لا يتوقع احد ان يعمل صانعو السينما اليوم بمقتضيات العصر السابق الذي ولدت فيه الأعمال المحولة الآن أفلاماً جديدة. خذ مثلاً "المهمة: مستحيلة" المسلسل التلفزيوني الذي انطلق عام 1966 واستمر حتى العام 1973، وفيه يتولى العميل جيمس فيلبس بيتر غريفز مهام صعبة التنفيذ غالباً ما تتناول أعمالاً جاسوسية وتخريبية، أكثرها ضد غرباء يهددون سلامة الأمن القومي أو سلامة دولة صديقة للولايات المتحدة الأميركية. المسلسل تأثر بدوره بنجاح أفلام جيمس بوند التي كانت انطلقت قبله بثلاث سنوات، ولو ان الكاتب/ المنتج بريس غيلر يعترف بأن الفكرة الأساسية لهذا المسلسل زرعها فيلم "توبكابي" اخراج جول داسين -1964 الذي دار على مجموعة لصوص محترفين يخططون لسرقة العصر في متحف اسطنبول. عماد المسلسل كان بالفعل مجموعة من المحترفين يتقدمهم فيلبس عادة ما يتسللون متنكرين الى مراكز صعبة الدخول لتصوير مستندات أو لسرقتها أو لتعطيل مفعول عمل ما وسط مخاوف اكتشافهم، مع حتمية نجاتهم جميعاً من كل فخ أو مكيدة في اللحظات الأخيرة. وحين قدم المخرج برايان دي بالما "المهمة: مستحيلة" الجزء الأول فيلماً قبل ثلاث سنوات، اشاعت بين النقاد الاشارة الى غموض الأحداث نظراً الى تعقيدات القصة. لكن "المهمة: مستحيلة - 2" يعاني ما هو أسوأ: قصة بالغة النحول في الأساس، تزود مضخمات ومفارقات أكبر من الحياة والواقع وتنفيذها على شكل "تابلوات" كل واحد منها عليه ان يبز سابقة تقنية وادهاشاً. في غمار ذلك، لا وجود لشخصيات مركبة ولا لأحاسيس حقيقية، بل مجرد ايحاء بها. صحيح ان التركيب، اجتماعياً أو نفسياً، لم يكن موجوداً في المسلسل نفسه، ولكن كان هناك التلوين الضروري من شخصية الى اخرى، في فريق المهام الصعبة. أما "المهمة: مستحيلة - 2" فيحصر البطولة المطلقة بشخص واحد هو توم كروز، الذي انتج الفيلم ايضاً والذي تأكد من انه صنع قياساً على مقتضياته. والمشاهد التي يظهر فيها يمكن ان تصلح لأفلام دعاية من كثرة توضيبها لمصلحته. مثلاً الفصل الأول من المشاهد حيث نرى توم كروز معلقاً بيد واحدة الى صخرة في جبال يوتاه الشاهقة من دون خوف او حتى وجل، يدفعني الى توقع ان يخرج من جيبه زجاجة مرطبات مثلجة ليروي ظمأه بها وصوت معلن ينادي باسمها كأفضل معين للمهام المستحيلة. ليس من قلة الاعلانات سواء لكومبيوتر آبل أو لسيارات أودي وسواهما من المنتوجات، لكن الاعلان الأكبر يبقى لمصلحة توم كروز قلباً وقالباً، حتى لو أدى الأمر الى ان يمثل كل مشاهد أمام الكاميرا حتى يصل منها الى جمهوره الشاسع مباشرة ومن دون مواربة. نظام غير بعيد تماماً من ذلك الذي يعمد اليه عادل امام أو نادية الجندي في السينما المصرية. جهد المخرج جون وو تركز على انجاز اسلوبه البراق في تصميم مشاهد الأكشن. ولا بد من القول إنه يختار أكثر الأساليب صعوبة، واذ تم تصوير الفيلم بالشاشة العريضة، يصعب على أي مدير تصوير ديفيد كيمبول هنا تحريك الكاميرا 180 درجة أحياناً بمثل نظام هذه الشاشة، أضف الى ذلك ان توزيع الاضاءة على كاميرا تتحرك على ثوابت ليست محمولة بدرجات واسعة لتنتقل من اليمين الى اليسار ومن الأمام الى الخلف على النحو الذي نراه في الفيلم، هو المهمة شبه المستحيلة الوحيدة فعلاً في هذا الفيلم، وديفيد كيمبول حقق ذلك بنجاح غير متكرر. كذلك يعود الى توم كروز فضل حمل الفيلم كله على كتفيه. هذا هو فيلم معمول له وعليه ان ينجح في مهمته تبعاً لذلك. كروز مقنع الى حد بعيد من حيث انه قد يتمتع بالوسامة والجاذبية، لكنه لم يطرح نفسه أصلاً على أساس أنه أرنولد شوارزنيغر أو شون كونوري. ثم ان هناك اتساقاً كاملاً بين حجمه البدني وشكله العادي المتوسط الطول، وعمليات الفيلم. وبذكاء قرر ان يقوم ب 95 في المئة من المشاهد الصعبة بنفسه، لأنه مدرك ان المشاهد سيتساءل عن صدقية الفيلم بأسره، اذا ترك آخر يتولى المهمة بالنيابة عنه. كذلك مع علم ذلك المشاهد ان كروز ليس في حجم شوارزنيغر، فإن تمثيله مشاهد الخطر بنفسه يتحدى اقتناع المشاهد ويتغلب عليه: أنا هو الذي على الشاشة، لا تقل اني لا أستطيع ان أقوم بالمهام الصعبة اذا أردت. بذلك يحمي القصة كلها والفيلم بأسره من السقوط. توم كروز: افلامي مختلفة كروز ليس في حاجة الى تقديم. انه احد اكبر النجوم حجماً وتأثيراً وأكثرهم جاذبية. لكن الملاحظ فيه انه يستطيع الانتقال بين مستويات الأفلام من دون عوائق. من فيلم ستانلي كوبريك التحفة "عينان مغلقتان باتساع"، الى دوره القصير انما المعبر في "ماغنوليا"، وصولاً الى دوريه في "المهمة: مستحيلة" بجزءيه حتى ان تمثيله في الجزء الأول متأثر بمعالجة المخرج الأكثر شمولاً درامياً من معالجة جون وو المقتصرة. الحديث التالي ينتقل بين ما سمح لنا الوقت الانتقال فيه من هذه الشؤون والملاحظات ويلقي الضوء على اقتناعات الممثل بالنسبة الى أدواره المختلفة من ناحية، وبالنسبة الى ما يشكله "المهمة: مستحيلة - 2" من تحديات خاصة من ناحية اخرى. ها هو توم كروز. أفلامك الأخيرة، توم، يختلف كلياً احدها عن الآخر. هل تستطيع ان تتحدث عن أفلامك الثلاثة الأخيرة وما تعني اليك؟ - كل واحد منها مختلف تماماً عن الآخر. فيلم كوبريك تجربة فريدة لي، ومختلفة لأن كل مخرج يختلف عن غيره كثيراً. أنا لست من الأشخاص الذين يقبلون اي عرض من دون تفريق. اكثرت جداً الى العمل، والتزامي اياه يعني لي الشيء الكثير. لست في حاجة الى عقد لأنفذ اتفاقاً، لأني حين اقول قبلت او سأفعل فإني سأنفذ ما قلته. "عينان مغلقتان باتساع" و"ماغنوليا" و"المهمة مستحيلة" مختلفة كلياً. العمل مع كوبريك كان تجربة عظيمة. والعمل مع بول توماس أندرسون مخرج "ماغنوليا" كان مفيداً. "المهمة: مستحيلة -2" مهم لي وفي الوقت نفسه احب ستانلي كوبريك وافتقده كثيراً. هذه الأفلام ممتعة وبالغة التحدي. وبالنسبة الى "المهمة: مستحيلة -2" فإن بعض المتعة كانت في انتاجه. انه انتاج ضخم يتطلب عملاً كثيراً وتعاوناً لم اكن استطيع القيام به وحدي من دون شريكتي بولا ووغنر كانت حاضرة. لأكثر من عام تردد ان برايان دي بالما سيحقق هذا الجزء الثاني، ثم جيء بجون وو... كيف بني هذا الاختيار؟ - هذا الفيلم عمل تضامني استقبل جون وو على اساسه كأحد افراد عائلة العمل. كنت دوماً أرغب في العمل معه. بالنسبة الي كان "المهمة: مستحيلة" لي انا كمنتج بحسب برايان دي بالما. أما الجزء الثاني فهو بحسب جون وو. هل تمتع جون وو بالقطع الأخير تعبير Final Cut يستخدم سينمائياً للدلالة على ان سينمائياً معيناً تمتع بحق اختيار اللقطات والمشاهد الأخيرة في المونتاج وأن الفيلم هو كله منه وهذا السينمائي قد يكون المخرج او المنتج أو النجم عادة؟ - تمتع جون وو بالقطع الأخير. وعندما انضم الينا كان الاقتناع بأننا سنحقق الفيلم الذي يريده هو. هذا فيلمه ايضاً ضمن تقاليد "المهمة: مستحيلة". أحضر طريقته الخاصة في تنفيذ مشاهد التشويق التي كتبها روبرت تاون. لا استطيع ان اتحدث عن العقد الذي ابرمناه مع جون وو، لكني أؤكد لك انه تمتع ب "القطع الأخير". على ذكر روبرت تاون الذي كتب "التفصيلة الأخيرة" و"تشاينا تاون"... هل ادركت ان الفيلم شبيه بفيلم ألفرد هيتشكوك؟ - هناك شبه لكنه عابر وخفيف بين الفيلمين. شبه قد يربط بين اي فيلمين أو أكثر، ولا اعتقد ان التشابه هو بالمقدار الذي تردد الحديث عنه. أعلم ان عدداً آخر من الكتاب صاغ أحداث الفيلم. ولو ان روبرت تاون ينفرد بالذكر، الى اي حجم تدخلت انت في العمل كمنتج او كممثل؟ - نعم عملت على السيناريو منذ البداية مع تاون وجون وو وكان هناك تدخل في كل مرحلة وعنصر. انتاج فيلم كهذا هو عبارة عن تعاون. وعلى رغم ذلك هو فيلم لجون وو، وكمنتج، او شريك انتاج، أنا هنا لمساعدة جون وو في تأمين ما يريد ليشعر بالثقة خلال العمل، ما يتيح له ان يبدع أكثر. كروز الراقص ما رأيك في مشاهد العراك والحركة... معظمها مصمم كما لو كانت "تابلوات" راقصة؟ - مشاهد الحركة عند جون وو هي مثل الرقص، خصوصاً أن لديه الحس النوعي المختلف بالحركة ومعانيها.اشتغلت مع روبرت تاون على السيناريو بالطبع. تعاونا جيداً معاً. لكن روبرت تاون كتبه وجون وو صممه وأنا عملت بينهما ومعهما. جزء من متعة الانتاج أن تكون اصابعك مغمسة في كل تلك الصحون. الأفلام في الوقت نفسه عمل صعب خصوصاً هذا النوع منها. هل شعرت ان الفيلم يميل الى ان يكون آليا... أعني ان مشاهد "الأكشن" تكشف البذخ في الانتاج وفي استعراض قدرات المخرج في تصميمها، لكنها احتلت اكثر مما يجب من مساحة وعلى حساب تفضيل بعض التركيب الشخصي. - هل تعتقد ذلك؟ أظن ان النواحي الشخصية موجودة الى حد كاف. لا تنسَ ان هذا الفيلم "اكشن" اساساً وككل فيلم من نوعه فإن هذه المشاهد هي التي يجب أن تسود. "المهمة: مستحيلة" كسلسلة سينمائية يجب ان تعني استحالة المهمات وصعوبتها وخطورتها،. هذا هو المفهوم الخاص بها. هل كان هناك ما تعلمته من الجزء الأول فتحاشيته هنا؟ - مثل ماذا؟ مثل ما تردد من ان الفيلم الأول سيطر عليه الغموض. - لا. أحب ان اؤكد ان الجزء الأول كان فيلم دي بالما، والجزء الثاني هو فيلم جون وو، كل بأسلوبه الخاص. استمتعت بالعمل في كلا الفيلمين. هنا يسير جون وو تبعاً لتقاليد الميثولوجيا. مشاهده يمكن تفسيرها على هذا النحو من دون تحليلها ضمن تقليد أفلام المغامرات. كثيراً ما تكون العقدة هي الأقل أهمية أو اثارة بالنسبة الى هذا النوع من الأفلام. الأكثر اثارة هو ان يتحرك السرد والشخصية معاً الى الأمام. اذا نظرت الى أفلام هيتشكوك تجد ان اهم ما فيها هو صنع التشويق والغموض وايجاد شخصيات كافية تثيرك. شيء آخر يختلف فيه الجزء الثاني عن الأول هو ان الأول حافظ على فريق عمل يعاون البطل فيه. وهنا ثمة فرد واحد من المجموعة، هو فينغ رامز، وطيار تم استئجاره جون بولسون. هل ترى ان هذا الفيلم لم يحتج الى ذلك الفريق لأن القصة مبنية على شخص واحد أو لخدمة شخص واحد؟ - حين تعمل على فيلم كهذا، سريعاً ما تدرك ان القصة هي التي تحدد اي فيلم ستنجزه، ولا تقول إننا لن نستخدم فريق البطل أو سنستخدمه، أو اننا سنبقيه في الخلفية أو في الطليعة. القصة أدت الى تشكيل فيلم يدور على ثلاثي مؤلف من بطله وبطلته والشرير الأول. كنت اتحدث مع المخرج جون وو وذكر لي ان مشاهد المخاطر عموماً هي من تنفيذك الفعلي... أنت الذي قدت الدراجة النارية بتلك السرعة الهائلة، وأنت الذي تعلقت بالصخرة على هذا النحو من دون مساعدة وعلى ارتفاع خطر... هناك الجنون وهناك الخطر. ما هو الخط الرفيع بين الاثنين عندك؟ - نيكول كيدمان زوجته تقول لي دائماً: لا أريدك ان تؤدي ذلك المشهد. انه خطر وقد يؤذيك. لكنني دائماً أقول لها "ثقي بي". محمد، انا لن أخاطر بحياتي، ولدي خط أتوقف عنده. مثلاً هناك مشهد كان من المفترض تصويره في استراليا ويقضي بالقفز من سطح الى آخر... لم نستطع تصويره كما كان يجب، فنقلناه الى الاستديو ونفذناه في الداخل متمكنين أكثر من المعدات التي معنا، وكان يحمل خطراً جسيماً لو صورناه في موقعه. لكن مشاهد تسلق الجبل احببتها وكانت متعة لي. تسلقت الجبل بمعية بعض أمهر المتسلقين في العالم. كان هناك مستشار تقني معي اسمه رون، وكنت شاهدت أعماله على الفيديو وأيقنت انه اسطوري القدرات. فأحضرته الى العمل معي. ما أريد قوله انني لا انطلق الى القيام بمثل هذه المهام من دون حيطة. جون كان متوتراً خلال تصوير تلك المشاهد الجبلية، وخاف ان تسقط وتصاب... أعلم ان جون كان متوتراً، ولكن بالنسبة الي كان الأمر متعة صافية وأحد أفضل أيام التصوير. تقفز من صخرة الى صخرة... حقاً؟ - نعم. أعدنا ذلك المشهد سبع مرات. أي قفزت سبع مرات... وكنت مستمتعاً بذلك ولم أكن متوتراً على الاطلاق... لكنها كانت قفزة طويلة يضحك. الى المتعة، هل من غايات أخرى؟ هل تعتقد ان عليك القيام بها لأنك مسؤول عن الفيلم أو لأنك بطله؟ - شيء من هذا بالتأكيد. أكره ان يدفع المشاهد تذكرة في سبيل مشاهدة ممثله المفضل فإذا به يجد ان "بديلاً" دوبلير هو الذي يقوم بالمهام الصعبة عوضاً عنه، أو أن هناك حيلة تقنية تكشف انه قام بها جزئياً أو من مكان آمن. حتى يمكن اثارة المشاهدين وأنا اشاهد الفيلم من وجهة نظرهم، لا بد من ان آخذ ما يبدو لك مخاطرات ويبدو لي متعة. وكما قلت، كان هناك معاونون ومستشارون تقنيون يفهمون في مثل هذه المخاطرات ويتأكدون من ان كل شيء على ما يرام قبل أن أقوم بها بنفسي. ولكن ان أترك ممثلاً آخر يقوم بها عوضاً عني فلا اعتقد ان ذلك أمر ذكي. استيحاء من موضوع الفيلم... هل كنت تتمنى ذات مرة ان تكون رجل مخاطر أو جاسوساً او اي شيء من هذا القبيل؟ - لم أتمنَّ يوماً ان أكون جاسوساً، لكنني اردت ان أكون رجل مغامرات وأن أتسلق وأقفز. هل شاهدت حلقات "المهمة: مستحيلة" التلفزيونية ... واذا كان الرد بالايجاب، هل أثارتك خيالياً على الأقل؟ - شاهدت بعض حلقاتها حين كنت صغيراً ولا أدري هل أثارتني ام لا. اهتماماتي لم تكن منصبّة على مشاهدة التلفزيون وبرامجه. لكنني شاهدت بعضها قبل تحقيق الجزء الأول من "المهمة مستحيلة" من باب تحليلها تمهيداً لذلك الفيلم. يذهلني الفارق بين الأدوار التي تقوم بها مثلاً بين شخصية رجل غير واثق من نفسه ومن حبه وزواجه، بل وحتى في اي عالم يعيش في "عينان مغمضتان باتساع"، وشخصية البطل الفذ الواثق من كل شيء في "المهمة: مستحيلة -2". - اختلاف كبير، أليس كذلك؟ وهو أكثر من مجرد رسم شخصيات مختلفة. انه التزام حيال العمل. مع ستانلي كوبريك لا تستطيع الا ان تمنح صورته هو لهذه الشخصية، كل ما لديك. هنا يجب ان تتدخل للمشاركة في رسمها. ما كنه علاقتك بالسينما؟ وما الأمر الثابت الحقيقي الذي يقف وراء عملك وحبك لما تقوم به؟ - احب السينما عموماً، لكنني احب الأفلام الفنية والأفلام المستقلة كذلك، والا لما وافقت على "عينان..." و"ماغنوليا" على رغم صغر الدور في الفيلم الثاني، واستقلاليته الفنية التامة.