تلح علينا دائماً المقارنة بين عربي يتحدث عن قضاياه العادلة واسرائيلي يبرر سياسة بلاده التوسعية، ونلاحظ التباين في الاسلوب والمسافة الواسعة التي تفصل بين رؤية كل منهما تجاه ما يحدث. فحديث العربي - مسؤولاً مرموقاً أو مثقفاً عادياً - يكون غالباً مشحوناً بالعاطفة، زاخراً بالعبارات الفضفاضة والآراء المكررة، فهو يضع نصب عينيه دائماً رأياً عاماً داخلياً يوليه كل الاهتمام ولا يعطي أولوية للبحث في اسلوب الخطاب المناسب للغير، ناهيك عن عثرات اللغة إن كان يتحدث بغير العربية، فضلاً عن أنه يفكر بها حين يتحدث بغيرها. أما الاسرائيلي - أو الغربي عموماً - فهو في معظم الاحيان يوظف أدوات عصرية يستطيع بها ان يتحدث على التردد نفسه لقنوات الاتصال المباشر بالآخرين، وهو قادر على الاقناع احياناً رغم انه قد لا يملك قضية عادلة ولا يعرب عن توجه متوازن، ولكنها صنعة الكلام وتقنية العصر التي تمكن البعض من توجيه الحوار وإدارة الحديث بصورة تتناسب مع ادوات الاستقبال البشري الاخرى، إذ تنجح بشكل غير مسبوق في عملية صنع الشخصية "IMAGE MAKING". وحان الوقت لكي نعيد نحن العرب النظر في خطابنا السياسي والثقافي حتى نستطيع ان نخاطب العالم بلغته. وأنا اقصد هنا باللغة لا مجرد المعنى المباشر للكلمة ولكني اتجاوز ذلك الى طبيعة العقلية ونوعية التفكير. ولعلي أزعم هنا أننا خسرنا - في مناسبات عدة - كثيراً من قطاعات الرأي العام العالمي نتيجة عجزنا عن تقديم وجهات نظرنا وفقاً لروح العصر وأساليبه وأدواته. فنحن لا نزال نتحدث بروح "المونولوغ" بينما أسلوب التفكير المشترك اصبح هو التعبير الجديد المقبول لدى كل الاطراف، ولم يعد ممكناً ان يقف صاحب القضية لكي يلفظ عبارات مكررة وأفكاراً مستهلكة، بل اصبحت ضرورة فهم الآخر وإدراك مشاعره وأفكاره وغاياته أموراً لازمة حتى يصل الحديث المناسب اليه وتبقي الفكرة الواضحة عنده. كما ان الخطاب النقدي للعرب تجاه القضايا المختلفة ينطلق في الغالب من مواريث تاريخية وقيم اجتماعية ليست مفهومة بالضرورة لدى الاطراف الاخرى. وهنا نجد ان مسافة كبيرة تفصل بين المرسل والمستقبل تضيع فيها الحيثيات الموضوعية والافكار المحددة. وقد يكون من المناسب هنا أن أطرح تصوري في هذا المقال لاسلوب جديد يجب ان نخاطب به الغير، وفهم مختلف يتعين علينا ان نسعى للتعبير عنه في وقت انحسرت فيه ادوات عصر مضى وظهرت فيه ادوات حديثة ترتبط بتكنولوجيا المعلومات بالدرجة الأولى، ويمكن ايجاز ما اريد ان اصل اليه في النقاط الآتية: أولاً: إن الاهتمام العربي باللغات الاجنبية تعرض لمحنة حقيقية ارتبطت بفترة التحرير الوطني ورفض الوجود الاجنبي إذ اختلطت عليه الامور حينذاك بين التمسك بالهوية القومية في جانب، والالمام بالثقافات الاجنبية في جانب آخر، وتصورنا وقتها أن هناك تناقضاً بينهما، بينما واقع الامر يؤدي الى غير ذلك، ليس فقط لأن رسول الاسلام يقول إن من تعلم لغة قوم أمن شرهم، ولكن ايضاً لأن من يعرف أكثر من لغة يملك أكثر من نافذة يطل منها على حقائق العالم حوله. ولا نظن ابداً ان الانغلاق الثقافي والانزواء الفكري يمكن ان يكونا تعبيراً حضارياً ينطلق من شخصية قومية أو هوية ذاتية، لذلك فانني ازعم أن انحسار الاهتمام باللغات الاجنبية في عدد من الاقطار العربية وفي مقدمها مصر خلال عقدي الخمسينات والستينات ترك اثراً واضحاً على الحماس الشعبي لدراسة تلك اللغات كما ان ازدواج النظام التعليمي في عدد من الدول العربية كان له ايضاً اثره في ضعف المستوى العام للحديث والكتابة باللغة الانكليزية على الاقل، فضلاً عن الفرنسية ايضاً، واصبح الإلمام بلغة اجنبية إلماماً سطحياً يبدو فيه العجز واللعثمة وضعف البناء اللغوي مظاهر لا تخفي على أحد. ثانياً: إن فهم طبيعة الطرف الآخر أي مدى ادراكنا للغير ونوعية عقليته واسلوب تفكيره هي أمور لازمة حتى يمكن ان يكون لدينا تصور لنوعية الرسالة التي نبعث بها اليه. فليس المهم ان يقول الانسان ما يريد، ولكن الاهم ان يكون مدركاً ان ما يقوله سوف يصل على النحو الذي يطلبه، الى الطرف الآخر. وفي ظني اننا نحن العرب مغرمون بالحديث النمطي الذي لا يدرس بعناية مفاهيم الغير وافكار الآخر ورؤى المجتمعات البشرية التي يتوجه الخطاب العربي اليها. ثالثاً: لعل روح العصر وطبيعة القرن الحادي والعشرين، هي التي تحدد حالياً مسار التخاطب بين الامم والشعوب وبين الثقافات والحضارات ويعتبر التركيز على القواسم المشتركة بينها مدخلاً موضوعياً لفتح شهية من يستقبلون الرسالة أو يستمعون الى المتحدث. فالتركيز على نقاط الانفاق هو مقدمة ضرورية للدخول منها الى عناصر الخلاف ولا يمكن أبداً ان يتحول الخطاب السياسي الى قنبلة موقوتة تنثر دائماً شظاياها من الاحباط والتوتر والتشاؤم. رابعاً: وضوح المطلوب وتحديد الهدف هما لازمتان ضروريتان حتى تصل أفكار العرب واحلامهم وآمالهم للغير، خصوصاً أن هذا الغير يقوم بعملية تقويم لعناصر الخطاب العربي في ضوء المقومات الحقيقية التي تقف وراءه، إذ يصعب قبول الحديث لدى المجتمعات الديموقراطية إذا جاء انطلاقاً من نزعة فردية أو جنوح سلطوي أو استعلاء قومي. خامساً: إن التربية السياسية تبدو ضرورة ملحة للأجيال الجديدة في عالمنا العربي وان لم يكن المطلوب هو ان يتحول الكل الى سياسيين، ولكن المطلوب هو أن يدرك الجميع ما يدور حولنا وان تكون لهم رؤى بعيدة المدى طويلة النظر، ولا يمكن أبداً ان نستند الى نظرة ضيقة أو رؤية محدودة فالوزير المسيّس أفضل بالقطع من ذلك الذي لا يعطى الحياة العامة اهتمامه ولا يعير الرأي العام التفاتاً. هذه عوامل نرى ان التركيز عليها يبدو لازماً ونحن نحدد مسار الخطاب العربي المعاصر، ولو عرض كل منا اسلوب الخطاب الوطني لعدد من المسؤولين العرب أو حتى المفكرين منهم، فسوف نكتشف ان غيبة الالمام ببعض هذه النقاط وافتقاد الوعي بمنهج عصري للحديث أدت كلها الى غياب الرؤية وسطحية الفكرة وازدواج النظرة. ولا بد ان اعترف هنا بأن الاجيال الجديدة تداركت الى حد كبير تلك الثغرات وأصبح المامها باللغات الاجنبية خصوصاً الانكليزية - بعدما حسم الكومبيوتر الصراع لمصلحتها في مواجهة اللغة الفرنسية - وهنا اضيف ان مثقفي المغرب العربي ومسؤوليه لا يعانون في الغالب مما أشرنا إليه على اعتبار ان الفرنسية لغة عالمية ايضاً، وإن كانت في درجة تالية للغة الانكليزية. وإذا كان هناك من يغفر للمسؤولين والمثقفين الصينيين - على سبيل المثال - استغراقهم في المحلية ونقص المامهم باللغات الاجنبية مع وجود لكنة خاصة لدى القليل الذي يتحدث بها، فإن الامر يختلف بالنسبة إلينا نحن العرب، إذ ان الجغرافيا وضعتنا عن قرب من أوروبا، كما ان الاحتكاك بيننا وبين الغرب تاريخي وطويل، لذلك فإن عاملي المكان والزمان يمارسان تأثيراً ايجابياً لمصلحة الاهتمام باللغات الاجنبية في بلادنا، فضلاً عن ان نشوء المدارس التي يجري التدريس فيها باللغات الأوروبية بدأ منذ سنوات طويلة في ارجاء مختلفة من وطننا العربي، لن نستطيع ابداً ان نكون جزءاً لا يتجزأ من حضارة العصر وعقله ما لم تكن لدينا حصيلة وافية من احدى اللغات الحية الى جانب لغتنا العربية خصوصاً أن الاخيرة تتميز بالحلاوة والطلاوة واتساع المعاني وضخامة المباني ووفرة المحسنات وامكان المبالغة اللفظية، وكلها خصائص تقود احياناً الى نقص الدقة في التعبير امام اغراء اللغة وجمال عباراتها وثراء تركيباتها، ونحن العرب نعتز كثيرا بتلك اللغة الغنية التي توصف بأنها واحدة من اعرق لغات الارض واكثرها غنى بالمرادفات واغزرها بالاساليب ولا غرو فهي لغة القرآن الكريم الذي حافظ عليها واصبح هو قاموسها الأول للمسلمين وغير المسلمين على حد سواء. وإذا كنا نتجه الى عالم مختلف له لوازم جديدة فإن العناية باسلوب الخطاب العصري ونمطه هي أمور ضرورية، لأنه من غير الطبيعي أن نكون اصحاب قضية ثم لا نحسن الدفاع عنها والمطالبة بحقوقنا فيها، بينما يملك المغتصب كل مقومات الخطاب العصري من لغة ونهج تفكير واسلوب تعبير، بل إنني اظن انه لا يعيب المضطر - بحكم موقعه - وهو لا يجيد لغة اجنبية ان يتحدث بالعربية ويطلب ترجمة واضحة لما يقول فذلك افضل في نتيجته وأوضح في رؤيته من ثرثرة غير منطقية بلغة لا يجيدها المتحدث بينما يتقنها المستمع الذي قد تكون هي لغته الأولى. * * * إن الحديث - الذي اصبح مملاً - عن العولمة وسقوط الحواجز واختفاء الحدود، لا بد وأن يقودنا الى نظرة جديدة لاساليب الخطاب العصري في المجالات كافة ومختلف الميادين، فالذي يربح الموقف ليس دائماً هو صاحب الحق ولكن احياناً يكون هو فقط صاحب العرض الجيد لما يريد ان يطرحه وما يرغب في وصوله الى اطراف اخرى. نعم... إن الحديث ليس هو كل شيء في عصرنا، ولكنه لا يزال بؤرة اهتمام الرأي العام ومركز استقطاب لغيرنا، ولن نصل الى ضمير العالم بغير خطاب واضح الافكار متسق العبارات سليم التركيب. ونحن لا نزعم هنا ان معظم احاديث العرب الى العالم تحتاج الى مراجعة، أو ان الخطاب السياسي لهم يفتقر في كثير من الاحوال الى ترشيد، ولكننا ندرك ان العالم الذي يتحول بسرعة والمنطقة التي تتجه نحو احتمالات جديدة تدعونا الى الاستخدام الأمثل لادوات العصر لأن الاجهزة المعاصرة لصنع الصورة تفوقت بشكل غير مسبوق ولم تعد عدالة القضية هي وحدها عنصر القبول ولكن احاطت بها بشكل متزايد عوامل تتصل بالتفوق الاعلامي وقدرة الوصول السريع الى اذهان الشعوب وذاكرة الامم. فالاميركيون استطاعوا بالتفوق الكاسح في تكنولوجيا المعلومات ان يصنعوا لهم تاريخاً من فترة لا تزيد على ثلاثمائة عام اصبح تأثيرها على اساليب الحياة واضحاً في كثير من مناطق العالم. ونحن العرب - ورثة حضارات عريقة وثقافات قديمة - ومع ذلك فإن خطابنا القومي لا يزال محلياً في اسلوبه، عاطفياً في طابعه، محدوداً في تأثيره، وهذه كلها مظاهر عجز لا بد من تداركه، واسباب قصور لا بد من تلافيها. دعونا نتطلع الى توظيف ذكي لقدراتنا الفكرية والثقافية في عالم اليوم على نحو يسمح لنا بأن نضع قضايانا العادلة في اطار فني صحيح، واستخدام تقني حديث، لأن لغة القرنين التاسع عشر والعشرين لم تعد هي التي تحقق الاهداف القومية والغايات السياسية في القرن الحادي والعشرين، فإن لكل عصر لغته ولكل شعب عقليته ولكل امة ميراثها القومي ورصيدها الثقافي. وهذه النقطة بالذات تحتاج منا الى عناية خاصة، لأن الاختلاف الثقافي بين الدول - برغم تيار العولمة الكاسح - لا تزال هي الفوارق التي يتعين الاهتمام بها عند اعداد الخطاب العربي المعاصر، كما ان تكنولوجيا المعلومات وتكنولوجيا الاتصال سمحتا لذلك الخطاب بأن يتجاوز في سرعة مذهلة حدود الزمان والمكان، ولكنه لا يستطيع ايضاً، مهما أوتي من قوة ورصانة، القفز على الفوارق الثقافية التي تحتاج الى معالجة خاصة ورؤية محددة وفكر واضح مع التركيز على القواسم المشتركة بين البشر والتي اصبحت من سمات عالم اليوم. إن خلاصة ما اريد ان اذهب اليه هو ان عدالة القضية وقوة الحجة لا تكفيان معاً من دون فهم لخصوصية من يتلقي الرسالة الاعلامية المعاصرة والتي يتضمنها الخطاب السياسي الحديث. * كاتب قومي وديبلوماسي مصري.