من التطورات الأخيرة التي سيكشف مقبل الأيام عن مغزاها الحقيقي ما يبدو كمسلسل للانفجارات في حزب البعث العربي الاشتراكي شمل حتى الآن السودان واليمن والأردن. فبصرف النظر عن أي خلاف ممكن حول حدود ومدى ثقل النفوذ البعثي وسط الجماهير والنخبة العربية، وهو بالتأكيد نفوذ أقل مما كان عليه في الماضي القريب أو الأبعد، لا بد أن يكون لهذه التطورات معنى بالنسبة لحزب البعث نفسه أو للوضع العربي عموماً. وعلى رغم أن الانفجارات المقصودة متعلقة بحزب البعث الموالي للعراق بحسب التعبير الصحافي الدارج، فإن الأصول التاريخية المشتركة مع حزب البعث الموالي لسورية، تجعل الدلالات التي يمكن استنتاجها مشتركة بينهما ومن ثم على صلة ببلدين عربيين لهما أهمية خاصة في الصراع العربي - الاسرائيلي أو تاريخ الفكرة القومية، مما يستوجب رصد وتحليل مجريات الأمور فيهما، خصوصاً اذا كانت متعلقة بالحزب الحاكم. الخطوة الأولى على طريق متابعة هذه التطورات واستكشاف معناها تنطلق من أن هذه الساحات الثلاث هي أهم ساحات الحضور البعثي خارج سورية والعراق أي الحضور خارج السلطة، عدا، ربما، موريتانيا حيث يعمل البعث تحت اسم "الطليعة الوطنية". وما يمكن استنتاجه فوراً من هذه الحقيقة أن البعث في الأقطار الثلاثة المعنية مواجه بضرورة اعطاء اجابات نظرية - أو عملية على القضايا المحلية القطرية وفوق - القطرية المتعلق بالعراق أو فلسطين أو غيرهما من الأقطار الأخرى، بحكم كونه قوة سياسية فاعلة بمستوى من المستويات المتفاوتة بين قطر وآخر، وهو وضع لا تجد منظمات الحزب في الأقطار الأخرى نفسها فيه، إذ لا يتوقع الرأي العام منها ذلك بحكم ضعف وزنها أو انعدامه. أما بالنسبة لحزب البعث في العراق فإن ظروف الضغط الاستثنائية التي تعيشها البلاد تجعل تلك الضرورة غير مطروحة بالمستوى نفسه من الحدة، لأن الأولويات والعقلية البعثية في العراق تتشكل وفق محدد أساسي هو مترتبات الحصار بشقيها وهما طغيان الحاجة التعبوية على ما عداها وافرازات الانقطاع عن العالم والتغيرات العاصفة في قواعد الحزب والقسم الأعظم من قياداته الوسطية وغيرها. هذه الحال العراقية لها تأثيرها على عقلية بعثيي السودان والأردن واليمن بحكم وحدة الرابطة الحزبية والمشاركة الوجدانية والفكرية التي تستتبعها، وهي مشاركة عملية يومية بالنسبة لبعض قيادات الحزب في هذه الأقطار وكوادره الرئيسية لأنها تعيش في العراق في شكل دائم أو شبه دائم، لأسباب متعلقة إما بظروف أقطارها أو المسؤوليات الحزبية في الاطار فوق - القطري العربي. على ان هذا التأثير يظل بطبيعة الحال أقل مما هو عليه في الإطار البعثي العراقي ويتضاءل بنسبة ما تفرض القضايا المحلية اليمنية والأردنية والسودانية نفسها على مشاغل البعثيين في هذه الأقطار، وبقدر ما يواجه هؤلاء بضرورة اعطاء اجابات مختلفة عن تلك التي تقدم في العراق على مسألة ذات أهمية خاصة بالنسبة للمثقفين العرب، نعني عملية اجتياح الكويت. يضاف لذلك ان الأقطار الثلاثة شهدت درجات متفاوتة من الانفراج السياسي لدى الأنظمة الحاكمة بعضه من قبيل الاختيار والآخر من قبيل الاضطرار، كما الحال في السودان، ما يخلق انفتاحا موازياً لدى الأحزاب السياسية كافة بتوفير ظروف ملائمة لحرية في الحركة والتفكير تتساوى مع درجة الانفراج. يضاف لذلك أن تاريخ التجربة البعثية يقول إن قدرة الحزب في قطر معين على ممارسة الصلاحيات الواسعة التي ينص عليها نظام الحزب الداخلي مرهونة بحجم الحزب. هذه المجموعة من العوامل تجعل العقلية البعثية القيادية والقاعدية في الأقطار المعنية متباينة كثيراً أو قليلاً عنها في العراق أو على الأصح عنها لدى الأوساط البعثية المتأثرة بالتجربة العراقية أكثر من غيرها إما بسبب الإقامة الطويلة فيه أو نظراً لصدارة النموذج العراقي في الذهن والنفسية البعثييين. ويترتب على ذلك وجود مساحة أكبر لتعددية وجهات النظر تؤدي الى الخلافات والانشقاقات العلنية عندما تعجز القيادات عن التحرر من تأثيرات المرحلة السابقة التي تشدد على المركزية على حساب الديموقراطية في تطبيق قواعد الانضباط الحزبي. أما مدى انتاجية الخلافات والانشقاقات في تطوير البعث نفسه حزباً وسلطة، والمساهمة بذلك في تطوير الحركة السياسية العربية عموماً، أي كونه انفجاراً يعبر عن أزمة اضمحلال أو أزمة نمو، فيعتمد على القضايا موضع الخلاف وكيفية معالجتها من الطرفين المعنيين. ان هناك شحاً في المعلومات المتوافرة عن هذا الجانب الحيوي من الموضوع في ما يتعلق بالنموذجين اليمني والأردني. ففي ما يتعلق بالنموذج اليمني وهو الأقدم زمنياً بين النماذج الثلاثة، يلفت النظر انهاء القطيعة بين المجموعة الأكبر من أعضاء قيادة الحزب القطرية والقيادة القومية في سورية نتيجة الانشقاق الذي انتهى، من ناحية أخرى، الى احتفاظ الجناح الآخر د. قاسم سلام بالعلاقة مع القيادة القومية في بغداد. وجاء في تصريح لقائد هذه المجموعة د. عبدالوهاب محمود، وهو في الوقت نفسه رئيس مجموعة الحزب البرلمانية ونائب رئيس مجلس النواب، في توضيح نشوء العلاقة مع سورية انه حوار بعثي - بعثي يشكل "خطوة أولى لفتح حوار قومي - قومي مع كل القوى الوطنية الأخرى دافعها الأساسي تدهور الأوضاع العربية الى درجة عودة الاستعمار في أشكال جديدة وبصورة أكثر بشاعة واستغلالاً، وأن من الواجب في هذه الظروف أن تتداعى القوى القومية بصفة خاصة الى الحوار الجاد والصادق لتجاوز الخلافات الجانبية الناتجة في جزء كبير منها من المصالح الضيقة والتعبئة الخاطئة ضد بعضها البعض". أما في الأردن فإن الجناح الموازي لأمين عام الحزب تيسير حمصي ورفاقه الذي أعلن عن وجوده في أوائل آذار مارس الماضي يقوده نائبا الحزب في البرلمان خليل حدادين ونشأت حمارنه. وبحسب المعلومات الصحافية فإن هذا الجناح الذي يضم مجموعة تتجاوز الستين عضواً وقيادياً ما زال يحصر علاقته بالقيادة القومية في بغداد، وأن قضية الخلاف الرئيسة تدور حول التصرّف بموارد الحزب المالية، مع اتهامات اخرى لقيادة الحزب تتعلق بالديموقراطية الداخلية وضعف جماهيرية الحزب. وبالنسبة الى الحال السودانية التي تتوافر لكاتب هذا المقال معلومات أكثر غزارة عنها فإن بوادر الخلاف الأولى عام 1995 ظهرت مرتبطة باستراتيجية الحزب السياسية القطرية، خصوصاً ما يتصل منها بالتجمع الديموقراطي، المظلة الجامعة للأطراف الحزبية كافة وغير الحزبية السودانية ضد انقلاب الاسلاميين عام 1989. وكان البعث في السودان قطع صلته بالتجمع الذي كان أحد مؤسسيه بسبب تأييد بعض القيادات الرئيسة في شقه الخارجي للصف المناوئ للعراق إثر عملية الكويت. غير أن غالبية أعضاء القيادة القطرية توصلت بعد ذلك الى أن استعادة الصلة بالتجمع تتفق مع منطق الأولويات الوطنية والقومية معاً، لأن الواقع المحلي جزء من الواقع القومي ولأن الصحيح وطنياً هو الصحيح قومياً لكونه السبيل الوحيد لكسب ثقة والتفاف الجمهور والنخبة في القطر المعين تجاه قضايا العراقوفلسطين وغيرهما من القضايا العربية الملحّة. ولم يلبث ان اتضح بعد ذلك ان هذه التصورات جزء من تيار يدعو الى حركة اصلاح حزبي شاملة افقياً ورأسياً، أي على الصعد الفكرية والتنظيمية أيضاً، وفي الحزب بمجموعه بما في ذلك النموذج البعثي في العراق، وذلك تحت شعاري التجديد والديموقراطية. ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح من متابعة مجموعة المقابلات التي أجريت مع المسؤول الأول محمد علي جادين والمواد الأخرى المنشورة له ولكتاب الحزب الآخرين، إذ ينتقل التركيز فيها من الأسباب المباشرة للخلاف الى الأسباب غير المباشرة المتصلة بالسياق البعثي العام. ان حاجة الحركات السياسية اليسارية، والقومية بالذات منها، الى المراجعة الجذرية لمسيرتها الفكرية والسياسية والتنظيمية في عصر ما بعد سقوط جدار برلين والايديولوجيات والتطبيقات المرتبطة به أمر بديهي منذ سنوات عدة. وبالنسبة الى حزب البعث العربي الاشتراكي بمجموعه، فإن الحاجة الى هذه المراجعة أكثر حدة بسبب تعقيد وخطورة التجارب التي خاضها من خلال صيغته العراقية. وإذا بدا أن الصيغة السودانية هي الأقرب للاستجابة الى هذه الحاجة فربما كان ذلك عائداً الى حداثة التطورات في الصيغة الأردنية وعدم توافر المعلومات الكافية عنها لهذا السبب، وكذلك عن الصيغة اليمنية. وقد يكون هناك عامل آخر وهو ان البعث في السودان تكوين حديث نسبياً في المنظومة البعثية بالمقارنة لرصيفيه الأردني واليمني اللذين تعود بدايتهما الى الخمسينات، ونما بسرعة قياسية خلال العقدين السابع والثامن ما جعله أكثر استعداداً للتعامل مع المعطيات الجديدة. وفي كل الأحوال قد لا يكون بعيداً عن الحقيقة التخمين بأن ادراك ضرورة الأصلاح الحزبي الشامل قائم في دوائر معينة موجودة في التنظيمات الثلاثة، وحتى في التنظيمات البعثية الأخرى، مع اختلاف في وزنها ومدى تأثيرها في التنظيم المعين، لأن أعضاء الحزب هم أولاً وأخيراً جزء من النخبة العربية التي يشكل الهم الديموقراطي والتجديدي شاغلها الأول. كما ان هناك ما يدل على تواصل مباشر بين الدوائر المعنية، وبين بعثيي اليمن والسودان خصوصاً، حيث وقع الطرفان بروتوكولاً للتبادل الثقافي والتعاون في القضايا التي تتفق حولها رؤيتهما. ويبقى أخيراً أن ثقل مآسي الحصار على ضمائر البعثيين ينبغي أن يتجاوز بمراحل ثقله على الضمائر العربية مما يدفع الى التزامهم بكل ما يؤدي الى كسره عبر تصحيح مسيرة الحزب ودولته، مهما كانت الصعوبات، ويعطي هذا الالتزام طابع المسؤولية الاخلاقية والتاريخية تجاه الشعب العراقي الذي أعطى التجربة البعثية كل ما يملك. إنه نداء الضمير والأخلاق قبل أن يكون نداء العقل والقناعات الذهنية المجردة. * كاتب سوداني مقيم في مانشستر بريطانيا.