يثير التعداد السكاني الذي بدأ منذ شهر مارس (آذار) في الولاياتالمتحدة تخوفاً لدى علماء الاجتماع وعلماء النفس والسياسيين على حد سواء، خصوصاً عندما سيُظهر في نهاية شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام الحالي، نسبة النمو المتزايدة للأميركيين الناطقين باللغة الإسبانية (Hispanics) والذين بدأوا، بحسب تعبير عدد من المراقبين، بتغيير وجه الأمة الأميركية بملامحهم وبتلوينها بلغتهم، وبعاداتهم وبتقاليدهم التي بدأت بالإنتشار منذ القرن السابع عشر لتتركز وتتموضع في عدة ولايات، وخاصة في تلك الجنوبية المتاخمة للحدود المكسيكية، وتسرّبها إلى الداخل الأميركي، خصوصاً نيويورك وتكساس وإيلينوي وفلوريدا. قد يعتقد كثيرون أن هجرة الناطقين بالإسبانية إلى الولاياتالمتحدة، حديثة وهي تمثل آخر مجموعات المهاجرين، وقد يكون ذلك بسبب الاهتمام الصحافي والإعلامي في شكل عام الذي حظوا به عقب الإحصاء الذي أجري في عام 1980، وأظهر أن مجموعة الناطقين بالإسبانية، هي الأسرع نمواً في المجتمع الأميركي، ما أعطاها لقب «أكبر أقلية» اميركية بين المجموعات الإثنية الأخرى التي تشكل المجتمع. وعزا كثيرون هذا النمو إلى الهجرة، وتناسوا التاريخ الطويل للناطقين بالإسبانية في الولاياتالمتحدة خصوصاً عندما كانت الحدود بين المكسيكوالولاياتالجنوبية مفتوحة في شكل تسمح فيه للعبور السهل وللعمل وللإقامة من دون أي عائق او مساءلة. ويؤكد المؤرخون انه عندما تأسست مدينة بلايموث الأميركية في ولاية ماساتشوستس في عام 1620 كانت مدينة سانتا في (Santa Fe) عاصمة ولاية نيو مكسيكو تحتفل بعقدها الأول ومدينة سانت أوغوستين (St. Augustine) بالذكرى الخامسة والخمسين لتأسيسهما، ما يؤكد على قدم تراث الناطقين بالإسبانية في الولاياتالمتحدة، وتمدده ونموه في ما بعد في جنوب غرب البلاد وعلى ساحل خليج المكسيك وفي شبه جزيرة فلوريدا. ويعود كثيرون من المتكلمين بالإسبانية بجذورهم إلى تلك الحقبة من الزمن. التعداد والتسمية والانتشار في إحصاء عام 1950 بالكاد بلغ عدد الناطقين بالإسبانية في الولاياتالمتحدة أربعة ملايين مواطن، أما اليوم فتجاوزوا الخمسين مليوناً، نصفهم من المكسيك، والنصف الآخر من عدد من الدول الناطقة بالإسبانية والتي حددها مكتب الإحصاء الفيديرالي ب19 دولة، أهمها السلفادور وجمهورية الدومنيك ووكولومبيا وهذا مع عدم الأخذ بعين الاعتبار سكان بورتوريكو الذين منحوا الجنسية الأميركية عام 1917 عقب التوسع الأميركي في القرن التاسع عشر. وأطلقت الحكومة عام 1970 تسمية «الهيسبانيون» (Hispanics) على كل المولودين في الدول الاميركية الناطقة بالإسبانية، أو اولئك الذين يعودون بجذورهم إلى إسبانيا أو الدول التي كانت تحت سيطرتها. وبحسب مكتب الإحصاء الفيديرالي فإن 36 في المئة من «الهيسبانيين» يعيشون في ولاية كاليفورنيا، وتتوزع الولايات الأخرى مجموعات مهمة منهم، وعلى الأخص، كما أشرنا أعلاه، في ولايات نيويورك وتكساس وأريزونا وإيلينوي وفلوريدا حيث يقطن مئات الآلاف من الكوبيين الذين فرّوا من بلادهم بعد إطاحة حكم باتيستا وتولي فيديل كاسترو والشيوعيون السلطة في عام 1959. ويحافظ الملايين الخمسون على عاداتهم وتقاليدهم ولغتهم في المجتمع الأميركي، على رغم كل ما يغري بالانخراط أو الاندماج، ما أرغم مؤسسات خاصة وحكومية على التوجه إليهم بلغتهم، إضافة إلى الإنكليزية لغة البلاد. لذلك، ليس غريباً وأنت تتجول في شوارع المدن الأميركية أن تسمع محادثات باللغة الإسبانية، وهي السائدة في ميامي، حيث إن كبرى صحفها The Miami Herald تصدر عدداً يومياً بطبعتين واحدة بالإنكليزية والثانية بالإسبانية، وهي المحكية في لوس أنجليس وفي مناطق الحدود مع المكسيك، والمكتوبة على جميع أجهزة الصرف الآلي في الولاياتالمتحدة، ما اعتبره كثيرون تهديداً للثقافة والتراث الأميركيين. النمو والمحافظة على التراث ويقول علماء الاجتماع إنه من المرجح أن يتنامى نفوذ «الهيسبانيين» تنامياً متزايداً في الولاياتالمتحدة، وذلك لأسباب سكانية ومالية وسياسية. فعلى الصعيد السكاني فإن غالبية المواطنين ذي الأصول الإسبانية ينتمون إلى الديانة الكاثوليكية، الذين لا يزال مجملهم يحافظ عليها وعلى التقاليد العائلية وخصوصاً في الإنجاب، إذ أظهرت التقارير الإحصائية أن معدل عدد أفراد العائلة من الأصول الإسبانية هو خمسة أشخاص، بينما المعدل الأميركي العام هو 3 فقط. وتشير التقديرات إلى أن عدد هؤلاء سيصل إلى 105 ملايين خلال الأعوام، وهم يحرصون على الحفاظ على التعاليم الكاثوليكية واللغة الأم، وينشطون على الصعيد الثقافي في شكل ملحوظ من خلال المدارس والمسارح والكتابات الأدبية والإذاعة والتلفزيون. وقد برز عدد كبير منهم في الموسيقى والفن والتمثيل مثل، كريستينا أكييرا ومارك أنطوني وجوان باغز ودادي ينكي، غلوريا أسطفان (كوبية من أصول لبنانية) وجنيفر لوبيز، جيسيكا ألبا، كاميرون دياز، أندي غارسيا وإيفا مانديس، وغيرهم... وقد فاز الكاتبان الأميركيان باللغة الإسبانية اوسكار هيغولوس في عام 1990 وجونوت دياس في عام 2008 بجائزة بوليتزر الأدبية، وهناك أسماء أميركية كثيرة ذات أصول اسبانية حظيت بالشهرة الأدبية في الولاياتالمتحدة. أما على الصعيد المالي فإن دخل هذه المجموعة القابل للصرف يقدّر اليوم بحوالى 700 مليار دولار. وبحسب التعداد السكاني فإن غالبية الهيسبانيين يتكلمون اللغة الانكليزية بطلاقة، ولكن هذا لم يمنع خبراء التسويق من أن يعتبروا اللغة الاسبانية سبيلاً للانفتاح الكامل على السوق الغنية لذوي الأصول اللاتينية، وتنفق الشركات الأميركية حوالى ثلاثة مليارات دولار على الإعلان باللغة الإسبانية. وسياسياً يمثل الهيسبانيون اليوم عشرة في المئة من أعداد الناخبين في الولاياتالمتحدة ما يحسب له حساب لاجتذابهم وكسب أصواتهم، ويحاول الجمهوريون التقرب منهم أكثر من الديمقراطيين والأحزاب الأخرى، وخصوصاً في الجنوب الأمريكي حيث يعمد السياسيون إلى محادثتهم، أو ربما محاولة محادثتهم بلغتهم. وقد اعتمد الرئيس جورج بوش في سنته الأولى من ولايتيه، التحدث باللغة الإسبانية والإنكليزية في خطابه الأسبوعي للأمة الذي يوجه كل يوم سبت، ولكن هذا لم يصبح عادة مستديمة. ويشغل الأميركيون من أصول أميركية لاتينية مواقع عليا في الولاياتالمتحدة منهم رئيسة المحكمة العليا صونيا سوتومايور، ووزيرة العمل هيلدا سوليس ووزير الداخلية كين سالازار، وفور وصول الرئيس أوباما للحكم اختار 12 في المئة من أفراد إدراته من الهيسبانيين، وهناك 25 عضواً في الكونغرس، وأكثر من 5600 منتخب في مجالس الولايات والمدن الأميركية. هذا النمو العددي والانتشار التراثي والثقافي على مدى الولاياتالمتحدة، أخاف المحافظين الأميركيين، الذين باتوا يخشون أن تصبح الولاياتالمتحدة بلداً تهيمن عليه لغتان وثقافتان. وقد استدركت جماعة منهم، (US English)، ذلك منذ عام 1981 وبدأت بالضغط لاستصدار تشريع يجعل اللغة الانكليزية اللغة الرسمية للبلاد، معتبرين أن الولاياتالمتحدة توحدت بفضل لغة واحدة هي الإنكليزية التي كانت مفيدة لعملية الانصهار. ويخشى هؤلاء أيضاً من أن يتحوّل المهاجرون من أميركا من غالبية لامرئية تختبئ في ظلال المدن الأميركية إلى قوة مسموعة ومرئية كما قال الرئيس بوش. وترى هذه المجموعة ومجموعات محافظة أخرى أن الخطر يتجسد أيضاً في تسلل اللغة الاسبانية إلى كل المرافق الحياتية في الولاياتالمتحدة، خصوصاً على الأصعدة الإعلامية والثقافية ما سيلزم الأميركيين أن يتعلموا الإسبانية، بدل أن يتعلم المهاجرون لغة البلاد الإنكليزية ليندمجوا في المجتمع الجديد الذي استضافهم. ويضيف هؤلاء إنه في حال التغاضي عن إعلان وفرض الانكليزية لغة رسمية، فإن الجوانب الوظيفية والاقتصادية والمالية للناطقين بالانكليزية فقط ستتأثر سلباً. على المدى المنظور، سيحاول المحافظون الأميركيون الضغط للحد من انتشار الاسبانية لغةً ثانيةً في البلاد، بعدما أظهرت إحصاءات الأممالمتحدة أن عدد الناطقين باللغة الإسبانية في الولاياتالمتحدة يعتبرون أكبر خامس مجتمع ناطق بهذه اللغة في العالم. فهل يبدّل الهيسبانيون وجه الولاياتالمتحدة؟ * كاتب لبناني مقيم في كندا