أحيت أندونيسيا أمس الذكرى الخامسة والأربعين لمؤتمر باندونغ، وجرى الاحتفال برئاسة الرئيس عبدالرحمن وحيد في مدينة باندونغ نفسها في قصر سافواي القاعة التي أقيم فيها المؤتمر يوم الاثنين 18 نيسان ابريل 1955 الذي صادف وقتها اليوم الخامس والعشرين من شهر شعبان 1374ه. وفي حساب الصينيين اليوم السادس والعشرين من الشهر الثالث القمري لعام الكبش الذي يخلف عام الحصان. أما المسيحيون فكانوا يومها يحتفلون بعيد "سان برفي". وحضر الاحتفال الى جانب الرئيس وحيد سفراء كل الدول التي شاركت في ذلك المؤتمر التاريخي وسفراء تونسوالجزائر والمغرب وهي الدول العربية المغاربية الثلاث التي حضرت المؤتمر بصفة ملاحظ لأنها لم تكن في ذلك العهد حصلت على استقلالها بعد. وللذكرى فإن الدول التي شاركت في ذلك المؤتمر التاريخي الذي اعتبر آنذاك "حدث القرن" كانت كلها من آسيا وأفريقيا وكانت كلها مستقلة وعددها 29 دولة من بينها 14 دولة إسلامية هي: أندونيسيا والعربية السعودية وأفغانستان ومصر والعراق والأردن ولبنان وسورية واليمن والسودان وليبيا وإيران وتركيا وباكستان. أما الدول الآسيوية الجنوبيةوالشرقية فهي عشر: الهند، اليابان، الفيليبين، تايلاند، برمانيا، لاوس، فيتنامالجنوبي، سيلان، نيبال، وكمبوديا. يضاف إليها دولتان شيوعيتان هما الصينوفيتنام الشمالية وثلاث دول افريقية هي: الحبشة وليبيريا وساحل العاج. ومن كبار زعماء العالم الثالث الذين كانت أسماع وأنظار العالم تتجه إليهم باعتبارهم من أبرز الرؤساء المشاركين في المؤتمر: الأندونيسي أحمد سوكارنو، والهندي جواهر لآل نهرو، والصيني شوان لاي نيابة عن ماوتسي تونغ والمصري جمال عبدالناصر. بلغ هذا المؤتمر قمة في التغطية العالمية له من حيث الإعلام والتعليق والتحليل سواء عن طريق مختلف أجهزة الإعلام العالمية أو من طرف كبار الساسة في العالم من الولاياتالمتحدة الى الاتحاد السوفياتي الذي لم يدع الى المشاركة في المؤتمر على رغم أنه قوة كبرى آسيوية، مروراً بأوروبا، واعتبره كل الملاحظين بأنه "قمة في التاريخ". وللمرة الأولى في التاريخ ينعقد مؤتمر بمثل هذا الحجم من دون مشاركة أي "رجل أبيض" لا أميركي ولا إنكليزي ولا فرنسي أو هولندي أو بلجيكي ولا روسي، ودعت لانعقاده "قوى كولومبو الخمس" أندونيسياوالهند وباكستان وبرمانيا وسيلان لتحديد سياسة موحدة لدول العالم الثالث. وجاء المشاركون في هذا المؤتمر وهم يمثلون وقتها بليون ونصف بليون من البشر كان معظمهم قبل ذلك بقليل لا ينتمون الى دول حرة وإنما إلى امبراطوريات استعمارية. وها أن عدد سكانهم يتضاعف اليوم مثنى وثلاث فالصين وحدها تعد حوالى البليون والنصف. ومع هذا فإنهم كانوا يمثلون في سنة 1955 أكثر من نصف سكان العالم. أما عن الحجم الاقتصادي لتلك البلدان ال29، فهي كانت تنتج في ذلك العهد كامل الإنتاج الدولي من المطاط و24 في المئة من إنتاج النفط، و98 في المئة من الشاي و90 في المئة من الرز و55 في المئة من الزيوت النباتية. وكانت كل تلك البلدان باستثناء اليابان تنتمي الى العالم المتخلف الذي سمي لاحقاً ب"الدول النامية" أو التي في طريق النمو. وكان 700 مليون من سكانها ينتمون الى أنظمة شيوعية قائمة في بلدانهم و300 مليون الى أنظمة ميالة الى الغرب، و500 مليون الى أنظمة تريد أن تكون محايدة ترفض الانتماء الى هذا المعسكر أو ذاك. إنه إذاً عالم الثروات الكبرى وفي الوقت نفسه عالم الجياع والفقراء والمحرومين والمقهورين يعقد مؤتمره المشهود مؤتمر "الشعوب الملونة". هكذا وصفه بعض الموتورين من الملاحظين في "الدول المتقدمة" فاستعجلوا القول إنه "صورة لحرب الطبقات" في حين قال عنه بعضهم الآخر إنه مؤتمر "المواجهة بين الجياع الذين سحقهم الحرمان والعذاب والمتخومين الذين أبطرتهم الراحة والامتياز". لكن الطريف أن من الموتورين "البيض" من استنبط وصفاً مستمداً من ذهنيتهم فقالوا إنه مؤتمر العنصرية العكسية "العنصرية ضد البيض" واستبقت أفلامهم الأحداث لتدعو للويل والثبور وضرورة الدفاع عن "الحضارة"... حضارتهم الاستعمارية. جورج اندرسن أحد الموتورين لم يجد للدفاع عن هذه الحضارة إلا هذا التبجح: "إذا كان الصينيون يتنقلون اليوم على عربة أو دراجة ويستخدمون الجرار ويتداوون بالبنيسيلين"، وإذا كان السياميون أهل تايلاندا يتناولون الفيتامين، والأندونيسيون يتخلصون من الحمى الصفراء وأوبئة أخرى... أليس ذلك بفضل عبقرية الذين يوجهون إليهم اليوم الاتهام؟ كلبس الذي عزل الجرثومة عن الخناق. بهرين وروكس اللذان قاوما الفيروس وأحضرا الدواء، كوخ الذي اكتشف جرثومة الدرن. إيبرت الذي اكتشف مكونات حمى المستنقعات، وكذا أرليش، فلامنغ، رونتجن، أليسوا كلهم أبناء هذا الجنس الأبيض الذي يظل في ريادة مقاومة الأوبئة والعناصر التي تهدد الجنس البشري؟". ونسي هذا المتبجح أن العلم ليس ابداً من إنتاج شخص واحد أو طرف واحد وإنما هو تراث تشترك فيه البشرية كلها من عمر آدم الى الحاضر مروراً بجميع الحضارات، وتجدده وتطوره الحضارات المقبلة لتكون فيه هي أيضاً شريكة. وتناسى هذا المتبجح أن الجنس "الأبيض" الذي يفرده بوضع أكاليل الاختراع على هامته ما كان يستطيع أن يأتيه أو أن يأتي عشره لولا الثروات العظيمة المنهوبة من "الملونين". ما أشبه الليلة بالبارحة، فمثل هذا التبجح كثيراً ما نسمعه اليوم من أمثال هذا الرهط بمناسبة كل حدث كبير. وكما هو الشأن اليوم أيضاً ما زلنا نجد في مقابل هؤلاء الموتورين والمتبجحين عقلاء قادرين على الفهم والتمييز بين الحق والباطل. من هؤلاء من وصفوا مؤتمر باندونغ بأنه "مؤتمر الأمل" وقالوا إن باندونغ ليس محكمة ولكنه ندوة تاريخية لشعوب أضناها البؤس جعلت اليوم تثق في قواها وفي حقوقها وفي روحها المشتركة. وعلق كاتب فرنسي تقدمي: "مهما كان الحال، محكمة أو حفل، ندوة أو مؤتمر، فباندونغ "الحدث" أثار كل الخيالات والتصورات منذ أن حدث! حقاً إنه "حدث" كوني، كوكبي. يهم كل أمم المعمورة بالصورتين الخاصة والعامة. إنه في مستوى يالطة أو واترلو. ربما أيضاً في مستوى الثورة الفرنسية والثورة الروسية أو استقلال الولاياتالمتحدة الأميركية... إنه سيعيش طويلاً وسيطبع بطابعه أجيالاً وأجيالاً". كلا، إنه، مع الأسف لم يكد يعيش إلا جيلاً واحداً، جيل زعمائه. ولعل الرئيس الأندونيسي الحالي عبدالرحمن وحيد يريد أن يوجه الصراع، في مناسبة ذكرى التأسيس، إلى صراع ضد الاحتكارات الكبرى. وحلل خمس إجراءات ذات ضرورة قصوى: نزع السلاح المدمر، الانخراط في الأممالمتحدة معناه الانخراط في ميثاقها قلباً وقالباً وليس مواصلة المظالم على مرأى منها، مقاومة الفصل العنصري في جنوب افريقيا وإنماؤه، الدفاع عن حقوق الأمم الضعيفة وإقرارها، وتصفية الاستعمار. أما الذي كان المدافع الرئيسي والفصيح عن الشعوب المناضلة ضد الاستعمار فكان بلا منازع السياسي العراقي محمد فاضل الجمالي الذي أقام خطابه على ثلاثة محاور أساسية: تصفية الاستعمار الفرنسي من شمال افريقيا والاستعمار عموماً، وسمى الأشياء بأسمائها ونعني الدول المصرة على الحفاظ على استعمارها للأمم الأخرى. والمحور الثاني مقاومة الصهيونية ومحوها باعتبارها أسوأ فصل في تاريخ الإنسانية. والمحور الثالث مقاومة الشيوعية وهي دين مادي ينكر وجود الله والميراث الروحاني للبشرية ويبث الحقد في صميم الشعوب وتطلع على العالم بنظام استعماري جديد أقتل من القديم من ذلك هيمنة الاتحاد السوفياتي المطلقة على دول أوروبا الشرقية وشعوبها وعلى كثير من الشعوب الآسيوية. فالشيوعية مع هذه الحقيقة الاستعمارية هي أيضاً نظام امبريالي. وأعاد دفاع محمد فاضل الجمالي القوي عن شعوب شمال افريقيا تونسوالجزائر والمغرب الروح الى ممثليها صالح بن يوسف عن تونس وحسين آيت أحمد عن الجزائر وعلال الفاسي عن المغرب الذين كانوا أصيبوا بخيبة أمل أمام برودة كل من أحمد سوكارنو وجمال عبدالناصر في القضية الاستعمارية ربما لأنهما كانا يراعيان قاعدة اللامجابهة. ولم يدعوا أيضاً مثلما فعل محمد فاضل الجمالي لضرورة "نزع السلاح الإيديولوجي". جاء مؤتمر باندونغ ليقول للأمم التي تملك ناصية كل شيء أن ما أصبح يميز أمم الجياع بعد الحرب العالمية الثانية ليس فقط "جوع البطون" بقدر ما هو "جوع المعرفة" وإن الذي ينتشر فيها ليس "وباء الأمراض" بقدر ما هو انتشار التطلع الى العلم والمعرفة بسرعة الوباء. وجاء مؤتمر باندونغ ليكون أول من دعا الى العولمة لكن على أن تستفيد منها كل الأمم، ومن وجهة نظر القيم الوطنية لأن "العولمة لا تزهر إذا لم تكن متجذرة في الروح الوطنية، ولأن الوطنية لا تزهر إذا لم تنبت في بستان العولمة". وإذا ألقينا نظرة على خطب الزعماء في ذلك المؤتمر لوجدناها تصب كلها في هذا الحوض، حوض العولمة لفائدة كل الأمم ونشر العلم والمعرفة لكل البشرية. شوان لاي الشيوعي المنغلق الذي جاء الى باندونغ في أعقاب ثورة ثقافية عبثت بالثقافة وكل فنونها كما لم يحدث في التاريخ. انتظرته بقية الوفود نمراً فجاء واحداً من "النبلاء" يقول لصحافيي الدنيا كلها جئنا الى باندونغ ممتلئين بإرادة السلام والصداقة، فهذا المؤتمر يقدم للشعوب الآسيوية والافريقية الفرصة للمرة الأولى في التاريخ لتناقش معاً القضايا ذات الاهتمام المشترك وتخدم السلام في العالم كله. وكان شوان لاي في منتهى الهدوء مما حدا بأحد السفراء أن يلاحظ: "عندما يطلق الصيني صيحات تهديد لا تخشوا شيئاً أما عندما يلزم الهدوء خذوا حذركم فالمسألة جدية"! لكن الصيني يضيف عندما يسمع من أحد الصحافيين عبارة "الخطر الأصفر": ىنبغي الإقلاع أن نعبر عن المشاكل الأساسية والحيوية بعبارات الحقد والحذر... أليس الوفاق يبدأ دائماً بداية لغوية؟". أحمد سوكارنو يصف مؤتمر باندونغ بأنه "ومضة إيمان مقدس أكثر منه بريق سياسي". ويضيف: "إننا نحيا الآن منطلقاً جديداً في التاريخ العالمي. إننا نفتح عهد التصرف السياسي الجماعي بلا خوف. فالخوف خطر أقسى من الخطر نفسه. لهذا أدعو المؤتمرين أن لا تقودهم المخاوف. فالإنسان قد تعلم السيطرة على القوى التي طالما استعمرته وتعلم تقريب المسافات متخلصاً من الخوف وتعلم كيف يجعل صوته وصورته يعبران القارات. هتك أسرار الطبيعة وسيطر على الذرة في أقل جزئياتها. لكن هل أن قدرته السياسية تقدمت بمثل ما تقدمت به قدرته العلمية والتقنية؟". ويضيف سوكارنو: مؤتمرنا هذا بقدر ما يدعو الى الحرية، الى تحرير الشعوب من الاستعمار وتمكينها من تقرير مصيرها لأننا لا نستطيع أن نكون أنصاف أحرار كما لا نستطيع أن نكون أنصاف أحياء، فهو يدعو الى الصداقة والمساواة ويظهر للعالم أن كل الناس وكل البلدان لها مكانتها تحت الشمس. مؤتمرنا هذا لا يدعو الى المواجهة إنه اجتماع للاخاء. ليس مؤتمراً إسلامياً ولا مسيحياً ولا بوذياً، ليس اجتماعاً عربياً أو مالاوياً، ليس اجتماع ناد أو مجموعة تحاول أن تجابه مجموعة أخرى بل نحن هنا جسم متنور متسامح يدعو العالم الى تبين الحقائق وإقرار الحقوق ويسعى أن يوضح للبشرية طريق الأمن والسلام. جمال عبدالناصر ركز على ضرورة التعاون الاقتصادي والاجتماعي رافضاً أن يكون كل الهم محصوراً داخل الإطار السياسي. وإذا لم يستجب العالم لهذه الضرورة الحيوية فإنه يخشى أن يؤدي ذلك الى "عولمة الفقراء". إذاً ونحن إذ نعود اليوم مع ذكرى باندونغ 45 سنة الى الوراء لا نقول فقط ما أشبه اليوم بالبارحة في ما يتعلق باستمرار تسلط الدول الكبرى على دول أخرى تمثل 85 في المئة من سكان العالم تسهلها كالدمى المتحركة وتجرب من خلالها أسلحتها وتبخسها إنتاجها الأساسي في الحركة الاقتصادية العالمية وفي التقدم العالمي في مختلف المجالات. ولكننا نزيد فنقول: البارحة أفضل. فإذا تمكن زعماء العالم الثالث من تنظيم "مؤتمر باندونغ" التاريخي الذي كان بمثابة ميلاد عقلية جديدة لنظام عالمي جديد على أساس عولمة لفائدة الجميع وكان أيضاً بمثابة وفاة عقدة النقص لدى الأمم الضعيفة، فهل يستطيع اليوم ذاك العالم "النامي" أن يجمع على عقد مؤتمر في هذا الوزن ويصدح بكلمة في هذا المعنى للعولمة، أو أن يقر بشأنها موقفاً؟ فعلى مستوى العالم العربي مثلاً عجزت جامعة الدول العربية عن جمع قمة عربية لتوحيد الموقف في أخطر مراحل التاريخ في المنطقة وعجزت دول المغرب العربي عن إحياء ميثاق طنجة أو جمع قمة مغاربية. هذا فضلاً عن تفتت الدول الآسيوية والافريقية. فالواقع مُر ولعل ذكرى باندونغ تخفف المرارة وتحيي الأمل!