المظروف الذي جاء به البريد أخيراً الى مسكننا في بلدة شارلوتزفيل في ولاية فرجيينيا كان معنوناً الى "الساكن". والعادة هي رمي هذا النوع من الرسائل جانباً لأنها لاتحمل سوى اعلانات لا قيمة لها. لكن لم يكن لنا أن نعامل هذا المظروف بالطريقة نفسها، لأنه كان يحمل استمارة الاحصاء السكاني الذي تجريه السلطات في انحاء البلاد. وكررت لنا الرسالة المرافقة التنبيه الذي حملته وسائل الاعلام باستمرار في الأيام الأخيرة، الى أن القانون يلزم الكل ملء الاستمارة واعادتها الى "مكتب الاحصاء". ولهذه العملية نتائج مهمة سياسياً: لأن تمثيل الولاية في مجلس النواب في الكونغرس قد يزيد أو ينقص حسب عدد السكان في الاحصاء، كما ان العدد يحدد مقدار التمويل الفيديرالي لبناها التحتية. الاستمارة الأصلية بسيطة، لا تتعدى تدوين جنس وعمر واثنية وعرق أو عنصر كل من سكان المنزل. لكن قضية الاثنية والعرق ليست بسيطة في أميركا. واعتقد انني ذكرت من قبل انني لم أدرك الاّ بعد سنوات من قدومي الى الولاياتالمتحدة أن الأميركيين عندما يتكلمون عن "العرق" يعنون شيئاً مختلفاً تماماً عمّا تعنيه الكلمة في مجتمعي الأصلي في انكلترا. وشكّل هذا الفارق في معنى الكلمة أساس الخلاف بين الأميركيين وبقية العالم على قرار الأممالمتحدة الذي دان الصهيونية بكونها "عنصرية". ذلك ان المعنى الأميركي للعنصر أو العرق لا يتجاوز "لون البشرة". فيما يستخدم البريطانيون، والعالم الناطق بالانكليزية عدا الأميركيين، الكلمة لتحديد أي نوع من الفوارق بين الأمم. وبامكاننا تبعاً لذلك وصف الفرنسيين مثلاً بأنهم "عرق" أو "عنصر" معين. من هنا، فعندما أصدرت الأممالمتحدة القرار الذي دان الصهيونية ب"العنصرية" سارع الاسرائيليون الى استقدام عدد من اليهود الاثيوبيين الى اسرائيل وأقنعوا غالبية الأميركيين بأن المشروع الصهيوني لا يميّز بين البشر بناء على لون البشرة، وهو بالتالي ليس عنصرياً. ولم يدرك الكثيرون من البريطانيين وغير الأميركيين الفارق بين معنى العرق أو العنصر لديهم والمعنى الذي استخدمه الأميركيون والاسرائيليون وقتها. أما ما يعنيه البريطانيون وغيرهم عندما يتحدثون عن "العرق" فقد اعتاد الأميركيون تسميته "الاثنية". أي أن الأميركيين البولنديين مثلاً ينتمون الى "الاثنية" البولندية وفي الوقت نفسه الى العرق الأبيض. أقول هذا استطراداً، لأنني أردت الحديث عن استمارة الاحصاء الجديدة هذه مدخلاً الى موضوع أشمل هو التغير في تركيبة السكان في أميركا. والجديد في الاستمارة هو انها تسمح للسكان، للمرة الأولى، بتحديد أكثر من صفة واحدة جواباً للسؤال عن "العرق"، وتعرض الخيارات ال15 الآتية: أبيض، أسود أو أميركي أفريقي أو نيغرو، هندي أميركي أو من سكان الاسكا الأصليين، هندي آسيوي، صيني، فيليبيني، ياباني، كوري، فيتنامي، سكان هاواي الأصليين، غواماني أو تشامورو، ساموي، غيره من سكان جزر المحيط الهادي، غيره من الآسيويين، و"عرق آخر". ان علينا ان نجيب عن هذا السؤال، اضافة الى سؤال منفصل عما اذا كان كل منا "اسباني/ناطق بالاسبانية هسباني /لاتينو"، واذا كان الجواب نعم فمن أي مجموعة من اللاتينو. لا اعرف كيف يجيب الأميركي العربي عن الاسئلة!. السماح الجديد بالاجابة بأكثر من صفة واحدة للعرق قد يؤدي الى الكثير من التعقيد، بسبب النسبة العالية من الزيجات المختلطة بين الأعراق، وبالتالي النسبة العالية من الأميركيين من خلفيات عرقية متعددة. لكن من المثير للاهتمام أيضاً في الاستمارة الجديدة، بتركيزها على الحصول على معلومات مفصلة عن الناطقين بالاسبانية والآسيويين، هو مدى التغيّر العرقي والاثني في تركيبة أميركا السكانية خلال العقود الأخيرة. إذ كانت القسمة الرئيسية الحادة سابقاً ما بين البيض والسود غالبيتهم ينحدرون من العبيد، مع بقايا متناثرة من السكان الأصليين لا يزالون في أسفل السلم الاجتماعي. أما الآن فقد غطى عليها خليط بالغ التنوع من المجموعات العرقية والاثنية. التشبيه الذي كان يستخدمه الأميركيون البيض لعملية استيعاب المجموعات الجديدة من المهاجرين كلهم من "البيض"، مثل البولنديين والايطاليين هو "التذويب". وكان يتوقع من هؤلاء تعلم الانكليزية ومسايرة الاعراف وقواعد السلوك السائدة، وأن من الأفضل لهم الانتشار في انحاء البلاد وليس التجمع في مناطق معينة. لكن أكثر ما "ذاب" في الاناء كان ثقافات وتقاليد المجموعات الجديدة. رغم تبني الأميركيين في احيان كثيرة أساليب الطبخ لدى تلك المجموعات، ومن هنا التنويع الكبير حالياً في المطبخ الأميركي، بدل بقائه تحت تأثير المطبخين الانكليزي والألماني. لكن نموذج التذويب لم يعد ينطبق على الواقع خلال العقدين الأخيرين، إذ اكتسبت الثقافات والتقاليد العرقية والاثنية في شكل متزايد ثقة جديدة بالنفس، وسعت الى المحافظة على ذاتها وتأصيلها في الأجيال الجديدة الأميركية الولادة. والتشبيه الأكثر انتشاراً للمجمتع الأميركي الآن هو "السلطة المخلوطة"، حيث لا يتوقع من المكّونات المختلفة ان تذوب أو تنصهر في مجموع موحد بل تبقى محافظة على شكلها الخاص ونكهتها المتميزة وتساهم من خلال ذلك في النكهة العامة للمجموع. ونجد في طليعة المقاومين ل"الاذابة" الكاملة الأميركيين الناطقين بالاسبانية الهسبانيين الذي يشكلون ما يقل عن عشرة في المئة من السكان، لكن يتوقع لهم تجاوز 25 في المئة خلال الجيلين المقبلين. وهناك نوع من الانصاف التاريخي في هذا، لأن جذور الثقافة الهسبانية في المناطق التي تقع حالياً ضمن الولاياتالمتحدة أقدم بكثير من المجتمعات الناطقة بالانكليزية هناك. بل أن معاهدة غوادالوبي هيدالغو في 1848، التي تنازلت المكسيك بموجبها عن سيادتها على تكساس والكثير من مناطق الجنوب الغربي، ضمنت للسكان استمرار الاسبانية لغة للتعليم والمؤسسات العامة. ولم يُلغ هذا الحق الا بعد توافد موجات جديدة من المستوطنين الناطقين بالانكليزية على تلك المناطق. لا يمكن، اذاً، نظراً الى أسبقية المجتمعات الناطقة بالاسبانية على المجتمعات الانكلوسكسونية، ادراج الأولى في القصة العامة للاقليات الأميركية التي تدور في معظمها على "الهجرة" و"المهاجرين" - كما في حال الأميركيين البولنديين أو اليهود أو الايطاليين على سبيل المثال. كما ان المجتمعات الهسبانية تضم الكثيرين من الهنود الأميركيين أو ذوي الأصل الهندي الاسباني المختلط. ونجد الى هذا اليوم ان وجوه الكثيرين من المهاجرين من الدول الهسبانية، مثل المكسيك ودول أميركا الوسطى، تنم عن أصلهم الهندي الأميركي، ويتكلم كثيرون منهم واحدة أو أكثر من اللغات الهندية اضافة الى الاسبانية وبعض الانكليزية. ويشكل هؤلاء عادة الفئات الأفقر من المهاجرين، الذين يقومون بالأعمال الشاقة المرفوضة من جانب الآخرين، مثل العمل ساعات طويلة في مطابخ المطاعم أو قطف الطماطم أو تنظيف المكاتب. ولا بد أن الكثيرين من هؤلاء، الذين كان اجدادهم يتنقلون بحرية بين المناطق الجنوبية مما يعرف الآن باسم "الولاياتالمتحدة"، يجدون في فكرة اقامة "حدود" يرسمها ويشدد حراستها ابناء الجالية البيضاء التي جاءت متأخرة نسبياً، غرابة لا تقل عن تلك التي في محاولات اسرائيل ابقاء اللاجئين الفلسطينيين خارج حدودها. وهكذا فإن الجاليات الناطقة بالاسبانية ذات الجذور القديمة في أميركا كانت المبادرة الى كسر الاحتكار اللغوي الذي تمتع به الى عهد قريب الناطقون بالانكليزية. وتشهد الثقافات الهسبانية في انحاء البلاد ازدهاراً كبيراً. واذا نظرت الى دليل الهاتف في المدن الأميركية الكبيرة تجد ان المعلومات في المقدمة ليست بالانكليزية فقط بل بالاسبانية والصينية، واحياناً بلغات أخرى. اذا كان الأميركيون الهسبانيون مهّدوا للتعددية الثقافية فقد مهّد الأميركيون الاسرائيليون لتعددية الجنسية. وكان على طالبي المواطنية الأميركية الى عهد قريب التخلي عن كل مواطنية اخرى. وأثار هذا معارضة شديدة من المهاجرين الاسرائيليين الذين جاؤوا الى الولاياتالمتحدة منذ الستينات وكان لهم من النفوذ السياسي ما يكفي لالغاء هذه القاعدة. ونرى الآن الكثيرين من الأميركيين يصرحون بحملهم مواطنيات اخرى. كما ان التقدم في المواصلات والاتصال يمكّن المواطنين الأميركيين الجدد من السفر بحرية الى بلادهم الأصلية بدواعي العمل أو شؤون العائلة، وهو تغير كبير عمّا كانت عليه الحال سابقاً. اذاً، هناك تحولات كبيرة في تركيبة أميركا السكانية. لكن ما الذي لم يتغيّر؟ اذا كانت هناك تغيرات في النخب البيضاء الناطقة بالانكليزية بفعل تدفق اقوام اخرى، فإن مجموعتين سكانيتين كبيرتين بقيتا على حالهما في أسفل السلم الاجتماعي. الأولى هي الأميركيون الأفارقة، الذين لم يأت اجدادهم طوعاً الى هذه البلاد، والثانية هي الأقوام الهندية الأميركية، التي لها تاريخها المرير أيضاً مع الوضع السائد الذي أقامه "المهاجرون" منذ وفودهم على البلاد. * كاتبة بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الاوسط