تناشد شرعة «اليونسكو»، منذ نصف قرن، من يعنيهم الأمر تأهيل المعلمين تأهيلاً عالياً، أي جامعياً، واستعمال مناهج حديثة (الكتب، ووسائل الإيضاح المدرسية، والتكنولوجيا الجديدة) في التعليم. ومؤدى المناشدة تبني النموذج المدرسي والتربوي الغربي على وجه السرعة. وفي مؤتمر دكار (السنغال) في العام 2000، التزمت 164 دولة إنجاز المراحل المدرسية كاملة ومجاناً ومن مستوى جيد لكل الأولاد، والبنات على وجه الخصوص. ويحار المراقب في ال15 سنة المتاحة لجعل التعليم عاماً ومجانياً وإلزامياً، بينما لزم أوروبا فوق قرن كامل لبلوغ الهدف المعلن. وأصحاب هذه الدعوات يحسبون محو الأمية، أو تعلم القراءة والكتابة، «تجهيزاً» يعطاه السكان على غرار توزيع البذار والأسمدة على المزارعين. ولا تنفك «اليونسكو»، في الوقت نفسه، تنبه الى أن تعليم الأولاد مبادرة ثقافية تخلخل بنيان العلاقات الأسرية والاجتماعية كله. والتزام دكار هو دعوة الى الكذب تسويغاً لدوام المساعدات المالية. وأرقام التلاميذ المتعاظمة والمتزايدة تتستر على وقائع مغايرة. ولا يحتاج الواحد الى السفر الى باماكو كي يفهم أن التسجيل في المدرسة وارتياد الصف يومياً أمران متباينان. والأولاد الذين يرتادون الصف أعواماً لا يبلغون كلهم المستوى المدرسي المنشود. ففي فرنسا، يُعد 15 في المئة من تلاميذ الشهادة الابتدائية، أو الصف الابتدائي السادس، أميين. ولا تزال المناقشة التربوية تدور على التعليم من طريق النهج الإجمالي أو من طريق تهجئة حروف الألفباء، من غير قرار تقر عليه المناقشة. وهي قديمة وتعود الى 1920. وعلى هذا، يسأل أهل التلاميذ: ماذا يصنع المعلمون؟ وما يصنعه المعلمون، والمدرسة معهم، يتعلق من وجوه كثيرة بالوقائع الاجتماعية والثقافية المستجدة، وبصلة المدرسة بالوقائع هذه. فالمناهج التي كانت المدارس الابتدائية الفرنسية تدرسها في خمسينات القرن العشرين، اقترحها الفيلسوف بول لابي في 1923. وفي صفي، يومذاك، كنا نقرأ في كتاب ألفه الكاتبان ليونيه ووبيسيج، وطبع في 1930، حكايا تتناول الصيد والمطر والثلج. وكانت الحكايا هذه صدى أميناً لوقائع الحياة في منطقة السافوا، حيث ولدت ونشأت. وعندما شغلت وظيفتي الأولى معلمة في دار إعداد معلمين في المرحلة الابتدائية، في السبعينات، كان على طلابي التدريس في مدارس - ثكن (أو ثكنات عسكرية) على غرار تلك التي وصفها فردينان أوري، ولم أصدِّق أن الفرق بين المدرستين، أو النظامين المدرسيين والتعليميين، شكلي، ولا أن الفرق لا يتناول تعليم القراءة والثقافة المدرسية والعلاقة بالسلطة والتصفية بواسطة الإخفاق (أو السقوط في الامتحانات). وكانت أرقام معهد الدراسات السكانية تظهر علاقة توارد وتواشج بين الإخفاق المدرسي وبين مستوى التلاميذ الاجتماعي. وذهب دارسو الاجتماعيات الى أن المدرسة نظام يتولى دوام الأحوال الاجتماعية والثقافية على ما كانت عليه أو قسمة الأولاد على مرتبتين متفاوتتين، بينما يحسب النظام التربوي والتعليمي أنه عامل جمع وتوحيد وتمهيد. والى التسعينات، اقتصرت الإحصاءات والدراسات الاجتماعية على العوامل غير المدرسية، أو المؤثرة في المدرسة من خارج، ولم تتناول أفعال التدريس في المدرسة والصفوف، ولا تأثيرها في التعليم والتعلم. وأنا كنت أضطلع بتأهيل معلمين مقبلين على تعليم تلاميذ. ويقتضي تأهيل المعلمين وإعدادهم تجريد حيزهم المتاح والخاص الذي يتصرفون فيه وبه، وتخطيط الفسحة التي يتيح التأهيل الرواح والمجيء فيها. فرغبت في دراسة المعاملات والأفعال الصفية والتعليمية. ودراسة هذه تختلف عما اعتاد أساتذتي دراسته، أي مضمون النظريات ومادة الأفكار المدرَّسة في المقررات. وعلى هذا، صارت اختيارات التعليم مادة معرفة تامة، ومصدر «آداب صنع» قد لا يتناولها التعليل النظري، ولا يعتني بأسسها وأسبابها. والحق أن فصل المعرفة من العمل والفعل حال بين الدارسين وبين تعليل الأداء التربوي والتعليمي ومعاملاته. وميشال فوكو نفسه ضيع وقتاً طويلاً قبل الخروج مما سماه انسداداً. وهو خرج من الانسداد حين ترك تاريخ المفهومات الى تاريخ الترتيبات التي تفضي الى «موازين قوة بين المعارف» وتنشئ أواصر ووشائج عملية وعينية بين «عناصر غير متجانسة بعضها معارف وبعضها الثاني سلطة وبعضها الثالث مؤسسات والرابع أدوات». ولعل استعمال الدفاتر (الكراسات) المدرسية قرينة على ضعف التجانس هذا - وعندما يخص التلاميذ مواد التدريس والتمارين المنفصلة، مثل الإملاء والنحو والرياضيات (محل الحساب) والهندسة والجغرافيا، بدفاتر أو بأبواب وأجزاء من دفاترهم، فإنهم يستبطنون ترتيباً أو تقسيماً للمواد يضمر علاقات في ما بينها، ويقر بعضها على مرتبة أو مراتب وينفي بعضها الآخر من المرتبة. فليس بين دفاتر الصف الفرنسية واحد يقفه التلاميذ على الدين أو الأخلاق، وترتيب المواد يقدم مادتي الرياضيات واللغة (الفرنسية) على سواهما من المواد مثل مادة علم الحياة. وهذه، بدورها، تتقدم التربية البدنية. ويؤدي الترتيب المحسوس والعملي والمتواضع هذا دوراً ثقافياً، ولا يقتصر على دوره المادي. وفي هذا الإطار ينبغي تمييز الإرشاد المعياري من صور الأداء العملي، ودراسة معاني السلطة التي تستبطنها نصوص القراءة، واستخراج دلالة تمييز الوجه الاستراتيجي (الكتابة) من الوجه التكتي (القراءة). ولا يزال انقطاع التعليم الابتدائي من المرحلتين المتوسطة والثانوية، قائماً على رغم تجاوز عدد تلاميذ المرحلتين هاتين عدد تلاميذ المرحلة الأولى. ومدرسو المرحلتين يعرِّف اختصاص المواد هويتهم المهنية، فهم مدرسو هذه المادة أو تلك، في هذا الصف أو ذاك، وفي هذه الحصة من الساعات أو تلك. ويجمع اختصاص المادة مدرسيها، على نحو ما يفرقهم من زملائهم مدرسي مادة أخرى. ويشترك مدرسو المواد في نهج تدريس يخصص موادهم، ويميز تعليمها من تعليم المواد الأخرى. والترتيب هذا أو التقسيم هو وليد أوقات تاريخية. وبعض المواد الجديدة، مثل العلوم الاقتصادية والاجتماعية، دخل المناهج والمقررات منذ أعوام قليلة. ومع التقسيم، ورث التعليم قران مواد بعضها ببعض آخر. فقرنت الفيزياء بالكيمياء، ولم تقرن الرياضيات بالفيزياء، على ما هي الحال في مناهج بعض البلدان. وقرن التاريخ بالجغرافيا في المناهج الفرنسية. وإرساء الهوية المهنية على مواد الاختصاص يربط التدريس بمضمون المواد. وهذا قد يخالف الأداء العملي. فالأداء يقرر صوره ومنحاه الى حد بعيد ثقل تحضير المواد الدراسية، وتصحيح الاختبارات، وعدد الصفوف التي يدرس فيها المعلم. فالمعلم الواحد يتولى تدريس اللغة في 4 صفوف أو 5، ويتولى مدرس مادة الموسيقى 18 صفاً. وهذا قرينة على موازين القوى بين المواد. وعلى خلاف الصفوف المتوسطة والثانوية يحمل تدريس الصفوف الابتدائية والحضانة على بناء «هوية مهنية» على مثال آخر. فمعلم الصفوف الابتدائية متعدد الاختصاصات والمواد حكماً. فهو «معلم صف». والصف هو «صفه». ومعلمون كثيرون يختارون التعليم الابتدائي طلباً للاضطلاع بصف كامل، على قدر ما ينشدون التخفف من صعوبات العمل مع المراهقين. فالمعلم الذي يتولى المسؤولية عن حيز ومكان هو الصف، ويتدبر وقتاً طويلاً هو النهار المدرسي، يعوِّل على استثمار موارد عمل غنية. فإذا شاء التجديد وسعه التجديد، وإذا أراد مقاومة التجديد وسعته المقاومة. وتقابل الاختصاص والعموم هو صنو تقابل تعليم الصف وتدريس المادة. * أستاذة محاضرة في المعهد الوطني للبحث التربوي، نشرت في 2007 كتابها «المدرسة والقراءة الإلزامية»، عن «إسبري» الفرنسية، 1/2010، إعداد وضاح شرارة