هل تخلى منصور الرحباني عن مقولة "الأخوين رحباني" التي طالما جمعت بينه وبين شقيقه الراحل عاصي ليتبنّى مقولة جديدة هي "منصور والرحبانيون الجدد"؟ هذا السؤال يطرحه بألحاح من يشاهد العرض الأخير "وقام في اليوم الثالث" * الذي شاء منصور ان يكون فيه كاتباً فقط وشاعراً بامتياز مفسحاً المجال واسعاً أمام ابنه أسامة كي يطل من خلاله لا إطلالة الملحن والمؤلف الموسيقي فقط وانما اطلالة الفنان الساعي الى نسج العرض نسجاً موسيقياً شاملاً. ومنصور الرحباني يحضر في هذا العرض مقدار ما يغيب عنه مكتفياً بدور المؤلف وربما الموجّه ولو من بعيد فيما انصرف اسامة الى وضع الموسيقى والألحان "متمرداً" على التراث الرحباني ولكن طبعاً تمرداً أبيض. ولعلّ الرحباني الجديد استطاع ان ينجح في رهانه على أن يُدخل والده الى عالمه عوض أن ينجرف هو في عالم والده كما جرت العادة. وبدا عالم اسامة مختلفاً عن عالم الفنان الكبير الذي ما برح يعتبر نفسه "النصف الآخر" من "الأخوين رحباني" بعدما غاب النصف الأول أي عاصي. بل إن الاختلاف بدا اشبه بالحجر الذي رسم الحدود بين عالمين منفصلين. وهي ربما المرة الأولى يتحرر احد الرحبانيين الجدد وأقصد أبناء منصور من سطوة الوالد ومن أثره. حتى مسرحية "الانقلاب" التي كانت غريبة بعض الغربة عن العالم الرحباني لم تستطع أن تتحاشى أثر المدرسة الرحبانية. أما العرض الجديد فهو يجسد فعلاً حال انقطاع عن التراث الرحباني ولو احتل فيه منصور موقع الكاتب والشاعر. فالموسيقى والأخراج اللذان وقعهما أسمامة ومروان الرحباني أوقعا نص منصور في ما يُسمى "التغريب"الجميل ليس في المعنى البرختي طبعاً فإذا يسوع الناصري هو يسوع الآخر، الحديث والمتحرر من ربقة الصورة التقليدية التي طالما نسجت له. على أن النص لم يكن دينياً مقدار ما كان شعرياً وثورياً. ومن خلاله انطلق منصور من الروايات الانجيلية وبعض المرويات والتفاصيل ليحوك نصاً شعرياً مغرقاً في غنائيته حيناً وفي واقعيته حيناً. فالناصري هو التأثر الميتافيزيقي والاجتماعي معاً، يصفي الى السماء ويرنو اليها لكنّ قدميه ملتصقتان في الأرض وأذنيه شمعان أصوات الاستغاثة والأنين... وسعى منصور الى أن يصوغ نصه صوغاً درامياً ولكن من غير أن يقع في المبالغة أو التحريف والاختلاق. فهو ظل أميناً على مرويات الأناجيل والمقولات الحكمية والأمثال التي ألقاها الناصري. وأمانته سمحت له في أحيان أن يرسم مثلاً ملامح اضافية لشخصية يهوذا الاسخريوطي وغسان الرحباني أو مكاهن الهيكل قيافا انطوان بلابان أو حنّان بول سليمان. واختصر منصور حياة الناصري في بضعة أيام أخيرة معتمداً جوهر التجربة التي خاضها الناصري في صراعه مع الشر والعالم ومع كهنة العهد القديم والتقاليد وفي ثورته البيضاء التي أطلقها جامعاً من حوله بعض صيادي السمك وأصحاب الحرف الصغيرة. لم يمعن منصور الرحباني اذاً في التحليل اللاهوتي والتأويل بل أراد نصه الدرامي مشبعاً بروح شعرية تجلت خصوصاً عبر القصائد أو الحوارات والمقاطع الذاتية التي كتبها من لغة شفافة ونفس عالٍ. غير أن بساطة النص أو عذوبته قابلتها موسيقى أخرى أقل بساطة وأشد تركيباً وتأليفاً. وندّت الموسيقى عن جهد كبير بذله اسامة بغية الوصول الى صيغة موسيقية شاملة للعرض ككل. فهو هنا لا يؤلف مقطوعة أو يلحن أغنية فقط بل يصوغ جواً موسيقياً أو مناخاً عاماً تلتقي فيه المقطوعات وتنصهر الألحان لتصنع وحدة العمل المو سيقي المتطور تبعاً لخضوعه لحركة الشخصيات والأحداث وجميعها مرتبطة بالشخصية المحورية أي شخصية يسوع الناصري. وكان من الطبيعي أن تبدو مقطوعات أجمل من مقطوعات وألحان أجمل من ألحان. المقدمة الموسيقية الثانية مثلاً بدت أجمل وأقل صخباً أو أشد هدوءاً من المقدمة الأولى نظراً الى أنها أي الثانية مهدت للمرحلة الأخيرة من حياة الناصري وهي مرحلة الآلام. هنا في المقدمة الثانية وبعض المقطوعات التي تلتها تبرز الموسيقى "الكمنجاتية" وكأنها طالعة من أعماق الوجدان مشبعة بالنشيج والرثاء. أما في الفصل الأول فأغرقت الموسيقى وبعض الألحان في اللون الحديث مستوحية أجواء الموسيقى الجديدة على اختلاف انواعها كالجاز والروك والموجة الجديدة وسواها ولكن في مقاربة "رحبانية" خاصة. وبدت بعض الأغنيات جميلة وجديدة وذكرت بما يخوض أسامة في حقل التلحين. ومن تلك الاغنيات أغنية يهوذا غسان الرحباني وأغنية المجدلية كارول سماحة وكذلك الأغنية المشتركة بينهما ديو. انها بحق ألحان اسامة الرحباني بل أجواؤه اللحنية والموسيقية التي بدأ يفرض هويته من خلالها. وقد تحتاج موسيقى المسرحية الى قراءة خاصة تنبع من علاقتها الدرامية بالشخصيات والأحداث والموضوع العام. فالموسيقى هذه داخل المسرحية ستفاجئ الجمهور الذي لم يعتدْ أن يسمع ما يماثلها في جدتها أو "حداثتها" وصخبها وخصوصاً ضمن عمل مسرحي ديني. ومثلما صدم زياد الرحباني الجمهور المسيحي مرة عبر تر تيلة "سيدي" بإيقاعها الصاخب والحديث أدّاها سامي كلارك يصدم اسامة جمهوره ليس فقط بالموسيقى الصاخبة في أحيان والألحان الحديثة وإنما أيضاً عبر الصورة الشاملة التي رسمها للناصرين أو رسم الناصرين من خلالها وهي صورة حديثة جداً و"معاصرة" وتذكر كثيراً ببعض الصور الغربية التي رسمت للناصري في السينما أو المسرح. وغدت الرقصات والحركات التعبيرية والأبعاد المشهدية والأضاءة أشبه بالخلفية الرئيسة التي قامت عليها هذه الصورة. وإن بدت بعض الرقصات ضعيفة وخالية من الرموز والاشارات وعاجزة عن محاكاة الشخصيات والأحداث فإن الأخراج اعتمد الأبهار المشهدي والضخامة سواء عبر السينوغرافيا عموماً أو الاضاءة. واستطاع مروان الرحباني كمخرج أن يرسخ الصورة الحديثة للناصري انطلاقاً من نص والده والجو الموسيقي العام الذي وضعه اسامة فإذا الأخراج هو عماد العرض واذا لعبة الأبهار عماد الأخراج الذي سعى ان يجعل العمل عملاً مشهدياً أكثر منه درامياً. وكعادته يعتمد مروان الحركة الجماعية ليؤسس ما يشبه الجدراية التي يتكئ عليها النص والموسيقى. أما الاضاءة التي صممها فؤاد خوري فبدت نابعة من عمق العرض والحالات التي حفل بها: انها في معنى ما اضاءة درامية ومشهدية، تعبيرية وشاعرية لا تعرف الثرثرة ولا التزيين. وان بدا الأداء شبه ثانوي داخل المشهدية الضخمة التي رسخها العرض وفي سياق الحركة التعبيرية الجماعية فإن بعض الممثلين فرضوا شخصياتهم ولو عبر فقر ات قصيرة وسريعة: كارول سماحة في شخصية "المجدلية"، نزيه يوسف في شخصية "بطرس"، غسان الرحباني في شخصية "يهوذا" وغسان صليبا في شخصية الناصري. وبدا صليبا كمغن أفضل منه كممثل إذ بدا الدور صعباً عليه وناء قليلاً تحت وطأته. أما الغناء فبرعت فيه كارول سماحة ولا سيما عبر اغنياتها الفردية التي حملت خامة صوتية جديدة تلتئم فيها العفوية والبراعة، الصدق والوعي، الجمال والتقنية. أما غسان الرحباني فبدا أليفاً في اللون الغنائي الذي بات معروفاً به وبات له جمهوره ولا سيما "الشبابي" الذي يتابعه أغنية تلو أخرى. أما السؤال المطروح فهو: هل سيتمكن الجمهور العريض من استيعاب هذه الصورة الحديثة والحديثة جداً كما رسمها اسامة ومروان لشخصية الناصري أم أن الصدمة ستكون كبيرة وتحول دون استعيابها؟ وان كان الجمهور الشاب معتاداً على مثل هذه الصور عبر ما يشاهد من أفلام حديثة وعبر ما يستمع اليه من اغنيات وموسيقى حديثة فهل سيتقبل الجمهور الرحباني مثل هذا العرض الذي يحضر فيه منصور ككاتب ويغيب عنه كملحن وموسيقي؟ أما الجمهور النخبوي أو المثقف فلا يسعه الا ان يتذكر بعض ما شاهد من أفلام ومنها "الأنجيل بحسب متى" للايطالي بازوليني أو التجربة الأخيرة "لمارتن سكورسيزي أنجزه انطلاقاً من رواية اليوناني كازانتزاكيس أو "جيزوس سوبرستار". وفي معظم هذه الأفلام يطل الناصري اطلالات "حديثة" وربما "مهرطقة". نجح حتماً أسامة ومروان في التحرر من أسر التراث الرحباني ولكن عبر التواطؤ مع منصور الرحباني نفسه ككاتب للنص فإذا بالرحباني الكبير يخضع لرؤية الرحبانيين الجدد ولمقارباتهم الموسيقية والمشهدية الجديدة. لكنه الموضوع ربما - وهو الأثير الى قلب منصور ووجدانه - دفع منصور الى التخلي عن حنينه الرحباني القديم مستسلماً للرياح الجديدة التي تهب على الذاكرة الرحبانية. ومثلما بدا منصور مشفوفاً بشخصية "سقراط" في مسرحيته السابقة فهو هنا مشغوف بشخصية الناصري ولكن ليس في مسرحيته بل في مسرحية ولديه اسامة ومروان. ترى أي عمل مسرحي سيكون عمل منصور المقبل: عمل على طريقة الأخوين رحباني أم عمل على طريقة "منصور والرحبانيين الجدد"؟ * تقدّم على مسرح كازينو لبنان