عندما يتناول مسؤولون أو باحثون أحوال التعليم والتربية في المجتمعات العربية تسوقهم هذه الأحوال إلى تناول وجوه كمية تدور على الأمية، وغلبتها على تعليم الإناث فوق الذكور، وعلى حال المباني والتجهيز ونسبة المدرسين من أعداد التلامذة أو الطلاب. ولا مناص، في هذا المعرض، من التعريج على سوق العمل والبطالة وضعف المناسبة والموازنة بين التدريس وبين احتياجات العمل وقطاعاته المختلفة. وإذا وضع الكلام على بلدان المغرب حُمل على التنبيه إلى العلاقة بين تعريب التعليم وبين نشأة جمهور عريض من الخريجين البطالين والمتحجرين على مسألة الهوية بإزاء قلة متحدرة من التعليم الأجنبي ومن أعيان القطاع العام ومديريه. وقد يترجح بعض المسؤولين بين مديح التعليم "الاستقلالي". وهو التعليم الذي أنشأته الدولة الوطنية غداة الاستقلال و"حروبه"، وبين لوم هذا التعليم لوماً شديداً. فهو يمدح على زيادته عدد الطلاب "من حوالى 700 طالب بعد الاستقلال الجزائري إلى 400 ألف طالب اليوم"، وعلى "تمكن الجامعة من تغذية التنمية الوطنية بمختلف الكفايات"، على ما ذهب إليه وزير التعليم العالي والبحث العلمي الجزائري، عمار صخري في "الحياة"، 18 نيسان/ابريل المنصرم. ولكنه يلام على كثرة "عدد الطلبة الذين جاؤوا من الثانويات وهم غير مؤهلين للتعليم الجامعي"، وعلى "تلقين كلاسيكي" يجافي "التحليل والنقد والمنهجية الفكرية" ويخلو من "المراجع الحديثة المواكبة للعصر" ولا يثمن الإعداد والتأهيل المهنيين الثمن القمين بتوجيه التلامذة والطلاب وجهتهما. والمديح والنقد، ما خلا معارضة التحليل بالتلقين، يقتصران على الأعداد والكم. وقلما يتعدى الكلام على الطرائق والمناهج والمضامين الإشارة والإيماءة إلى المعالجة الدقيقة. ويعزى هذا، إذا أُقر به، إلى انشغال المجتمعات "الفتية" بالأولويات والمقدمات، على رغم انصرام فوق نصف القرن على استقلال بعض هذه البلدان ومضي فوق القرن وثلث القرن على اختبارها مراتب التعليم المختلفة ومراحله وبرامجه. وإذا تعدت المناقشة القسمات والملامح الى الدقائق والتفاصيل، على ما جرى في لبنان قبل أربعة أعوام، تقطعت المناقشة، وتناثرت وتجزأت واختصت. فلم تظهر معالم تيارات رأي عريضة ومتماسكة تجمع الرأي في الطريقة التربوية إلى المذهب في السياسة التعليمية والاجتماعية، وتفصل في البرامج وإعداد المدرس وإدارة الصف في ضوء معايير مشتركة ومعلنة. ولم تظهر، من وجه آخر، استحالة مثل هذه التيارات أو عسر تبلورها، ولا اختبرت شروط الظهور أو البلورة، ولا معوقات هذه أو ذاك. فعاد الأمر الى سويته الإدارية، أو إلى انحرافه الإداري الأعجف. ولما عين مدير لبناني جديد خلف المدير السابق، طعن في عمل سلفه، ونسبه الى الارتجال وضعف الدراية وإلى ميل الهوى والمصلحة. ويحسب الإصلاحيون، من إداريين وسياسيين ومثقفين، أن علاج هذه الحال إنما هو التوكل على السوق، والاحتكام إلى "اقتصاد السوق الذي فرض نفسه علينا في سياق العولمة"، على قول الوزير الجزائري الذي لا يعدو ترديد كلام شائع وسائر. وعلى هذا يتوقع السيد عمار صخري، شأن غيره من أقرانه، أن تبدأ الجامعات الجزائرية، "ابتداءً من العام القادم"، "تسويق منتوجها العلمي في علاقته بالسوق الاقتصادية". وإذا علم القارئ أو السامع أن "معظم ما تم من أبحاث جامعية إلى يومنا هذا"، والسيد صخري هو صاحب القول، "لم يخدم أي ميدان اقتصادي"، وعلم أن إعادة "الشأن الاعتبار للبحث" ينتظر "إعداد قانون الأستاذ الباحث"، عجب من ضرب الوزير العام القادم موعداً لابتداء الجامعات 1 نتاجاً علمياً، 2 مناسباً لحاجات السوق، 3 ناجزاً وقابلاً للاستثمار، 4 والسوق على دراية به، 5 وأعدت العدة المالية والتقنية والتأهيلية المهنية لإدراجه في سياقات تطويرها عملها وإنتاجها. وهذا، إذا قيض له وحصل، من قبيل الاتفاق المعجز، وهو لا يفترض، ضمناً وربما علناً وصراحة، إلا تنبه صاحب شأن واحد، هو الوزير المختص والمسؤول، إلى المسألة. فإذا وقع صاحب الشأن الأول على الرجل البصير والقدير، وهو الوزير المفوض، لم يبق إلا إعداد القوانين، خفية أو خلسة، على ما ينبغي، ونشرها وإنفاذها. فلا مناص للتعليم، تلامذة وطلاباً ومدرسين وبرامج ومراحل وكفايات وخبرات، من تلبية احتياجات المجتمع "ابتداءً من العام القادم"، على ما يتوقع من السوق والعولمة، المحدثتين، وعلى ما يظن في الإدارة القادرة، القديمة القدرة والظن. وبإزاء هذا الحسبان، وهو يصدق الظن فيه أنه مزاعم وأوهام كسولة ليس الوزير الجزائري إلا ذريعة ظهورها، ويبدو مخاضُ التصدي الفرنسي، منذ نيف وسنتين، للنظر في برامج التعليم وتجديدها، هرجاً غير مفهوم ولا سائغ. وقياساً على اختصار الوزير العربي، وعلى هندسية تناوله موضوعه وشأنه، تثقل على المعالجة الفرنسية اعتباراتٌ لا تحصى، وتلويها في كل جهة. فقبل نيف وسنتين، وكان ذلك في أوائل 1998، أوكل وزير التربية الفرنسي الجديد وهو أستاذ علوم الأرض في الجامعة الفرنسية ورشحته بحوثه المختبرية والنظرية الى جوائز علمية عالية، وربما توجت جائزة نوبل، على زعم بعضهم، بحوث الأستاذ إلى باحث وأستاذ خبير في شؤون التدريس والتربية مناقشة برامج جديدة في مواد تدريس اللغة الفرنسية والرياضيات والتاريخ والجغرافية والفلسفة وتمنى الوزير على من انتدبه الى المناقشة والتداول وعلى جسم المدرسين، أن يكون ابتداء العمل بالبرامج الجديدة، في الصف الثانوي الأول، في أيلول سبتمبر العام 2000، أي في أعقاب زهاء ثلاثة أعوام على ابتداء التداول في الأمر. وعلى أن تستتم الأعوام التالية، في 2001 ثم في 2002، التجديد. فينجز صوغ برامج السنة الثانوية الثالثة بعد خمسة أعوام من ابتداء المداولة والمناقشة. ويقدر خبراء تربويون متوسط "عمر" البرنامج التعليمي المجزي والمناسب بخمس سنوات ينبغي النظر بعدها في تجديد البرامج الفائتة. وخلص المندوب إلى المناقشة والمداولة من مداولة عريضة طاولت آلافاً من المدرسين، وعشرات الآلاف من تلامذة المرحلة المتوسطة والمرحلة الثانوية وهؤلاء كانت مشاركتهم من طريق استمارة اسئلة، وبعضهم أجاب عن أسئلة الاستمارة في جمعيات مدرسية عمومية، خلص الى التوصية بالتخفيف من أعباء المناهج وأثقال موادها، بناء على إجماع من طاولهم الاستطلاع. ونبه التقرير الختامي على أن المقصود بالتخفيف إنما هو جمع جهد التلامذة على تعلم الأركان والأصول والأسس، و"العودة" إليها، على قول التقرير، وليس المقصود بالتخفيف الاختصار أو الاختزال. ولكن ما قد يتناوله الذهن تناولاً عابراً، ولا يرى فيه ما يشكل ويدعو الى النظر والخلاف، ينقلب الى موضع خلاف كثير الفروع والمعاني إذا حُمل على شروط العمل به، وعلى النتائج التي يتوقع أهل الأمر وأصحابه الكثر أن تترتب على العمل به في الظروف المتفرقة والمتفاوتة التي تلابس العمل هذا. فلم تكد فكرة التخفف من بعض أثقال مواد المناهج تطرح وتتداول، في مرحلة تمهد لصوغ الاقتراحات الأولى، حتى ثارت الأسئلة عن شرائط التدريس ونتائجه، وحامت الشكوك عليها. فإذا تطاول التخفيف الى بعض التراث الأدبي، واطرحت المباني البرهانية من الرياضيات، واقتصرت الطبيعيات على التجريب والاختبار، والفلسفة على الطريقة والمنهج ومُثّل على التاريخ بتناول الحوادث المعاصرة، كان معنى هذا، على زعم أصحاب المذهب "الجمهوري" الوطني والتقليدي، تخلياً عن مقومات المدرسة الفرنسية وأولها السعي في مساواة المواطنين كلهم، على اختلاف منابتهم الاجتماعية ومواطنهم، في تحصيل مشترك وموحد. فالمدرسة، أي المؤسسة والهيئة، لازمت ارادة الجمهوريين الفرنسيين إنشاء مجتمع يقوم على مساواة المواطنين في المواطنية أو المواطنة، بديهة، وعلى مساواتهم في البصيرة والتنور والمسؤولية مهما اختلفت أحوالهم ومراتبهم الاجتماعية. وعلى هذا أوكلت الدولة، المتحدرة من الثورة "الكبرى"، إلى التعليم والتربية اللذين أوجبتهما عامّين وعلمانيين ومجانيين وموحدين، تنسيب الأولاد منذ نعومة أظفارهم الى أمة سياسية، غير قومية ولا عنصرية، تتولى المدرسة الابتدائية من طريق مدرِّسها "متعبد الجمهورية" ومنهجها تأديب الأولاد الفرنسيين بآدابها وقيمها الجامعة والمشتركة. فكانت المدرسة، مكانة وثقافة وإدارة وتمويلاً، من الخلاف السياسي والتاريخي والأهلي الفرنسي بمنزلة القلب. واتصلت "المشادة المدرسية"، أو "المسألة المدرسية"، بين العلمانيين وخصومهم من أنصار التعليم الكاثوليكي والأهلي الخاص، منذ نيف وقرنين. ولم تهدأ إلا في العقد التاسع من القرن العشرين، غداة ولاية فرنسوا ميتران، الاشتراكي، الأولى. ولكنها ترتدي، اليوم أي منذ نحو العقدين، حلة جديدة. فليس خصوم العلمانيين الجمهوريين - وهم أنصار المدرسة العامة ودعاة توليها دمج الفرنسيين "القدماء" و"الجدد" من أولاد المهاجرين على قدم واحدة - أهل الكثلكة، ولا أنصار المدرسة الخاصة التي يقوم عليها الرهبان والراهبات أو الجمعيات الأهلية والأفراد، بل الخصوم هم "الديموقراطيون". وينسبهم بعض خصومهم الى الأنغلو-سكسونية، أو الليبرالية البريطانية، وإلى الأمركة، ويرمونهم اليوم بالعولمة والانتصار لها. ومهما كان من شأن التسميات، وإضمارها التهم والظنون، فالمنازعة والمناقشة تدوران، على وجه التقريب، على مسائل تدخل تحت بابين أو وجهتين: باب يغلِّب تلقين كل التلامذة، الى عتبة المرحلة الثانوية وفروعها وشُعَبها، "علوماً" واحدة ومشتركة لا تمييز فيها بين الطريقة والنهج وبين المضمون والقيم والأحكام، وباب آخر يقدّم تكييف التعليم، طرائق ومضامين، مع قدرات التلامذة، الموروثة من بيئات اجتماعية وثقافية مختلفة، ومع ميولهم. فيذهب الجمهوريون الى ان تجديد تدريس التاريخ ينبغي ألا يضعف المثاقفة المدنية والوطنية الفرنسية، وهي تقوم على استعادة مراحل التكوين الوطني و السياسي استعادة غائية تتوجها الثورة، وتترجم عنها الجمهوريات البرلمانية، ولا تكدر صورتها أو تلطخها المنازعات الأهلية الدموية ولا حروب الفتوح والتسلط بأوروبا وبغيرها من قارات العالم القديم والعالم الجديد. وبإزاء هذا المثال تتصاغر، على زعم الجمهوريين، المسائل المنهجية من نحو التنبيه على كثرة الروايات للحادثة الواحدة، أو التدريب على صوغ رواية من مواد متفرقة ماثلة ومعاصرة مصادرها الصحافة المكتوبة، ونشرات الأخبار المتلفزة، وأخبار شفهية انتهت الى التلامذة من أقرباء وأهل وجيران...، أو تقسيم البلدان وتواريخها بحسب معايير غير سياسية أو وطنية مثل طرائق الزراعة والموارد الغذائية والمواصلات وآلاتها أو مثل الشعائر المقارنة والأفكار الدينية والعادات الجنسية... فهذه، وغيرها مثلها، ليست شأن الأولاد وهم في طور التنشئة، بل هي شأن أهل الاختصاص ومحترفي الصناعة صناعة التأريخ. وعلى المثال نفسه، أو قريباً منه، يظن الجمهوريون الظنون القاتمة في إرساء تدريس الطبيعيات على أعمال اختيارية تُدخل علوماً مختلفة بعضها في بعض، وتفترض استلحاقاً نظرياً يتولاه بعض أهل التلامذة من المتعلمين والميسورين على حين يعجز عنه آخرون. وإلى هذا التفاوت، ينشأ تفاوت آخر مصدره التجهيز المدرسي. فمدارس المدن الكبيرة والمزدهرة أقدر على تحصيل تجهيزها من مدارس المدن الصغيرة والقائمة في بلاد آفلة الإقتصاد، ناهيك بحال بلدات الأرياف النازفة السكان. وينكر الجمهوريون على التدريس الإختباري والآخذ من أكثر من مادة واحدة بطرف المختلط المواد انحرافه "الأميركي" عن تقليد فرنسي أرسى العلوم الطبيعية على ركن عقلي ونظري، وأدخل التجريب تحته وألزمه بالإحتكام إليه. ويأتلف من نقد المناهج الجديدة نقد جامع يوحد الملاحظات الجزئية على رأي مشترك. فإدارة التدريس عموماً على الإختبار العلمي واللغوي والإجتماعي السياسي لا مناص لها لإدارة التدريس من إنزال الولد الفرد، وميوله وقدراته وملكاته وملاحظاته، محل المركز من التربية والتعليم. وإلى هذه المكانة يدعو ملهمو المناهج الجديدة - وفيهم بعض أصحاب جائزة نوبل للفيزياء والكيمياء والطب وفي صف الخصوم أصحاب نوبل كذلك وبعض كبار الرياضيين المعاصرين من الحائزين على ميدالية فيلد - من الديموقراطيين صراحة وجهاراً. وهم يدعون إلى تدبر دور المدرسة في ضوء أطوار المجتمع الجديدة. فالصفوف الثانوية يبلغها اليوم نحو ثمانين في المئة من فئة الأولاد الذين صاروا في السادسة عشرة، نظير عشرين في المئة قبل ربع قرن" ويضعف هذا المجانسة الثقافية في الصفوف إضعافاً يتعذر معه التوجه على تلامذة الصف وكأنهم "رجل" واحد" ويصدر التلامذة عن أوساط اجتماعية يعاني معظمها من وهن دالَّة الأهل وسلطتهم، ويتصل هذا الوهن في الصفوف وإليها، ويعترض عمل التدريس وانضباط التلامذة" وفي أثناء ربع القرن المنصرم تبوأت التلفزة مكانة متصدرة، لعل من نتائجها ضعف القدرة على جمع الذهن والانتباه، وتفرق الذهن طرقاً شتى، وسلوكه إلى غاياته مسالك متعرجة ومتشابكة" وفي الأثناء كذلك غلب البحث العلمي تحصيل نتائج تقنية وصناعية، واقتصادية تالياً، من أي وجه كان، على التماسك النظري والتمحيص المنهجي. ويخلص الديموقراطيون من ملاحظة هذه الشروط والوقائع إلى ضرورة تثبيت التعليم والتربية على ركن الولد الفرد والجمهور المبعثر والمتناثر الذي يجتمع من أولاد أفراد. ويخالف هذا المذهب الإرادوية الجمهورية. فهذه تنيط التوحيد والإشتراك والمساواة بإرادة سياسية وطنية، وتعوِّل على تعظيم "الوسائل" من مدرسين وإعداد وتجهيز وزيادتها في سبيل بلوغ المساواة مهما قويت عوامل التفريق والتفاوت. ويشمل الخلاف دور الدولة. فيميل الديموقراطيون الى تحميل الأقضية والمحافظات والمناطق أعباء المراحل المتعاقبة من التعليم، على أن ترعى الإمتحانات الوطنية، والشهادات، وحدة المعايير. ويقصر الجمهوريون معالجة هذا الشأن، الوطني والسياسي في المرتبة الأولى، على عنوان السيادة وقلبها، أي على الدولة ووزارتها المختصة. ويتطاول الخلاف إلى دور النقابات المهنية، وإلى تمويل التجديد التربوي وتبعاته من وقت المدرسين وساعات أنصبتهم. واختصار المناقشة إلى قطبين ومذهبين، وإن صدق، فهو يُغفل مواقف وآراء كثرة من المدرسين تترجح بين القطبين والمذهبين، وتأخذ من كليهما بوجه أو رأي أو حكم. ويغفل الإختصار إسهام عشرات الألوف من المدرسين في نشراتهم المختصة ومقالاتهم ورسائلهم وتوصيات ندواتهم واجتماعاتهم وفي دوراتهم المهنية ونقاباتهم وأحزابهم وروابطهم الأهلية واستفتاءاتهم وتظاهراتهم. وهذا الإسهام الكثير الوجوه والمسالك هو ضمان إفضاء المناقشة والمنازعة - فالمناقشة مناطها على المنازعة والاختلاف وليست احتكاماً إلى أفكار مجردة - إلى حلول وأجوبة مركبة ومناسبة تعصى الكم وإطلاقه وإجماله. وهي مناسبة لأنها مركبة وثمرة منازعة. * كاتب لبناني.