المقترن بالتعايش والقبول بالآخر والمختلف فإنه سيحدث اختراقاً حاسماً في الوضع العربي وبالتحديد في وضع الحركات الإسلامية خصوصاً تلك التي هي أسيرة فكرة الحاكمية والتكفير ورفض الآخر اننا بأمس الحاجة إلى تيار إسلامي عقلاني فاعل ومؤثر إلى جانب بقية التيارات والقوى الأخرى لضمان استعادة المجتمعات العربية حريتها وعافيتها وبما يحافظ على التعددية ومكونات المجتمع المدني والسلم الأهلي. فهل يستطيع حزب الله انطلاقاً من حصيلة تجاربه وتطور ممارساته وتفكيره من القيام بهذه المهمة وتحقيق هذه المعادلة الصعبة بالتأكيد ولكن هل هي مستحيلة؟. * كاتب سعودي.