من يزور مدينة سيدني الأوسترالية، ويشاهد دار الأوبرا فيها لا بد أن يمسه شيء من سحر ذلك البناء الصدفي الشكل الهندسي الغريب، الذي يرسو في خليج "الدارلينغ هاربر" كسفينة عملاقة تعبر المحيط، في رحلة مغامرة بحرية عظيمة. يعتبر مبنى الأوبرا هاوس انجازاً معمارياً رائعاً وفريداً في العالم، فضلاً عن ذلك الإحساس بالضباب الخريفي والرذاذ الذي يخالج الجالس داخل هذا المبنى مستمعاً الى الموسيقى، أو مُشاهداً أحد العروض المسرحية. فالمسرح هو من أحدث المسارح العالمية وأكبرها، إذ يحتوي على مسارح خلفية، ومصاعد عدة تسمح بتغيير المشاهد بطريقة سريعة جداً، ينتقل بواسطتها إحساس الناظر وخياله من عالم الى آخر، مما يحقق له متعة لا يمكن الحصول عليها بأية وسيلة من وسائل الترفيه الأخرى. ولدت فكرة هذا البناء في العام 1946 عندما وصل أوجين غوسينز الى أوستراليا كقائد فخري لفرقة سيدني السيمفونية، إذ فوجئ أن الأوركسترا كانت تؤدي وصلاتها في قاعة ال"تاون هاول"، ولم يكن هناك قاعة حفلات أيضاً، ولا حتى مسارح في الحجم الكافي لاستقبال الفرق الموسيقية المتوسطة. إلا أن شارل موسز المدير العام لمصلحة البث الاذاعي الأوسترالي عيّن غوسينز قائداً مقيماً للأوركسترا، ومديراً عاماً للكونسرفاتوار. كان طموح غوسينز ايجاد قاعة للحفلات على مستوى عال لتكون بيتاً دائماً للعمل الأوبرالي، اضافة الى ايجاد قاعة أصغر خاصة للأعمال الموسيقية المتنوعة. وكانت فكرة بناء دار أوبرا أو مسرح وطني في مفكرة حكومة العمال آنذاك كجزء من مشروع إعمار أوستراليا الحديثة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وفي العام 1956 أعلنت الحكومة عن مناقصة لتصميم دار أوبرا وطنية في منطقة "بانيلونغ بونت" النقطة التي كانت محطة للترامواي وموقعاً قديماً مقدساً يقيم عليه الأبوريجينيون سكان أوستراليا الأصليون طقوسهم ورقصاتهم الليلية حول مواقد النار. تقدمت 233 شركة من جميع أنحاء العالم بتصاميم مختلفة لإقامة هذا المشرع. ووقع الاختيار على التصميم الذي قدمه المهندس المعماري الشاب يوري إتزون السكندنافي الأصل. وأعلنت لجنة التحكيم أنه تمّ اختيار عرض إتزون لأنه يمثل رؤية مفهوم بناء دار أوبرا يجعلها من أهم الأبنية الحديثة في العالم. ويقول إتزون عن تصميمه هذا: "إذا تأملت الكنائس الغوطية الطراز فإنك تصبح قريباً من فهم ما رميت اليه في هذا التصميم". إلا أن الحكومة آنذاك لم تستطع توفير التمويل اللازم للمشروع، فعمدت الى الإعلان عن إجراء سحب يانصيب وطني لتغطية تكاليفه. وفي 18 آب اغسطس 1958 تمّ تهديم مركز الترامواي في منطقة بانيولنغ بونت وشرعت الشركة المتعهدة في بناء المشروع. استغرقت عملية بناء الأسقف الصدفية الشكل 350 الف ساعة عمل، وكانت المشكلة الفنية الأساسية هي في كيفية تصنيع أو تطويع القوالب الحديدية ذات الأشكال الصدفية في أقل وقت وسعر ممكنين. وبعد أربع سنوات من البحث المتواصل تمكن إتزون من حل هذه المشكلة بتصنيع كرة حديد ضخمة وتقطيعها الى أضلع مقوّسة الشكل، بأحجام مختلفة، بطريقة تمنع الأضلاع الكبيرة عن حجب الأضلاع الصغيرة عن الناظرين. وفي 18 تشرين الأول اكتوبر 1962 قامت الشركة المتعهدة برفع السقوف التي غُلّفت ببلاط لمّاع مما يجعل منها للرائي عند ظهور الشمس، أو الأشعة الكهربائية كأنها كائنات حية، يتبدل جمالها بتبدلات الطقس وبحسب الأضواء المسلطة عليها وفي 18 شباط فبراير 1966 قدم إتزون استقالته من ادارة المشروع لأسباب مالية مع الحكومة التي رفضت زيادة بدل أتعابه. وعلى أثر ذلك قامت مناظرات عامة وتظاهرات طالب فيها الشعب الأوسترالي بإرجاع إتزون الى سدة ادارته للمشروع ودفع أتعابه كاملة. مما أجبر رئيس الوزراء على تقديم عرض لإتزون كمصمم معماري يعمل ضمن فريق عمل منفذ، الأمر الذي رفضه هذا الأخير. وفي حزيران يونيو من العام نفسه قررت هيئة البث الاذاعي الأوسترالية تزويد دار الأوبرا بمواصفات تقنية جديدة عُرفت بنظام "إيكو" أي الترجيع الصوتي، من دون الاستعانة بأجهزة الصوت المعروفة كالميكروفونات، والأدوات الصوتية اللاقطة أثناء تقديم الفرق الموسيقية الغنائية أعمالها داخل القاعات. وجعلت الحد الأدنى لزمن ارتداد الصوت: ثانيتين، في حين أن الأعمال الأوبرالية تحتاج الى أزمنة ارتداد صوتي كثيرة ومتنوعة. قام المهندس بيتر هول بالتصميم الداخلي لهذه الدار فجعل القاعة الرئيسية قاعة للحفلات، والقاعة المتوسطة التي صممها إتزون مسرحاً للدراما جعل منها مسرحاً للأوبرا. وقال الهندس كيف وولي عن هذا المسرح الأوبرالي: إن فكرة اختيار اللون الأسود للجدران هي فكرة صائبة، إذ أنها تحول أنظار المشاهدين الى المسرح، وأن اختيار اللون الأحمر اللماع للمقاعد يجعل منه مسرحاً مؤثراً، وكذلك بالنسبة لقاعة الحفلات الرئيسية فإن تصميم هندسة الأصوات في الداخل يجعلها من أهم القاعات في العالم صوتياً ووظيفياً. ان تصميم هذه القاعة الجميل كما يبدو للرائي يجعلها تنفرد مع قاعة "شارون برلين فيلهارمونيك" في أهم الخصائص المعمارية العالمية، مقارنة مع جميع القاعات التي بُنيت بعد الحرب العالمية الثانية. وقبيل انتهاء العمل في هذه الدار عام 1973 أصدرت شركة هدرنبروك كتيباً مالياً كشفت فيه عن تكاليف المبنى، التي بلغت أكثر من مئتي مليون دولار. وقد تمت تغطية تكاليف هذا المشروع من ريع جوائز اليانصيب التي نظمتهاالحكومة. واليوم تعتبر دار الأوبرا في سيدني من أهم "الأيقونات" الأوسترالية القيمة. فموقعها البحري الجميل، وسقوفها الصدفية أكسباها رونقاً وجمالاً لا نظير له في العالم. حيث يخيّل للرائي منذ الوهلة الأولى أن جالية من السلاحف العملاقة تتجمع فوق سطح البحر. وفي إحصاء قام به مركز التصوير الفوتوغرافي القومي في سيدني، بالتعاون مع مراكز عالمية للتصوير، ظهر بنتيجته أن دار الأوبرا في سيدني هي بناء هندسي لا مثيل له في العالم. وقد بلغ عدد الصور التي أخذت له ألف مليون صورة طبعت على القمصان وبطاقات المعايدة، وحُفرت على ملايين البراويز والهدايا السياحية. وتستضيف دار الأوبرا مسرحيات عالمية، وحفلات موسيقى كلاسيكية، وباليه، وأفلاماً سينمائية وأوبرالية، ومهرجانات عالمية.