من المؤكد أن استقالة جورج حبش من منصبه كأمين عام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في مؤتمرها السادس الذي انعقد الشهر الماضي، ستضاف الى سجل احترامه ومكانته الخاصة بين الفلسطينيين بشكل عام وبغض النظر عن الموقف من سياسته والاختلاف أو الاتفاق معها. يبرر حبش اقدامه على ذلك بسببين: الأول تقديم المثل للأمناء العامين للتنظيمات الأخرى والدول. "فليس من المعقول أن يظل جورج حبش أميناً عاماً حتى الموت". والثاني "التركيز على مهمات وطنية وقومية اعتقد أنها تحظى بمكانة مركزية في العمل الوطني أكثر من استمراري في مهمة الأمانة العامة"، كتأسيس مركز دراسات "سيقوم بدراسة المشروع الصهيوني ولماذا انتصر...". بالاضافة لكتابة تجربته للأجيال القادمة. على رغم أهمية ومعنى المثل الذي قدمه الحكيم، الاستثناء الوحيد للقاعدة السائدة بين القيادات الفلسطينية، لا يملك المرء إلا ملاحظة حصولها متأخرة وبعد خراب البصرة كما يقال. فالديموقراطية ليست استقالة من منصب ما فقط وانما هي قيم وسلوك وممارسة داخل التنظيم أو الجماعة أو المجتمع تسمح بحرية الرأي والتنافس والترشح كما بمحاسبة المسؤول وامكان عزله. لم يستقل حبش في الماضي ولا نظنه شجع على امكان ترشح شخص آخر لمنافسته. واذا كانت البيئة الاجتماعية والثقافية لمعظم اعضاء التنظيم بطريركية وتقليدية ولا تعترف بالفرد كقيمة بحد ذاته فإن الثقافة والحياة التنظيمية السائدة ما كانت حافزاً ودافعاً لتكريس القيم الديموقراطية وممارستها. لذا سيكون من الطبيعي اصرار أعضاء التنظيم، في الماضي وحتى الآن، على الاحتفاظ بشخصية مثل حبش في منصبه لولا اصراره على الاستقالة. كما سيكون من الطبيعي، في ظل غياب ديموقراطية حقيقية، ظاهرة الانشقاقات وتفريخ التنظيمات عند حدوث خلافات حول برامج العمل والسياسة أو تلبية لطموحات أفراد في الزعامة اذا توافر الظرف الملائم. مع حفظ الفوارق بين التنظيمات وممارسات قياداتها ومستوى ثقافتها فلقد اشتركت جميعاً في غياب حياة ديموقراطية ولم تكن المؤتمرات الكثيرة لهذا التنظيم او ذاك أكثر من شكل يوحي بالديموقراطية. ولأن التنظيمات الفلسطينية كانت على هذه الشاكلة لم يكن حال مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية بأفضل على رغم تباهي عرفات مراراً وتكراراً بديموقراطية السكر زيادة في الساحة الفلسطينية. وفي كل دورة من دورات المجلس الوطني الفلسطيني، البرلمان، يتكرس أبو عمار في منصب رئيس اللجنة التنفيذية أو بتعبير آخر، استعملناه في مقال قديم، كأمين عام للأمناء العامين. أما انشاء مركز للدراسات فلماذا لم يحصل في الماضي؟ من المهم دراسة لماذا انتصر العدو الصهيوني وذلك من أجل المستقبل إلا ان هذا يدفع لسؤال أهم: كيف لم يخطر على بال القادة، خلال أكثر من عقدين من الزمان، الشك ولو البسيط بامكان النصر من خلال تجربتهم ومجابهتهم للواقع مما يعني ضرورة مراجعة وسائلهم واشكالهم التنظيمية ووسائلهم وبرامجهم؟!. أم ان معسكر الاصدقاء ومعسكر الاعداء محددان وواضحان والطريق أوضح والوسيلة لا شك فيها والنصر بالتالي آتٍ لا محالة!!. الإيمان بأهمية مركز الدراسات يعني الايمان بالعلم والعقل وكان من الممكن انشاؤه في الماضي. وهنا يرد سؤال أخير: لماذا لم ينتفع القادة الفلسطينيون من خبرات الباحثين والخبراء من فلسطينيين وعرب وأجانب أم أن القياديّ يعرف كل شيء وهو مصدر السلطة والمعرفة وسوبرمان فائق فلا حاجة الى المستشارين ومعرفتهم؟! واذا كان حبش يترك منصبه ليتفرغ للبحث عن المعرفة والأسباب الحقيقية التي اوصلت الحركة الوطنية الفلسطينية الى وضعها الحالي، فإن ياسر عرفات على كثرة مستشاريه لا يزال مستمراً في مسيرته الطويلة في ابعاد اصحاب الكفايات العلمية عن محيطه القريب والاحتفاظ بطاقم من المطيعين والمنفذين لسياساته ممن يأكلون من صحنه ويضربون بسيفه وعلى حساب الشعب الفلسطيني وقضاياه السياسية والاقتصادية. في نظام ديموقراطي لا يمكن لرئيس حكومة ان يستمر في منصبه أكثر من عشر سنوات ليكتشف صاحب السلطة فجأة فساده فيقرر محاكمته إلا أن المتهم يفضل الانتحار على ذلك. وفي نظام يهمش المجتمع المدني وقواه ويحصر السلطة بيد شخص واحد يقرر شكل السياسة والاقتصاد والتربية والحرب ومصالحة العدو حين يرى ضرورة لذلك ويرفع من يشاء الى أعلى المراتب ويخفض من يشاء يكون الفساد وهدر طاقات البلاد نتيجة طبيعية سواء في فلسطين أو سورية أو أي بلد آخر في العالم. وفي حال التنظيمات والأحزاب، خارج السلطة ايضاً، يبقى الأمين العام في منصبه حتى الموت الطبيعي ولكن الثمن انشقاقات وضعف وذبول التنظيم وتكون استمراريته على حافة الموت بانتظار وفاة القائد ليدفن معه وتشكل حال الهيئة العربية العليا وزعيمها الحاج أمين الحسيني، بعد نكبة 1948 مثالاً واضحاً. اختار جورج حبش الاستقالة على العودة الى اراضي السلطة الوطنية وبالتالي تجديد دوره من خلال المساهمة في السلطة أو المعارضة هناك. على العكس من عرفات الذي تجنب مصير الحسيني من خلال اتفاق اوسلو. فليس من خيار امام التنظيمات الفلسطينية سوى الالتحاق بعرفات أو الذبول في المنفى. يمكن ان يقال الكثير في موقف حبش تأييداً او معارضة إلا ان استقالته ستجعله يحيا من دون وجود من ينتظر وفاته الطبيعية. * كاتب فلسطيني مقيم في أنقرة.