عندما يتفجر الواقع ولا يستقر على حال، يصعب على الخيال أن يتشكل في لغة، إذ تبدو اللغة عصيّة وهي تحاول جمع العناصر المتشظية ونظمها في صورة. هكذا الكتابة العربية اليوم جمع لنثار واقع في نثار خيال. لكن الروائيين في المشرق العربي يزدادون عدداً ونتاجاً منذ هزيمة حزيران يونيو 1967، وأكثر، منذ حرب لبنان وتعرية تناقضات المشهد الاجتماعي والثقافي المشرقي، حين يواجه اسرائيل باحثاً عن ذاته فيكتشف ذوات منقسمة تطرد حقيقتها أوهام الايديولوجيات الموحدة وتبحث عن اعتراف يؤدي الى تعايش لا الى تجاهل. يتقدم الروائيون العرب المشارقة، والخليجيون بالتالي، الى اكتشاف ذواتهم الجمعية، ويتعايش عندهم نمطان من الكتابة الروائية: النمط الواقعي الذي لا يزال يجد مبرر وجوده في ضرورة رسم ماكيت كتابي لمجتمعات بقيت صورتها غائمة تأتي الى القارئ عبر الشعر وعبر تاريخ مضى وبقي منه معناه. النمط الواقعي الضروري هذا نجده في روايات تركي الحمد وفي عدد من روايات غازي القصيبي وهما كاتبان سعوديان معروفان. أما النمط الآخر من السرد القصصي والروائي فينطلق من بيئات سبق أن رسم واقعها في كتابات سردية أو وصفية، فتبدّى قصور الواقعية عن الاستجابة لمعان وتجارب تتميز بالتحول المستمر لمجتمعات تتخلخل وتتحول بدورها فلا تسمح باستقرار وبالتالي بكتابة وثوقية واضحة. ولا نملك تعريفاً للنمط الآخر هذا غير الواقعي لأنه فعلاً مجموعة أنماط وتجارب، يدور معظمها حول البطل الفرد وبحثه عن ذاته وعن نقطة وضوح وثبات في عالم سائر الى غموض وحركة دائمين. لكن تحولات المجتمعات العربية في العقود الثلاثة الأخيرة أكثر غرابة ولا معقولية مما يستطيع الخيال أن يصوّره، فيحدث تراجع في استجابة القرّاء والنقاد لأنماط السرد الروائي والقصصي الأخرى هذه أين الاستجابة الضئيلة اليوم لقصص زكريا تامر من الاستجابات الحارة والعارمة لأعماله الأولى والوسيطة حتى أواخر السبعينات؟. لذلك انطلقت الكتابة الرواية في العقد الأخير الى اتجاهات أخرى تستند الى ما يشبه الشهادات في مرحلة تاريخية واجتماعية، أو إلى ما يشبه استعادة ملعب تاريخي تدور على سطحه الرواية، ولن تكون بالضرورة رواية تاريخية أو اجتماعية. وإذا كان البعض حاول كتابة رواية تاريخية بالفعل، مستنداً الى نجاحات حققتها روايات عن تاريخ الشرق والغرب كتبها بالفرنسية اللبناني أمين معلوف، فإن هذا النمط لم يكتب له النجاح فنياً عندنا، على رغم محاولات جادة قام ويقوم بها كثيرون في المشرق كالسوريين نبيل سليمان وفواز حداد ونهاد سيريس والاردنيين سميحة خريس وزياد القاسم. لم يكتب أمين معلوف تاريخاً معيناً بشكل روائي وإنما كتب الرواية في إطار منعطفات تاريخية حادة أو من خلال سير شخصيات أوصلها الى اللمعان والتوهج عبر الكتابة الفنية. لكن القبض على تاريخ بلد أو جزء من هذا التاريخ وكتابته في شكل روائي هو أمر مستعص فنياً قد يؤدي الى نهج جرجي زيدان الافتعالي في "سلسلة روايات تاريخ الاسلام" التي ظهرت أول القرن العشرين. وحتى أعلام في الرواية كسولجينتسين سقطوا فنياً حين حاولوا من خلال الرواية القبض على تاريخ بلد. وإذا كانت رواية سولجينتسين عن بلد راسخ كروسيا قد فشلت، فسيكون الفشل مضاعفاً عند الكتابة عن تواريخ بلدان متحركة عبر الزمان كلبنان وسورية وفلسطين والاردن والعراق... لذلك اعتماد روائيين عرب في العقد الأخير على بعض التاريخ كمسرح للرواية لا كرواية تاريخية. وهؤلاء جيل جديد من المبدعين لم يعتقد أكثرهم بعقائد شمولية توجّه كتابته الفنية، كما كانت تفعل القومية أو الماركسية بكتّاب ينضوون تحت لوائها. ففي حالة القومية كانت الرواية صورة خيالية لبطل فرد تغيّب ملامح المجتمع وتستحضر خيالات عن الأمة الماضية أو الأمة الموعودة. وكم يلاحظ النقاد ذلك الاحتفاء القومي بمفردة "ارهاص" وبمعناها، أي النظر الى الموجود بما هو صائر اليه لا بما هو كائن في زمان ومكان. وعلى رغم "تغذية" البطل القومي بالمعاني الوجودية والانسانوية فإنه يبقى أشبه بخيال باهت، أشبه بغيمة عابرة أو بأغنية نسمعها من بعيد فلا نعي موسيقاها وكلماتها جيداً. أما الماركسية عندنا فعنيت بحضور المجتمع في الرواية وبغياب الفرد بما هو فرد لا بما هو نمط. وساهم روائيو هذا الاتجاه في ترسيخ واقعية كانت ضرورة في مرحلة ما، لكن أغلبهم اجتزأ من الواقع ما يناسب الأدب الهادف، أو ما سمّي آنذاك الهدف الملتزم. التاريخ كمسرح، التاريخ كمكان أو كجماعة أو كمشهد ثقافي اجتماعي مركّب وقائم في زمن معين، التاريخ كنقطة اتصال لا نقطة انفصال وعزلة، هو ما تدور حوله وانطلاقاً منه الغزارة الروائية الحالية، خصوصاً في المشرق العربي، حيث لا تزال هناك مجتمعات مجهولة، لم تترك لها الشمولية مكاناً في الصورة العامة للمجتمع، ولم يترك لها أدبنا الحديث سوى قليل من الانشاء الوصفي.