في ما يشبه الاستذكار لمسيرة فنية تجاوزت الخمسة عقود، قدم هارولد بنتر على مسرح "الميدا" عرضين من اخراجه وعنوانها "الغرفة" لمسرحيته الأولى ومسرحيته الأخيرة "الاحتفال" كتبهما في جو دافئ وحميمي توحيه المسارح الصغيرة. كان الجمهور الجالس على مقاعد قليلة لا تفصله عن الخشبة سوى أشبار قليلة هي المسافة عينها التي أراد بنتر أن تدركها اللعبة المسرحية، حين يكون في مقدورها أن تنأى بخيال المتلقي وتقربه منها في الوقت ذاته. ولد بنتر الذي يعد من روّاد المسرح البريطاني الحديث في العام 1930 وبدأ ممثلاً ثم كتب أول نص له "الغرفة" عام 1957 لتتوالى أعماله التي قاربت الثلاثين نصاً عدا الأخرى التلفزيونية. ومعظم مسرحياته صغيرة الحجم وكتب في وقت مبكر النصوص الطويلة ومن أشهرها "الحارس" 1958 التي حازت جوائز فنية منوعة و"عيد الميلاد" وهي من مسرحياته المهمة أيضاً التي كتبها وهو في عشرينياته. يعد هارولد بنتر مع جون اوزبورن وآردن من متمردي الحركة الفنية البريطانية سواء على مستوى صناعة الفرجة أو الأفكار، وهو من أولئك الذين خلفوا وراءهم لغة شكسبير ومسرح ت. س أليوت الفكري ليعدّوا عدة مسرح جديد يواجه الحياة الراهنة ومشكلات العصر وأزماته. كتب هارولد بنتر مرات عن مغزى أعماله التي ينظر فيها الى معضلة التواصل والحوار الانساني فالبشر كما يقول، يتحاورون من وراء اقنعة تخفي أكثر مما تظهر ذواتهم الحقيقية. ومن خلال تلك النقائص والعيوب، عيوب التحاور المقنع، ينبثق التجاوز في الكلام أو جدل الدراما. ولا يجهد القارئ كثيراً كي يكتشف تأثيرات صموئيل بيكت على أعمال بنتر: الأماكن المحدودة التي تتحرك داخلها كائناته التي تبعث على الرثاء، وعند بنتر في الغالب غرفة مربعة، التضارب بين الحوار المختصر والتكرار والكلام الفائض، وتلك السخرية المشحونة بالشاعرية. بين تغريب النص وواقعيته، أي الطليعية وتقاليد المسرح الكلاسيكي، تتردد أعمال بنتر متوافقة مع مزاج بريطاني مهما ابتعد في تجريبه يبقى ينشد الوضوح. "الغربة" و"الاحتفال" يدلان على اتجاهات فكر بنتر الأساسية وطرق الاعراب عنها فنياً. فالأولى كتبها وهو في عشرينياته والثانية في السبعين من عمره. انها حقاً فرصة ثمينة يشعر المتفرج خلالها وكأنه على موعد مع اطلالة وجيزة ولكنها شديدة الجدوى والأهمية لمعرفة جهد أحد معلمي الدراما الحقيقيين. المسرحية الأولى تخوض في موضوع يمكن أن ندرك جانبين منه: بعده الاجتماعي ومسراه الوجودي، البعد الاجتماعي الذي يلامس البؤس العائلي، والبعد الآخر يتبلور حول شعور الكائن بالعزلة والخوف والشك بوجوده وبالأشياء المبهمة التي ينتظرها، المخلص الذي ينتشله من وحشة عالمه، أو الغرباء الذين يحضرون على حين غفلة ليهددوا وجوده. الكلام في هذه المسرحية يقيم الدليل على استمرار الحياة الساكنة الميتة التي يعيشها البشر المتعبون، تلك العوائل التي بالكاد تجد لها متنفساً لحياة طبيعية. الزوج سائق شاحنة وزوجته ربة بيت تكرس كل وقتها لخدمته، تضمهما غرفة هي كل ما يحويه البيت، تقدم له الطعام وهو يطالع مجلة تسلية ويهمهم من دون أن يرفع رأسه ليصغي الى بعض أقوالها. هي تعرف انها تحاور نفسها ولكنها تواصل هذا الحوار لأنه الدليل الوحيد على وجودها العقيم. ذلك الموقف يعيد الى الذاكرة أجواء بيكيت في "آه الأيام السعيدة" على وجه التحديد. عالم موحش يستبشر البشر كل يوم استمرار حياتهم فيه وهي لا تعني سوى الخواء. روز التي مثلت دورها لينزي دانكن تخاطب زوجها: "أنا جد سعيدة في مكاني هذا، حيث الهدوء وحيث كل شيء على ما يرام، لا نعبأ بأحد ولا يعبأ بنا أحد". وهكذا تجد سلواها الصغيرة بين جدران غرفتها التي يغدو هاجس الاحتفاظ بها كالتعويذة التي تطرد خوف الوحدة والجهران والحياة الشحيحة التي يعيشها. يمكن أن يستمر حوار المرأة مع ذاتها الى ما لا نهاية لأنها تستنبط من كل الأشياء مادة للحديث. ولكن تلك الحياة تهتز على نحو مباغت بقدوم الغرباء، وهم لفرط غرابتهم يبدون أقرب الى الشخصيات المتوهمة ولكنها ضرورية لأنها تحقق شراكة التواصل الذي هو في الأساس حوار مع النفس لا غير. ومن هنا يدخل هارولد بنتر عالم الفانتازيا من دون أن يقذف بنا بعيداً عن الواقع. أربع شخصيات تفزع المرأة عندما تدق على الباب، الأولى صاحب النزل المفترض، وهو شخصية كاريكاتورية، يبدو أن بينه وبين الزوجة حواراً متقطعاً، فلا يقيم له الزوج اعتباراً بل لا يرد على سلامه وتعليقاته. ولكن حديثه يظهر نبرة الافتخار بالنفس أمام روز الشخصية المذعورة. والكثيرون من الرجال في مسرح بنتر يظهرون على هذا النحو. عندما يحل المساء والوحدة بالمرأة بعد أن يمضي زوجها بشاحنته، تجد على الباب غرباء جدداً ولكنهم هذه المرة زوج وزوجة شابان يبحثان عن غرفة في النزل ذاته. يطلبان المشورة ويتلمسان الراحة بضع دقائق. في البداية ويخاطبان المرأة بلطف ثم يهدّد كلامهما المرأة فتصبح غرفة روز موضع المساومة. عندئذ يصدق حدس المرأة في ذعرها المشروع من الآخر. ولكنهما يتشاتمان أيضاً ليكرسا ما يسميه هارولد بنتر فظاظة أو صفاقة العالم الخارجي. في معظم مسرحيات بنتر هناك من يقتحم عالم مخلوقاته من دون اذن ليعيث به فساداً، وهو على الأرجح يستجيب الى هاجس تشيعه حضارة اليوم التي توغل في عزل الناس بعضهم عن بعض اجتماعياً، فتولد ظاهرة الخوف من التواصل. ولكن بنتر في انعطافة عن مسرح بيكيت يعبر بشخصيته الى عالم جديد حين يدخل الغرفة زنجي اعمى يقول للمرأة انه يحمل رسالة من أبيها. يبدو هذا الرجل كأنه قادم من عالم آخر، عالم روحاني غامض. بعد أن تفرغ المرأة حقدها عليه من الفزع، تقترب منه فتكتشف انها امام قوة مبهمة تشدها الى هذا الرجل وربما يكون عالمها القديم. من هنا يتوضح الموقف الدرامي في لحظة حافلة بالشعر والعاطفة فتلامس المرأة كف هذا الأعمى، ليعود الزوج فيلقيه أرضاً. انها المرة الأولى تتوضح فيها كلمات الزوج الفظ الصموت الذي يستنكف الحديث معها، لينتهي الصراع وروز تخفي عينيها كي لا تشهد هزيمتها الأخيرة. حرص بنتر المخرج على ألاّ يجرى تغييرات على النص الأصلي الذي كتبه وهو في مطلع شبابه. فهو جزء من ذاكرة تلك الأيام. وكانت الممثلة لينزي دانكن محور المسرحية فهي لاعبة بارعة في المسرحيتين اللتين قدّمهما هنتر من خلال هذا الدور، دور ربات البيوت المتطهرات اللواتي يعشن في ظل فزع الشعور بالفقد. الخوف من رحيل الزوج او فقد الأمان. أولئك النسوة المقذوفات خارج ذواتهن ليشخن في أسى نشدان السعادة العائلية. هارولد بنتر في المسرحيتين يهاجم مؤسسة الزواج معرياً اعتباراتها المحفوفة بالزيف والأكاذيب، مع انه يعتبر التواصل بين كائنين معزولين ضرب من الحرية المستعادة. الممثلة التي أدت دور روز المرأة التي يسحقها قلق الشيخوخة تتحول في المسرحية الثانية "الاحتفال" الى زوجة عابثة جميلة ومغرية، ذلك الانقلاب في الدور اتاح لها فرصة ثمينة كي تظهر دقة حركتها وقدرتها على التحكم بنبرات صوتها من عجوز مهذار الى امرأة مغناج من الطبقة المتوسطة التي تصبح في هذه المسرحية موضع استهداف بنتر. مسرحية "الاحتفال" هي أقرب الى النص الاجتماعي الساخر، مع ان النزعة العبثية تشكل منطقها الداخلي ويتناول فيها المؤلف النزعة النفاجة بين العائلات التي تنشد سعادة التمتع بالمظاهر والبذخ. الأحداث تجرى في مطعم هو الأرقى في المدينة وبين طاولتين الأولى لزوجين شابين أحدهما مصرفي فخور بنفسه والزوجة بين السخرية منه وبين مسايرته تنفخ في صورته. والطاولة الثانية يحتفل فيها زوجان بعيد زواجهما مع أقرب الناس اليهما اخت الزوجة وأخي الزوج والاثنان في ورطة الزواج ذاته. فهما مرآة حية الاثنين. الزوج المحتفي بزواجه غير عابئ في الأصل بزوجته المتأنقة التي تشرك نفسها عبثاً في لحظاته الفالتة بين الثمل والانتشاء ببطولة البذخ. يقتحم عالم المجموعتين نادلو المطعم وصاحبه، وهم لشدة حرصهم على أداء خدمة متكاملة يتدخلون في حوارات زبائنهم. وكل نادل حفظ الطرائف التي تسر الزبائن: النادلة التي تتغنج بصوتها لتثير وتسعد الرجال، والفتى الذي حفظ وصايا جده يردد أسماء المشاهير من الأدباء الذين التقاهم في مسرى حياته العجيبة ليدهش المستمعين. ينتهي الاحتفال مثلما بدأ على ثرثرة غير مجدية. غير أن الحوار الذكي لا يبقي شيئاً بعيداً عن عين النقد: الحياة الزوجية أولاً، ثم التفاهة والعادات المشوهة وغرور الرجال وعنجهيتهم وغنج النساء وبلاهتهن، انه يقوم بعملية تعرية في حوار ضاحك ذكي ومركز بين طياته تنبثق جمل هارولد بنتر الشاعرية. لم يتبع الاخراج خطة تتعب النصين أو تحملهما ما لا طاقة لهما عليه، فكان حريصاً على حضور ما يمكن أن نسميه سحر البساطة، ولكن الاتقان والدقة حققا مسريين للمسرحيتين الأول يتسم بالأمانة للنص من جهة وللواقع أيضاً، وهناك المسرى الآخر الذي يمد خيوطه نحو عالم شعري يكمن خلف هذا العالم المرئي. ولعل المشاهد يسأل نفسه عند الانتهاء من عرض "الاحتفال" هل كان الندل على جد من أمر قصصهم كالبشر المحتفين بأنفسهم، أم أن اللعبة عندما تكتمل تكون بلغت درجة النقصان في الوجود المتخيل لهؤلاء البشر؟