كان الموت "غياباً ونهاية لكل شيء" ولم يكن يخافه. عرف لحظات من الكآبة الكبيرة عندما كان يستفيق ليلاً ليجد أنه لا يزال حياً، وكان يتساءل: "الى متى؟" ترك وصية بألا يقام له قداس تذكاري لأنه وجد الاحتفالات محرجة ولم يحب أن ينشغل الناس به، لكن هؤلاء فعلوا في أي حال. عندما توفي جون غيلغود قبل أيام حاول الذين عرفوه أن يجدوا في الكلام تعبيراً يوازي تعبيره على المسرح. كان "أكبر ممثل في انكلترا وأفضل من ألقى شعر شكسبير وأفضل هاملت رأيته" قال المخرج جون مورتيمر. المخرج اللورد بوتنام قال انه كان أحد أعظم الممثلين في الزمن الحديث. والمخرج السر بيتر هول تحدث عن زئبقيته التي جعلته يسبق الجمهور دائماً ويعيد تقويم تمثيله. ربما ما كان جون غيلغود وجد ميتة ملائمة اكثر من تلك التي لقيها. توفّي عن ستة وتسعين عاماً في حديقة منزله وبدا كأنه كان ينتظر النهاية بعد وفاة رفيقه مارتن هنسلر الذي لازمه أكثر من خمسة وثلاثين عاماً. عندما بلغ التسعين تذكر شبابه: "كنت مغروراً واهتممت كثيراً بمظهري لذا ازعجتني خسارة شعري باكراً. حسدت ممثلي السينما الوسيمين كفالنتينو ونافارو ولزلي هاورد. اليوم لم أعد مغروراً بالقدر نفسه وإن كنت لا أزال أهتم بمظهري". أزعجه تعامل الناس معه كأنه قطعة أثرية رقيقة ولا تقدّر بثمن وقال أن أصدقاءه اعتبروه أحمق كأنه يؤكد انسانيته. اراد دائماً ان يكون أروع مما هو وكان التمثيل هروبه الكبير من خجله. "أنا عابث قليل الصبر، أحب الثرثرة وأتصرف أحياناً من دون روية. ليست مثقفاً ويخجلني انني مثلت في مسرحيات والقيت قصائد لم أفهمها جيداً. أمثل الآن باسترخاء وعمري ما فعلت ذلك. كنت دائماً متوتراً وهستيرياً وربما كان لذلك تأثير لكنه كان منهكاً ولم يجد دائماً أثراً طيباً لدى الجمهور". بيتر بروك، أحد المخرجين المهمّين في حياة غيلغود، قال انه كان "كمية كبيرة من التناقضات التي لم تحل لحسن الحظ". ولد من أم انكليزية انتمت الى أسرة تيري التي عرفت عاملين في المسرح بينهم الممثلة الشهيرة ألن تيري، وورث منهم السهولة العاطفية التي جعلته يبكي بسرعة على المسرح. ومن عائلة والده، المهاجر البولندي، استمد حبه للموسيقى والباليه الروسيتين ولأدب تشيكوف. انتمت اسرته الى الطبقة الوسطى العليا وكان يترك مدرسته وهو فتى ليشاهد باليه دياغيليف. ولئن ساعدته عائلة والدته في بداية حياته إلا أنه سرعان ما اثبت نفسه وأدى الأدوار الشكسبيرية الرئيسية. على انه لم يلقَ المديح دائماً وجلب جموده النقد منذ مثل دور روميو وهو في العشرين. "لا يعني السيد غيلغود اي شيء من خصره وما دون، ولا معنى لساقيه بتاتاً" قال ناقد. قورن دائماً باللورد لورنس اوليفييه وقال الناقد الشهير كينيث تيفان ان اسلوب هذا دنيوي شهواني في حين أن غيلغود رومنطيقي ومتجاوز للأرضي. "ربما كان غيلغود أفضل ممثل في العالم اليوم من الرقبة وما فوق" قال، وأضاف انه يقوم بحركتين فقط: يرفع يده اليسرى وينزل يده اليمنى. جورج برنارد شو رأى انه كان يخرب مسرحية "النورس" لتشيكوف كلما ظهر فيها، وأثار ذلك شعوراً بالتسلية لدى غيلغود: "لم تكن لديه أية فكرة عن خلفيتي الليثوانية لجهة والدي التي منحتني، ربما، فهماً للأدب والمسرح في روسيا". سيختلف مؤرخو المسرح حول من الأعظم بين لورنس اوليفييه وجون غيلغود، وتينان الذي شاهد الاثنين في أوجهما تخيل هوة واسعة ليقارن بين اسلوبهما. أوليفييه يقفز قفزة واحدة حيوانية في حين يمشي غيلغود على الحبل ويحفظ توازنه من دون أن يخطو خطوة خاطئة واحدة. قيل الكثير عن صوته الذي كان في آخر حياته صوتاً عجوزاً ولكن قوياً لا يعرف الاهتزاز او البشاعة المثيرة للشفقة. اوليفييه وصفه ب"الصوت الذي سحر العالم" وقال نقاد انه كان "صوت القرن" وإن "الانكليزية لم تخرج بهذا الجمال من صوت بشري قبله". الممثل السر أليك غينيس أتى بالوصف الأبرع والأكثر دقة: "صوت صادح فخم مثل بوق فضي كُتِم بالحرير". وهو قال ببساطة انه اعتمد كثيراً على صوته في شبابه لأنه لم يتحرك جيداً على المسرح لكن عقدة الجمود فارقته عندما تقدم في السن: "الشيء الوحيد الذي تمنحنا اياه الشيخوخة هو التحرر". كان في الثالثة والثمانين عندما ظهر للمرة الأخيرة على المسرح، وكان يصور فيلماً عند وفاته. برز كممثل شكسبيري خصوصاً في "ريتشارد الثاني" و"هاملت". كان في الأولى الملك الرهيب الذي يشبه سقوطه الكسوف، وفي الثانية لم يمثل. "كان ماكبث وروميو مجرد شخصيتين، لكن هاملت كان أنا". فشل، قال، في شخصية شايلوك في "تاجر من البندقية" واعتبر تمثيله دور "عطيل" في الستينات كارثة. رآه كثيرون تمثال التراجيديا المتحرك ذا الصوت الجميل لكنه أثبت قدرة في الأدوار الهزلية ونال جائزة اوسكار في 1981 عن دور الخادم في فيلم "آرثر". لم يتكيف بسرعة مع التغير الفني الذي بدأ في الستينات وعمل قليلاً في أميركا مع الكاتب ادوارد آلبي لكنه ما لبث أن عاد الى وطنه وتعاون مع المخرجين الجدد. المخرج بيتر بروك كان في الخامسة والعشرين عندما وجهه نحو البساطة اللفظية والجسدية فحقق اختراقاً في أدائه وفي فهم الشخصية التي يؤديها كما لو كان يكتشف نفسه فجأة ويتحرر من الكبت الذي غفل عنه لتجذره. كان كثيرون رأوه رمز العالم القديم وبدا هو ضائعاً في حين تابع اوليفييه مساره من دون أن يتأثر. مع "أوديب" لبروك أعاد غيلغود اكتشاف نفسه وأقام جسراً مع الممثلين الشبان وحرر طاقات جديدة ما لبثت ان ظهرت في أعمال الكتاب الجدد منهم هارولد بنتر منطقة مشاع وآلان بينيت بعد اربعين عاماً. لكن التغير لم يكن سهلاً أو سريعاً وقال انه كان أشبه بالانخراط في الجيش و"تهيّبته لكنني أدركت انني اردت أن أكون جزءاً من التجربة في الوقت نفسه". في 1991 ظهر عارياً بجسده العجوز في فيلم "كتاب بروسبيرو" للمخرج البريطاني بيتر غرينواي ووصفه ناقد ب"التقليدي المتطرف" وهو وصف ربما كان يغطي معظم مسيرته. عمل في المسرح والاذاعة والسينما وأخرج للمسرح فمهد لظهور "المسرح الوطني" و"فرقة شكسبير الملكية". عرف بمثليته لكنه تحاشى الحديث عن الموضوع ولأمر ما فكر بالزواج من الممثلة ليليان غيش. ميوله أخّرت تكريمه رسمياً في بريطانيا المحافظة في النصف الأول من القرن العشرين، لكن الممثلين رالف ريتشاردسون وريتشارد برتون قاما بحملة فمنح لقب "سر" في 1953. لكن غيلغود اعتقل بعد أشهر بتهمة ازعاج شخص لأسباب لا أخلاقية وكان يمكن أن يمر الأمر بسلام لو لم يفضحه صوته. كان صحافي من "الايفننيغ ستاندرد" في المحكمة عندما سمع الصوت الشهير ففضح الممثل. خشي غيلغود ان تؤثر الضجة على والدته و"تقتلها" لكنها ساندته مع زملاء كثر على رغم دعوة البعض الى مقاطعته وتجريده من اللقب. عرف بلسانه اللاذع الذي لم يوفر أحداً بمن فيهم هو نفسه. كان يخرج مسرحية "تمرين بخمسة أصابع" ولم يعجبه أداء الممثلين خلال التمارين. "هذا كابوس" قال فأجابه هؤلاء انهم يقومون بما طلبه منهم بالضبط. "ما كان يجب أن تصغوا اليّ. تعرفون جيداً انني لا أعرف الاخراج". ودعا يوماً ريتشارد برتون الى العشاء بعد انتهاء الأخير من اداء دور "هاملت". لكن تمثيل برتون لم يعجبه فقال له: "سأسبقك يا ريتشارد. اتبعني عندما تصبح أفضل... أعني جاهزاً". وقال لاليزابث تايلور عندما تزوجت برتون: "لا أعرف ماذا حدث له. أعتقد أنه تزوج نجمة سينمائية رهيبة وانتقل للعيش معها في الخارج". قال ان انغريد برغمان تتحدث أربع لغات لكنها لا تستطيع التمثيل بأي منها، وان والدته بكت باستمرار مثل "نيسان ماطر". استعار كثيرون عبارات شكسبيرية ليودعوه. "نم أيها الأمير العذب، ولتغنِّ لك اسراب الملائكة في طريقك الى مثواك". و: "الأفضل ذهب، ولم يعد هناك شيء مرموق تحت القمر الزائر". المخرج بيتر بروك رفض المقارنة الدائرة مع لورنس اوليفييه ورالف ريتشاردسون: "كان همه الوصول الى أعلى مستويات الجودة. كانت كلمته عميقة وفي دمه. هذا الرجل الحبيب مسّنا جميعاً بنقائه الذي انعكس في عمله".