هل كان فاضل الجمالي واميل البستاني وأكرم زعيتر "زملاء" مغمورين في "دوريات خطية"، مدرسية قبل ان يصبحوا سياسيين مشهورين تغطي أخبارهم وتنشر تصريحاتهم الدوريات المطبوعة الواسعة الانتشار؟ إن مجلة "العروة الوثقى" الخطية التي أصدرتها جمعية "العروة الوثقى" في كنف الجامعة الأميركية في بيروت، لا تكتفي بالتأكيد على ان الفرسان الثلاثة كانوا صحافيين هواة في العشرينات، بل تفيد ان السياسة كانت "بعبعاً" بالنسبة للجمالي، ومادة شعرية للبستاني وغير موجودة في قاموس زعيتر. ولنبدأ بزعيتر. في أيار مايو 1925 نشر في "العروة الوثقى" التي كان يدير تحريرها ضياء الدين الخطيب مقالة بعنوان "فلاسفة الشرق" امتدت على صفحتين وذيلت بتوقيع الكاتب ورسمه. وقارن الكاتب بين فلسفة المعري وعمر الخيام وطاغور، وأضاء على وجه الشبه بينها، فقال عن الأول: "المعري شاعر الحكماء وحكيم الشعراء. عاش منفرداً بعيداً عن التقاليد والعوائد السائدة في زمانه. حرَّم أكل اللحوم. وله نظرية خاصة هي تحريم الزواج. ولئن كان فاقد البصر، فقد نظر الى الطبيعة بعين العاقل وناجى بصمته قوة الإبداع الممثلة في الأشجار والأزهار، في النجوم والهواء". وانتقل الى عمر الخيام الذي ذهب "مذهب المعري في فلسفة الوجود. وهو ذلك التقي الكافر الناسك الملحد". وبعد ان قارن بين بعض أبيات المعري والخيام فأكد على ان المعري "شمس ساطعة انعكست على ذهن الخيام فأضاءت أيما ضياء". وختم الكاتب مقالته بكلمتين عن طاغور "شاعر الهند العظيم وحائز جائزة نوبل في الآداب، الذي دحضت عبقريته قول القائلين بجمود القريحة الشرقية وجفاف الذهن الشرقي". وأبدى أسفه لعدم تناوله فلسفة طاغور ومقارنتها بفلسفتي المعري والخيّام، "لأنني لستُ من الواقفين على فلسفته حتى أبيّن شيئاً منها". وعلى رغم موهبة النقد التي يمتلكها طلاب الجامعة ومحررو المجلة فإن أحداً لم يسأل أكرم زعيتر عن سرّ تناوله طاغور على رغم جهله لأدبه وفلسفته، أو ان يقول له إن الكلام الخطابي التعميمي لا خبز له في البحث الفلسفي. ولنقلب الصفحة. إميل البستاني رجل الأعمال والنائب في البرلمان اللبناني، الذي كان على قاب قوسين من رئاسة الجمهورية لو لم يسقط بطائرته الخاصة الى قاع البحر قبالة بيروت، نشر قصيدة في "العروة الوثقى" بدلاً من مقال سياسي أو بحث اقتصادي. ولكن القصيدة المعنونة "والسيف أصدق أنباء بما كتبا" كانت سياسية وطنية لا غزلية. قال الشاعر في سياق قصيدته المذيلة كالعادة بتوقيع صاحبها وصورته: لبنان يا جنة الدنيا وبهجتها يا ربع أنس يزيل الهم والكربا ما للشقاق على سفحيك قد ضُربت أطنابه ومعين الماء قد نضبا أضاف منتقلاً من لبنان الى اللبنانيين المتناحرين طائفياً ومذهبياً: إن التعصب قد أعمى بصائركم أنساكم من حقوق الربع ما وجبا لا دخل للدين ان عجماً وان عربا كنا فنحن نروم العلم والأدبا لا دخل للدين فالأوطان تجمعنا فعززوها تزيلوا الشك والريبا لا فرق بين مصلٍّ في عقيدته عند الركوع وبين الراسمي الصلبا يبقى العدد الثالث من "العروة الوثقى" الصادر في ايار من العام الدراسي نفسه، حين نشرت ملاحظات محمد فاضل الجمالي عن عراقه بعد غياب خمس سنين أمضاها في الجامعة الأميركية، وقد زينت بصورة لجامع الكاظمين ومناراته الذهبية. مهّد الكاتب لملاحظاته الست بمقدمة مستفيضة قال فيها: "قبل أن أذهب لزيارة العراق في عطلة عيد الفصح الماضي، كنت أتصوره جنة سماوية بالغة أسمى درجات الرقي والعمران، غير أني لم أطأ أرض العراق إلا وخابت آمالي وذهبت أحلامي أدراج الرياح: فقد عادت اليّ صورة العراق الحقيقية، ورأيت العراق كما كنت أعرفه سابقاً لا كما صرت أتخيله بعد الفراق". مع ذلك، فإن كلامه حول "انتشار المعارف والآداب والتقدم الزراعي، والعمران، وسهولة المواصلات، والحال الاجتماعية والحال السياسية"، بأمور كثيرة لم تكن موجودة في العراق قبل مغادرته الى بيروت. وعلى سبيل المثال، يؤكد الطالب الذي أصبح رئيساً للوزراء في الخمسينات ان "الحال السياسية تختلف اليوم كثيراً عنها قبل خمس سنين. إذ لم يكن إذ ذاك برلمان ولا تمثيل. وأما اليوم فقد صار العراقيون يقدّرون معنى التمثيل، وهم سائرون في السبل المؤدية الى الديموقراطية الحقة كما هي معروفة في البلاد المتمدنة". ولأن البدايات تكون مليئة بالتجاوزات، فقد اكتفى بما ذكره حول سياسة العراق في عهد فيصل الأول، خصوصاً وأن "موضوع السياسة ناريّ وأخشى على قلمي من ان يحترق فيه". ويذكر ان الجمالي بعد التخرج، لم يكتف بالكتابة في السياسة، بل انه مارس السياسة وزيراً للخارجية ورئيساً للحكومة، حتى احترق هو بنارها التي اندلعت في صيف 1958، فحكم بالاعدام ثم نُفي حيث أمضى بقية عمره في تونس. ولكن ماذا عن نتاجه في "العروة الوثقى" عندما ترأس جمعيتها في العام 1929 وماذا عن مقالة "الأم" لأحمد الشقيري وقصيدة "دمشق سلاماً" لرئيف خوري، وبدايات ابراهيم طوقان الشعرية؟ نرجئ الاجابة الى الحلقة المقبلة، ليس فقط لضيق المقام، بل أولاً، لأن المجلة الناطقة باسم الجمعية، تتغير كل عام دراسي نتيجة تغيير قيادة "العروة الوثقى" ورئاسة تحرير المطبوعة، وأحياناً يشمل التغيير كل شيء باستثناء اسم المجلة. * كاتب لبناني.