رغم «خطة طوارئ» ترمب.. خام أمريكا يهبط 4.1 %    رحالة بريطانيون يعبرون محمية الملك سلمان على ظهور الإبل لمسافة 500 كيلومتر    نيو للفضاء توقع مذكرة تفاهم لتعزيز الابتكار الجيوفضائي بالمملكة    عبور 54 شاحنة إغاثية سعودية جديدة مقدمة للشعب السوري الشقيق منفذ جابر الأردني    إحباط تهريب 48 كيلوغراما من الحشيش المخدر و52 ألف قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    هل تفرج إسرائيل عن أقدم معتقل فلسطيني؟    الهند تحقق في مرض غامض أودى ب17 شخصاً    جامعة الإمام عبدالرحمن تتصدر المراكز الأولى في الدورة العاشرة لجامعات دول التعاون    "المنافذ الجمركية" تسجل أكثر من 950 حالة ضبط خلال أسبوع    ختام منافسات بطولة البلوت بواحات المذنب    الداخلية : ضبط (22555) مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    بأمسياتٍ روائيةٍ وتجارب تفاعلية.. الإعلان عن «مهرجان الدرعية للرواية»    الخليج يخشى الأخدود .. الوحدة يواجه الاتفاق    تقلل خطر الإصابة لدى النساء.. ثورة واعدة لعلاج سرطان عنق الرحم    "المركزي الروسي" يخفض سعر صرف العملات الرئيسية مقابل الروبل    استمرار هطول أمطار على عدد من مناطق المملكة    ترمب يغيّر اسم خليج المكسيك    كائنات مخيفة تغزو جسد رجل !    اكتشاف قمتين أطول من إيفرست ب100 مرة !    مصر: التحقيق مع فرد أمن هدد فنانة مصرية    حورية فرغلي تستعد لتركيب «أنف اصطناعي»    التحكم في الكمبيوتر بإيماءات الوجه !    وصول الوفود المشاركة في مؤتمر آسيان الثالث "خير أمة" بمملكة تايلند    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    غوتيريش يدين احتجاز الحوثيين لسبعة من موظفي الأمم المتحدة    عمال يحصلون على 100 ضعف رواتبهم.. ماذا كنت ستفعل لو كنت مكانهم؟    الموسيقار العالمي هانز زيمر يبهر جمهور "موسم الرياض" في ليلة ابداعية..    محمد بن عبدالعزيز يشكر القيادة لتمديد خدمته نائباً لأمير جازان    «ميتا» تعتزم استثمار أكثر من 60 مليار دولار في تطبيقات الذكاء الاصطناعي    الشباب يحصل على شهادة الكفاءة المالية    شامخات القصيد في معرض الكتاب بالقاهرة.    الربيعي تحصل على المركز الثاني في مسابقة بيبراس للمعلوماتيه    "الأهلي" يكشف أساطيره في "أسبوع الأساطير"    فريق برادي يتصدر التصفيات التأهيلية لبطولة القوارب الكهربائية السريعة "E1"    مدرب الأهلي "ماتياس": الجميع يعمل لتدعيم صفوف الفريق    بعد «سره الباتع».. فيلم جديد يجمع رانيا التومي مع خالد يوسف    محمد بن عبدالعزيز يشكر القيادة بمناسبة تمديد خدمته نائبًا لأمير جازان    منح وزير الشؤون الإسلامية وشاح الطبقة الأولى للشخصية الإسلامية العالمية المؤثرة لعام 2024    مدير عام تعليم الطائف التعليم استثمار في المستقبل وتحقيق لرؤية 2030    الأمير محمد بن سلمان يُعزي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ فاضل الصباح    أمير حائل يرفع الشكر للقيادة بمناسبة تمديد خدمته أميرًا للمنطقة    جامعة الملك عبد العزيز تطلق مبادرة لتطوير مهارات الطلاب والطالبات في مجال الذكاء الاصطناعي الأولى من نوعها على مستوى الشرق الأوسط    الأولمبياد الخاص السعودي يختتم المسابقات الوطنية للقوة البدنية والسباحة بالرياض    الجبير يُشارك في جلسة حوارية في منتدى دافوس بعنوان «حماية البيئة لحفظ الأمن»    40 ألف ريال تكاليف ليلة الحناء    ترمب يلغي الحماية الأمنية عن فاوتشي: «ليحمي نفسه»    آل سمره يقدمون شكرهم لأمير نجران على تعازيه في والدهم    القصيبي مسيرة عطاء    خطيب المسجد النبوي: تجنبوا الإساءة إلى جيرانكم وأحسنوا لهم    أكثر من 20 ألف جولة رقابية تنفذها بلدية محافظة الأسياح لعام 2024م    خطيب المسجد الحرام: حسن الظن بالله عبادة عظيمة    %2 نموا بمؤشر التوظيف في المملكة    أعطته (كليتها) فتزوج صديقتها !    أمير منطقة جازان يلتقي مشايخ وأهالي محافظة فيفا    الملك وولي العهد يعزيان رئيس منغوليا في وفاة رئيس منغوليا الأسبق    ترامب يعيد تصنيف الحوثيين ك"منظمة إرهابية أجنبية"    السعودية تدين وتستنكر الهجوم الذي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلية على مدينة جنين في الضفة الغربية المحتلة    الإرجاف أفعى تستهدف بسمّها الأمن الوطني..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل كان قومياً أم انفصالياً أم اتحادياً . برنامج جمال باشا للأشغال العامة والبناء وتطوير الحياة المدنية 2 من 2
نشر في الحياة يوم 05 - 05 - 2000

} تحدثت حلقة أمس عن سيرة جمال باشا ونشاطه العسكري واصطدامه مع الحركة الوطنية السورية. وتتناول حلقة اليوم الوجه الآخر لشخصيته وأعماله العمرانية والإصلاحية.
انخرط جمال باشا في سورية في برنامج شامل للبناء والتأهيل. خلفية جمال أهلته للقيام بمثل هذا البرنامج. خدم سابقاً كمفتش عسكري لخطوط حديد الرومللي قبل ثورة تركيا الفتاة، وكوزير للأشغال العامة في الأشهر الأولى من حكومة سعيد حليم باشا.
أحاط جمال نفسه بمجموعة من الضباط الألمان لاستشارتهم في مسائل البناء والتأهيل. وابقى حوالى عشرة مستشارين، كان خمسة منهم على الأقل، خصوصاً المسؤولين عن الصحة العامة، الآثار العمارة، البناء والمياه من الألمان. إن إرسال عدد من الضباط المثقفين جيداً احتل العديد منهم مراكز رفيعة في الحلقات الأكاديمية الألمانية بعد الحرب الى سورية يستحق المزيد من البحث لجهة ارتباط العلاقات العثمانية - الألمانية مع سياسة ألمانيا زمن الحرب. يقترح بعض الروايات أن هؤلاء الضباط أرسلوا للعمل في مجالات لا ترتبط مباشرة بمجال اختصاصاتهم، إلا أن الحظ والظروف قذفت بهم للعمل المباشر بإمرة جمال.
مذكرات أحد هؤلاء المستشارين، تيودور فيغند، تقدم أيضاً روايات شاهد عيان لزمن جمال في سورية. قدم فيغند الى سورية في كانون الأول ديسمبر عام 1914 قبل دخول السلطنة العثمانية الحرب، وأعطي مهمة رئيس الأركان في ظل المرسنلي جمال باشا جمال الأصغر، الذي كان قائداً للجيش الثامن في سيناء. ويصف فيغند مهماته في هذه المرحلة على أنها كانت تقوم على التأكد من جهوزية حملات الجيوش العثمانية من ناحية التدريب، والمعدات، والفعالية. وبالنسبة الى فيغند، عين رئيساً لاركان جمال باشا بعد حملة القناة الأولى في عام 1915للإشراف على التحضيرات للحملة الثانية. ويمكن أن يكون أرسل الى سورية تحت ستار ضابط امدادات للقيام بتحريات سرية. ويمكن لهذه التحريات أن تكون، إن كانت حقيقية، محصورة بالتجسس العسكري أو أن خدماته كان ينظر اليها كجزء من مشروع استعماري، وتبقى الإجابة عن هذا السؤال مجرد تخمينات من المفترض أن فون كريس أوحى لجمال بمثال حملة نابليون الى مصر خدم فيغند ثلاث سنوات في سورية ناذراً نفسه لمهمة اعادة البناء، والتطوير، والقيام بالدعاية اللازمة للأبنية التاريخية.
كان موهلنز، مستشار جمال لموضوعات الصحة العامة، كتب تقريراً مفصلاً حول الأمراض المعدية وتأثيراتها على الصحة العامة، ونفّذ جمال تعليمات موهلنز التي تضمنت تجفيف المستنقعات ومدّ أنابيب فولاذية لنقل الماء في بعض الأماكن. وكان زورخر الأكثر تقديراً من الضباط الآخرين في مجموعة جمال على أنه ربما كان أقل فاعلية في عمله من فيغند.
وزورخر الذي كان من أصل سويسري، كان مهندساً معمارياً بارعاً ودرس في زوريخ، وبرلين، وباريس وفلورنسا. وكان له تأثير أكبر على جمال من البقية، وتحققت طلباته التي تضمنت استيراد طاولات رسم خاصة ومعدات أخرى للهندسة المعمارية من ألمانيا سريعاً. وكاختصاصي في التخطيط المديني وإعادة تجديد الأبنية، أعطى مسؤولية التطوير المديني في المدن السورية. وبناء على اقتراح زورخر دخل شولز، الذي أصبح لاحقاً استاذاً للعلوم السياسية في جامعة هايدلبرغ، في خدمة جمال باشا في كانون الأول 1917. وكان ذلك قبل وقت قليل من مغادرة جمال لسورية. وأوكل الى شولز مهمة وضع مخطط إصلاحي للأناضول بعد عودة جمال الى اسطنبول، إلا أنه لم تتح له الفرصة للاطلاع على هذا المشروع، لأنه كان على جمال مغادرة البلاد في نهاية عام 1918.
تضمن برنامج جمال في سورية ثلاثة مشاريع. الأول كان عسكرياً وارتبط بالحملتين على قناة السويس في 1915و1916 وكان استجابةً لاعتبارات عسكرية تتعلق بالإمدادات. أما المشروع الثاني فكان برنامجاً للأشغال العامة ولم يكن مرتبطاً مباشرة بالمساعي العسكرية إلا أنه سار بشكل متوازٍ مع المجازفات المرتبطة بالعمل العسكري. أماالثالث فكان برنامجاً لحماية الآثار التاريخية والذي هدف أيضاً الى نشر المعرفة حول المنعطفات التاريخية المهمة في سورية. ومن المهم فحص محتوى المشروعين الثاني والثالث اللذين سعى جمال الى استغلالهما في إظهار توجهاته الايديولوجية. كذلك خدمت الإجراءات العسكرية العمل التوحيدي لتركيزها على حركات الجنود والإمدادات الفعالة للوحدات العسكرية في سورية. وكانت هذه المشاريع الثلاثة في بعض الأحيان متداخلة وفي بعضها الآخر متكاملة.
خطوط الإمدادات
إن الصعوبات التي واجهها جمال باشا في انتقاله من اسطنبول الى دمشق، وخصوصاً من جنوب الأناضول الى حلب، أقنعته بإقامة خطوط مواصلات يمكن الاعتماد عليها بين سورية والأناضول. لم يكن هناك خطوط حديد أو طرق معبدة تصل بين المنطقتين. كما لم تكن الجزء من الطريق بين العثمانية والقطمة صالحاً كطريق مواصلات للسيارات. أراد جمال باشا المباشرة ببناء طريق من بوزانتي بالقرب من أضنة باتجاه الجنوب، ويبدو أن هذا المشروع لم يحظ باهتمام الهيئات المركزية في اسطنبول ولذلك تحول جمال للاهتمام بتطوير الطرق التي تمر في المقاطعات الخاضعة لسلطته، وفوّض والي حلب جلال بك، بإصلاح الطرق المعبدة الممتدة من الإصلاحية الى قطمة وبين الاسكندرون وحلب. و قدم للوالي ومهندسيه قوة بشرية من المجندين مع ضباطهم وجعل معاشاتهم من موازنة الجيش الرابع.
وخلال ثمانية أشهر من وصوله الى سورية أمن جمال طرق مواصلات الإمدادات والذخائر الى الجيوش الثاني، والرابع، والسادس في الجنوب.
ثم انتقل جمال باشا الى اقامة طريقين حجريين يمتدان الى فلسطين: الأول منهما يمتد من دمشق من خلال طبرية الى نابلس ويرتبط بالخط القائم الذي يربط بين نابلس والقدس وطوله 70 كلم. أما الطريق الثاني فيصل بين عمان وجرش ويرتبط بالطريق القائم بين جرش والقدس. وهكذا أقيمت في نهاية عام 1915 طرق مواصلات للسيارات تمتد من القدس شمالاً الى دمشق وشرقاً الى خط حديد الحجاز. وأطلق جمال على عام 1915 عام "البناء والتحصين". وقدم الجيش الرابع المعدات وقوة العمل اللازمة للبناء.
وخلال زيارة القائد العام للقوات العثمانية، أنور باشا لسورية والحجاز في شباط فبراير عام 1916 كان من الممكن أن ينتقل الى عمان بواسطة السيارات.
ونحو الجنوب كان الخط الذي يمتد بطول 35 كلم من القدس الى حيفا بحال مرضية، لذلك ركز جمال على تعزيز الطريق الذي يصل بين حيفا وبين بير سبع، الذي انتهى العمل به خلال شهرين، على رغم أن المزيد من التأهيل استغرق ستة أشهر اضافية. ولاحقاً، تم توسيع الشبكة من ناحية عسلوج وحافر فالعوجة شرقاً، ومن ناحية بير حسنة على مسافة 100 كلم من قناة السويس، بالإضافة الى تأهيل الطرق التي تربط بين القدس- يافا والقدس- بيروت.
وأدى فشل الحملتين على قناة السويس وتقدم القوات البريطانية نحو سورية الى دفع الجبهة الى خط غزة - بير سبع ودفع ذلك بجمال باشا الى زيادة طرق المواصلات بين سورية وفلسطين لتعزيز ما تصور بأنه سيكون الجبهة العسكرية الجديدة. وأقام لذلك طريقين جديدتين: الأولى تبدأ من رياق، وتقطع البقاع، وتتجه جنوباً بموازاة نهر الأردن، وتبدأ الثانية في درعا وتمتد باتجاه جنوب شرقي نحو عجلون قاطعةً نحو الشارية. وكان العمل في هذه الطرق لا يزال مستمراً عندما ترك جمال سورية.
بناء سكك الحديد
استمر جمال باشا في تعزيز خطوط المواصلات بين سورية وفلسطين وسيناء بإقامة خط حديد موازٍ للطرق التي انتهى العمل بها. وبقي الخط الحديد القائم بين القدس وحيفا من ناحية درعا على حاله ولم يتم توسيعه ليشمل القدس وما بعدها نحو سيناء. وفي عام 1915 -1916، أقيم خط حديد جديد ينطلق من السعودية عن طريق الرملة ويتجه الى أسفل نحو بير السبع بإشراف مايسنر باشا، الذي شغل منصب المهندس الرئيسي لخطي حديد الحجاز وبغداد، وصار أيام ولاية جمال مسؤولاً عن ربط خط حديد الحجاز مع مصر وأدى توسيع السكة الحديد في المنطقة الممتدة بين الرملة والقدس الى ربط مباشر بين القدس ودمشق.
وبين أيلول سبتمبر 1915 وربيع عام 1916 كانت الخطوط الحديد تمتد من بير سبع باتجاه عسلوج وحافر العوجة الى القسيمة داخل الحدود المصرية واستمرت هذه الطريق نحو سيناء الى منطقة بير حسنة بخط ضيق عام 1916.
وأقيمت خطوط فرعية من الخط الأساسي نحو مناطق الغابات لتأمين الموارد من الأخشاب. وأقيم خط فرعي أطول 40 كلم ينطلق من التينة ويلتقي مع خط غزة - بير سبع القائم وذلك لتسهيل وصول الإمدادات الى الجبهة. وبين عامي 1915و1916، قام الجيش الرابع ببناء حوالى 500 كلم من الخطوط الحديد.
واقتضت إقامة الطرق والخطوط الحديد في الصحراء قوة عمل تتراوح بين 4000 و5000 عامل، ولتفعيل هذه العمليات وحماية مراكز الإمدادات في بير سبع، أنشأ جمال باشا قيادة الصحراء بإمرة فون كريس. وبالتزامن مع الطرق، تم توسيع خطوط التلغراف، والتمديدات المائية، وانتشرت المخازن، والمستشفيات الميدانية على طول طرق المواصلات.
وبينما ساهمت الطرق والخطوط الحديد التي أنشئت من قبل جمال باشا في تسهيل الاتصالات في سورية وفلسطين، إلا أن أولوية الاعتبارات العسكرية كانت لها آثار تراجعية على مستوى البنى التحية. ودمر بعض الخطوط الحديد القائمة ذات القيمة الاستراتيجية المحدودة واستخدمت موادها في الخطوط الجديدة. ودمرت كذلك العديد من الأراضي المشجرة لاستخدام أخشابها في بناء الطرق الحديد وكوقود للقطارات.
سمح جمال باشا بقطع 40 في المئة من أشجار المشمش، والزيتون، والتوت، لاستخدامها كوقود للقطارات. وعلى رغم استثناء أشجار التوت لاحقاً، فإن خطوطاً من الأغصان التي تملأ البساتين امتدت من قرى مثل حيفا، الى عمان، ومعان للهدف المذكور وهو الحصول على الخشب، ونفّذ هذه العملية حوالى 000.20 جندي.
وفي بير سبع، والقسيمة والحافر، وبشكل يتناقض مع صورة القضاء على الأشجار، أقام جمال باشا مزارع تجريبية لتربية الأشجار والأزهار وحدائق الخضار. وكتب جمال في مذكراته أنه قدم في هذه المشاريع خدمات قيمة مفيدة طبقت في المشاريع الزراعية اليهودية لاحقاً. وفي الشمال، تم تغيير حوض نهر الليطاني لمنع الأضرار الناتجة عن فيضانه في البقاع. وبإشراف سوتنر، مستشار جمال في القضايا المتعلقة بالمياه، ابتدأت مشاريع تجفيف المياه وزراعة الأراضي.
تحسين المدن
استخدم جمال باشا المساعدات التقنية والمعرفة المتخصصة التي قدمها له الضباط الألمان والاختصاصيون الآخرون في أماكن تخطت حدود الجبهات، وخصوصاً داخل المراكز السكنية وحولها. قدمت بعض المشاريع خدمات ضرورية لتعزيز مستوى الحياة المدنية. وفي هذا المجال كان مشروع الحصول على مياه عذبة لحلب بعد انتشار وباء التيفوئيد فيها عام 1915، من منطقة تبعد ثلاثة أميال خارج المدينة. هذا المشروع نفّذه مهندس من الجالية الألمانية في حيفا شوماخر. المشاريع الأخرى كانت ذات طبيعة تدعم الأهداف العسكرية، مثل إقامة مطحنة ميكانيكية للدقيق في بير سبع وإقامة مواصلات بحرية عبر البحر الميت لنقل المواد الغذائية.
وكان هناك العديد من المشاريع الأخرى، بعضها أنجز خلال فترة حكم جمال باشا في سورية، ولم تكن لها دواع عسكرية ولذلك فإنها لم تكن محصورة في مجال مهنة الباشا كقائد، وهكذا فإن التطويرات المدنية كانت لها المرتبة الثالثة في أولوياته في سورية بعد المساعي الحربية والمحافظة على الأمن الداخلي. وبالفعل، فإن كمية كبيرة من الموارد صرفت على هندسة الأراضي وبعض المشاريع التجميلية الأخرى، مثل إنشاء الحدائق العامة في بير سبع. وعلى رغم أن النساء والأطفال كانوا يموتون جوعاً في المدن والقرى، والجنود أيضاً في خطوط المواجهة، استمرت هذه المشاريع. وكان سبب المجاعة الأساسي انعدام المؤن، إلا أن تحويل الأموال، والعمال، والمعدات والمواد للبناء جاء استهزاءً بالفقر المدقع والموت في سورية. وشرح جمال الغاية من وراء إقامة مجمع للنوادي والمقاهي في بيروت، وهو التنازل الذي قدمه لألفرد سرسق، لتأمين مورد رزق للفنانين والحرفيين في المدينة.
كان للباشا اهتمام خاص في بناء شرايين مدينية، لأنها تخدم في إبراز سلطة الحكومة في المدينة. في عام 1915 بنى جمال باشا في يافا جادة بطول كيلومتر. وكان يفتخر بشكل خاص بالجادة التي أقامها في دمشق بعرض 45 متراً وبطول 650 متراً. ويصفها بأنها "لا مثيل لها في جمالها في أي مدينة شرقية". ومن الواضح أن هذه المشاريع لاقت استحسان اسطنبول الى درجة أن أنور باشا رتب عملية دخول زورخر في خدمة جمال.
التحق زورخر بالقيادة العسكرية عام 1916. وجعله جمال مدير الإنشاءات وتجول معه على مباني القدس. بقيت معظم المشاريع التي وضعها زورخر على الورق لأن الرجلين تركا سورية في نهاية العام التالي. إلا أن هذه المشاريع تظهر محاولات جمال باشا لإقامة مبانٍ في أماكن مرتفعة يراها الجميع كتذكير بالسلطة الحكومية. ولذلك كانت هناك مخططات لإقامة مركز حكومي وقصر قريب من جدران القدس ومخطط لتوسيع الشارع الرئيسي في مدينة دمشق وإقامة مراكز حكومية على طوله. وفي بيروت ستقام سلالم عريضة من الشاطئ الى السراي الحكومي. كما تم تخطيط إقامة مبنى حكومي لحلب.
كان جمال مهتماً بهذه المشاريع. فمثلاً، عام 1917 أوكل الى ك. وولزنجر أن يضع تصميماً لبركة ماء في مواجهة محطة سكة حديد الحجاز في دمشق وقدم له تفاصيل المشروع: البركة يجب أن تكون شرقية في شكلها ولكن لا ينبغي أن يكون لها سقف مثل البرك العامة: ينبغي أن يكون لها شلالات صغيرة لا تغطي منظر المحطة" ينبغي أن يكون فيها أسود، وأحدهم يحمل العلم العثماني في كفه.
وفي عام 1917، نشرت صحفة "جنيف" مقالة تنتقد فيها جمال باشا لتركه المعالم العربية ومن بينها قبر صلاح الدين تتهدم. كارل وولزنجر، مساعد فيغند، كتب رداً أوضح فيه برنامج جمال للتجميل المديني. ومن المفيد الاطلاع على هذا المقال، والدوافع من ورائه وأهدافه. تبقى الحقيقة أن جمال باشا بذل مسعى خاصاً لحماية معالم سورية، وهي مساعٍ ربما كانت أكثر غرابة من برنامجه للتطوير المديني مقارنة مع خلفية جمال العسكرية. وقبل تفصيل مساعيه للحماية، لا بد من ذكر المؤسسات التربوية التي أقيمت برعايته.
كان جمال باشا رائداً في اقامة العديد من المؤسسات التربوية بما فيها مدرسة زراعية في البقاع، ودار للمعلمين في حلب، ومدرسة صلاح الدين الأيوبي في القدس. وأظهر اهتماماً خاصاً بتعليم البنات. وتأثر بشخصية خالدة أديب، المفكرة النسائية والروائية التي قادت حركة تعليم النساء وزارت جمال باشا في سورية، ولذلك أنشأ عدداً من المدارس للبنات، وليسيه داخلية في بيروت" ومدارس ابتدائية في بيروت ودمشق مع تأمين تسهيلات للسكان" وكذلك مدرسة صناعية في بيروت مع التخطيط لها لاستيعاب ما بين ثلاثة وأربعة آلاف طالب.
الحفاظ على الآثار التاريخية
في تشرين الثاني نوفمبر 1916 دخل تيودور فيغند في خدمة جمال باشا كمفتش عام للآثار في سورية وفلسطين وبمهمة بحثية لا تشمل المباني التركية والإسلامية في دمشق وحلب وحسب، وانما أيضاً كل المباني الأخرى المهمة، والإعلان الدعائي عنها. وكان جمال بدأ تجديد الآثار التاريخية. وتحت الإشراف الرسمي لفيغند، ازدادت سرعة عمليات التجديد، والمحافظة، والدعاية. وفي وقت وقعت فيه القدس تحت الاحتلال البريطاني في نهاية عام 1916، كانت عمليات التجديد ما تزال مستمرة في حلب، دفع أحد الضباط الأتراك الى التذمر قائلاً: من الجيد أن يدافع الباشا عن الماضي، لأن الجيش... بعد خسارته القوية أمام القوات البريطانية... كان مشغولاً بتحدي الحداثة. وتساءل فيغند نفسه عن جدوى المساعي في المجال الثقافي. وفي ربيع عام 1917، أحضر جمال باشا دكتور غيلن، وهو مربي صهيوني وباحث، الى دمشق وأوكل اليه مهمة فهرسة المكتبة الإسلامية الظاهرية؟ وكتب فيغند يقول: "المساعي الثقافية تتقدم أكثر فأكثر هنا يعني في دمشق مع أن الأعداء يطرقون أبواب سورية".
وقبل مهمة فيغند، حصل جمال باشا على ما يعادل 000.150 مارك الماني من وزارة الأوقاف لإعادة ترميم وتجديد جامع السليمية في دمشق الذي يعود الى عام 1518. كان اختيار هذا المعلم واضحاً، لقد بناه فاتح سورية عام 1516، وكان الجامع رمزاً قوياً للحكم العثماني، رأى فيغند أن السلطان سليم كان "مثال" جمال باشا وكان يشبّه نفسه به.
وأراد فيغند أن يبدأ عمله في الترميم والتجديد والمحافظة على جامع سليم وبرعاية المؤسسة الألمانية - التركية لحماية الآثار المنشأة حديثاً. إلا أنه وكما يبدو صرف معظم جهوده في الفهرسة والدعاية للمعالم بشكل واسع. بينما ركز زورخر على مشاريع التجديد والمحافظة. ولكن معظم مخططات زورخر التجديدية، مثل مشاريع البناء المديني، لم تصل الى حد الانتهاء. وتضمنت هذه المشاريع ترميم الجامع الأقصى بإلغاء الإضافات الحديثة للبناء وإزالة الدهان عن جدرانه. كذلك وضعت مخططات لتأهيل الكنائس في القدس وحلب.
حضّر تيودور فيغند ملفاً لمئة مركز في سورية الكبرى، نشر باسم جمال باشا بعنوان: "آثار قديمة من سورية وفلسطين وغربي الجزيرة العربية". وتألف الكتاب من صور كبيرة لمراكز متنوعة. من ضمنها جوامع دمشق، وحلب، والقدس، ومعابد البتراء وتدمر، أسوار المدن، الحصون، كنيسة القيامة، وحائط المبكى إلخ. وعند نشره كان جمال ترك مركزه. وكتب جمال في مقدمة الكتاب في تشرين الأول أكتوبر عام 1917، أنه تهيأت له الفرصة كقائد للجيش الرابع "لدراسة حاجات هذا الجزء القيم من وطني، كما واعتزمت المحافظة على معالمه القديمة وإدراتها في شكل جيد". ووصف إجراءاته، بناءً على تقارير مطولة من فيغند بالآتي: خلق سلطة لحماية المعالم" منع اقامة مبانٍ جديدة بالقرب من الآثار ومنع استخدام أحجار الخرائب في البناء، تحسين الطرقات التي تؤدي الى المعالم وتسهيل عمليات الزيارة من قبل الزوار المحليين والأجانب، وفهرسة كل المعالم في المنطقة العسكرية. ويقدم الكتاب، بالنسبة الى جمال، للمواطنين العثمانيين الذي أصبحوا "وطنيين" بالمعنى الألماني للكلمة عدداً من أهم الكنوز العظيمة لوطنهم. أما هدف الكتاب، عندها، فكان يختلف عن أهداف منشورات فيغند الأخرى، كما يشرح هو في مقدمة كتابه عن المنشورات العلمية للجمعية التركية - الألمانية لرعاية الآثار التاريخية: الجزء الأول، سيناء. التفاصيل الأكاديمية التي تركت في الكتاب الأول، عرضت في هذا الكتاب الأخير الذي تضمن صوراً جوية لمراكز أثرية قديمة.
في اضافته عام 1991 لكتابه "المجموعات المتصورة" يناقش بنديكت أندرسون ما يسميه "الخيال المتحفي" فاهتمام أندرسون الخاص كان بتصور الدول الاستعمارية في خلق "شرعية بديلة". وفي هذه المحاولة تقوم الدولة برعاية: 1 تقارير أركيولوجية تقنية معقدة وواسعة، مترافقة مع عشرات الصور التي تسجل عملية اعادة بناء بعض الخرائب المحددة الخاصة. 2 نشر كتب توضيحية للاستهلاك الجماهيري، تتضمن صوراً عن نماذج لمعظم المراكز الأساسية التي تمت اعادة بنائها. ويبدو أن الخيال المتحفي لجمال عبّر عن نفسه بطرق تتشابه بشكل مثير بما يصفه أندرسون.
ويناقش أندرسون، بأن الخيال المتحفي لا يمكن إلا أن يكون "سياسياً في العمق". إلا أنه، وبعيداً من مسألة الى أي حد يمكن لشعار طبق في الدول الاستعمارية أن ينطبق على الدولة العثمانية، فإن الأهداف الموضوعة "للخيال المتحفي" التي يحللها أندرسون لا تتوافق مع رؤيتي بأن جمالاً كان ينشر "ايديولوجية إمبريالية" قائمة على الدين. وكما يرى أندرسون، فإن الاهتمام بالمعالم الأثرية يشكل "إعطاءً لحقوق الملكية للدولة الاستعمارية المهيمنة".
وفي زمن الانحلال بسبب الخسارة في الحرب، والحروب الداخلية، والقومية الناشئة، فإن "الشرعية البديلة" التي دعا اليها جمال كانت شرعية توحيدية دعت الى الاسلام. ويقول بالمر إنه في عام 1917، السنة التي كانت فيها مخيلة جمال الأثرية ناضجة، كان "العضو الوحيد في حكومة طلعت العلمانية بشكل أساسي، الذي تأثر بما يمكن اعتباره اليوم الحماسة الإسلامية المولودة، من جديد". إن جمال وزملاءه في اسطنبول تحولوا الى العثمانية الإسلامية، ليس بسبب كونهم ولدوا مجدداً في محن الحرب، وإنما بسبب ظهور الإسلام كأداة فعالة سياسياً في محاربة التدخلات الأجنبية والثورات المحلية وفي دعم سلطة الدولة الدينية الشرعية.
إن اهتمام جمال الخاص بإبراز التراث التاريخي للفن السوري بهذه الطريقة التي تؤدي الى سمو التقاليد الاسلامية يمكن في الحقيقة أن يعكس التوجه الايديولوجي لمستشاري جمال الألمان وحلفائه. إلا أن هذا لا يمنع القول بإن هذا الاهتمام الخاص كان خالياً من أي استيراد سياسي. فكما كتب أندرسون، "إن اعادة بناء المعالم، في وسط الريف الفقير المحيط بها، يجعلها تظهر وكأنها تقول للسكان المحليين: إن وجودنا يُظهر أنكم كنتم دائماً، أو أصبحتم ومنذ وقت طويل، غير قادرين على بلوغ العظمة أو مرحلة الحكم الذاتي.
إن حكم جمال باشا في سورية خلال الحرب العالمية الأولى كان منسجماً مع التزام جمال الطويل بالعثمانية، ووسائله الخاصة لفرض شرعية الدولة. إن ثقل تمسكه بالسلطة ونظرته الشخصية لذاته كإثني تركي ينبغي أن تدرس بشكل أعمق لتبيان أثر طموحه السلالي - الانفصالي، أو شعوره القومي - التركي على سياساته في سورية وفي الأمكنة الأخرى التي حكمها. إلا أن جمال في النهاية كن يمثل القيادة العثمانية التي كانت ملتزمة بإيديولوجية "امبراطورية" للحفاظ على وحدة أراضي الدولة العثمانية، ونفذت السياسة التي تتناسب مع هذا التوجه. مشاريع جمال للأشغال العامة في سورية، ومساعيه لتحصين الدفاعات العسكرية ولتحسين البنى التحتية، كما حملته لإعادة بناء المعالم التاريخية، هدفت الى تعزيز سلطة الدولة في المقاطعات العربية البعيدة، ولتوحيد هذه المقاطعات مع المركز العثماني بشكل أفضل مادياً وإيديولوجياً.
* استاذ مشارك للدراسات العثمانية في جامعة كاليفورنيا.
** ينشر المقال في وقت واحد مع مجلة "الاجتهاد" الفصلية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.