} من التسرع اعتبار المظاهر الخارجية ملمحاً سطحياً وهامشياً في رصدنا أذواق الشباب وميولهم. فهي في النتيجة خيار على هذا المقدار من الاختلاف والانحياز. وهي وسيلة انفلات وانضباط في السياقات والأذواق العامة. ويمكن من خلال رصدها قياس درجة تسامح المجتمع وسماحه بقليل من الجنوح والمبالغة. وهنا أربعة موضوعات لإلقاء أضواء سريعة على بعض جوانب هذه القضية من لبنان ومصر ومن سورية وعمان ص18. ولعل الاختلاف في التناول يضمر أيضاً اختلافات جوهرية في طبيعة فهم مجتمعات الدول الأربعة لمظاهر وجوانب مختلفة من حياة شبابها. ثمة خلاف في لبنان في النظر الى هؤلاء الشباب المختلفين، مرتادي المقاهي، والمتجولين في الشوارع المحاذية للجامعات الخاصة، مرتدين ثياباً فضفاضة ومهملة، في حين تظهر سحناتهم بين كتل الشعر الكثيفة، نضرة وطازجة، كأنهم أزالوا عنها تلك الطبقات التي تتكثف يومياً على وجوه غيرهم من الأجيال والفئات. ولكن بين هؤلاء الشباب من ظهرت صناعته لهيئته هذه، والجهود الكبيرة التي بذلها سعياً وراء مظهره هذا. فمن الصعب تحديد تصنيف واحد لنزوع الشباب اللبناني نحو الاختلاف في المظهر. فبين الاستلاب الكامل في صورة الشاب العربي، والادراك الهادئ لضرورة تشكيل شخصية ومظهر خاصين، تقع تصنيفات أخرى متفاوتة بدورها. فهناك شابات الصورة التلفزيونية صاحبات الوجوه المضاءة بكميات من المساحيق والشعور المثبتة كالإبر. وهناك الأناقة المستمدة من المواقع والوظائف الاجتماعية أو محاولات اللحاق بهذه المواقع. وكل هذه الأنواع والأدوار يمكن أن تتكثف أمامك في مقهى واحد. أطلق عبدالسلام شعره منذ سنوات طويلة، وهو على رغم اهتمامه به يومياً وتوظيفه في شكله ودوره، لا يشعر، كما يقول، ان الأمر يستأهل اهتماماً، وهو "يمكن أن يكون عادياً ومعادياً لاسرائيل على رغم طول شعره" على ما يضيف. وبالفعل فقد نجح عبد في استبعاد أنظار أصدقائه على الأقل وانتباههم الدائم الى طول شعره، علماً أن بعضاً منهم ما زالت تلفته قدرة صاحب هذا الشعر على بذل كل هذا الوقت للاعتناء به، قبل خروجه من المنزل، في حين توحي تصرفات الشاب وحكاياته عن حياته وأوقاته بإهماله جوانب أخرى مهمة في حياته. هذه الحنكة التي يعتقد المرء أنها تحتاج الى سنوات أطول من أعمارهم حتى تكتسب، استمدها عبدالسلام وأقرانه من تدربهم الدائم على الحياة بأشكالها الوافدة عبر مناهج التعليم في الجامعات الخاصة، وعبر اجتهادهم الهادئ لاجتيافها واكتسابها، وهي الآن لشدة التصاقها بشخصياتهم غدت عادية وغير مفارقة لسياقات وقائع حياتهم اليومية. فسمر التي تعمل مخرجة في شركة اعلانات والتي سبق عملها هذا تخرجها في الجامعة اللبنانية -الاميركية، لا يبدو القرط البراق الذي تضعه قرب صرتها أمراً مفارقاً على رغم جذبه خيط النظر اليه، وهي دمجت بنجاح بين الوظائف المختلفة التي تقوم بها، وشكلها هذا. حين استوى نور في مقعده في المقهى الجديد في شارع المعرض، وسط مدينة بيروت، كانت ثمة فتاة لم تتجاوز العشرين على الأرجح تمد جسمها الطويل والبرونزي على المقعد المجاور. كانت في جلوسها العادي والهادئ، تنساب على مقعد القش وتطوي جسمها عند منثنياته من دون أن تظهر أدنى تشنج يفترضه الجلوس على مقعد في مقهى رصيف. وراح نور يسأل نفسه عن هذا المقدار من الثقة بالنفس وبالجسم الذي أتاح لهذه الشابة ولعشرات من مثيلاتها في المقاهي اللبنانية، تجاوز أجسامهن وتفريغها من أي اضطراب عادي. وكيف يمكن أن يجتمع في هذا الجسم نبض عضلي متين، مع هذا الارتخاء المديد والمقيم في أصل مادته. ويقرر نور نقل نقاشه الداخلي الى سطح الطاولة فيطرح قضيته، مفتتحاً الحديث بترجيحه أن هذا الميل الى التخفف من الجسم ومن همومه هو سر اختلاف الجيل الجديد. الفتاة العشرينية الجالسة قبالة نور في "المقهى" الرصيفي جعلت تحدث الجالسين معها الى الطاولة غير مكترثة لأسئلة الشاب الثلاثيني. كانت ترتدي قميصاً أحمر رقيقاً. قد يعتقد المرء لولا انسجامه مع سمرتها انه من ذلك النوع المبتذل، لكنه عندما ينتهي ما قبل خصرها بقليل ليبدأ بالظهور جلد أسمر كثيف، يكون اكتسب قوته وأصالته من رخاء هذا الجسم. أما السروال الأبيض الفضفاض، فهو لا يؤدي هنا وظيفة ضبط السيقان، وإدخالهما في نظام السراويل المقيد، وانما هو يتيح لهما حرية، مع مقدار قليل من الحشمة. ويروي نور أن صديقاً اربعينياً له، لم يحتمل هذا المقدار من الاختلاف حين جلسا في المقهى نفسه وجاءت فتيات مماثلات لفتاة القميص الأحمر ورحن يتحدثن مرخيات أجسامهن وغير مكترثات للجالسين بوقار الى جوارهن. فصديق نور هذا شعر أن في المشهد عدم اعتراف كبير به وبجسمه الكبير، وبأن الأمكنة الجديدة في بيروت لا تتسع لكل هذا الجليد الذي يغلف روحه. هكذا هي بيروت الجديدة، انها مطارح لهؤلاء الجدد الآتين من أماكن لا يعرفها اللبنانيون أمثال صديق نور. انهم يتكلمون بلهجات الأخلاط ويلبسون ثياباً أخف، ولا يظهرون رغبة في لفت الأنظار أو في عدم لفتها. ثم أن الحياة الأخرى أو حياة الآخرين تسير الى جوارهم غير عابئين بها. أو هذا على الأقل ما يجيدون اظهاره.