استقرت العلاقات المصرية - الاميركية على نحو يصعب معه تقويضها في المدى القصير استجابة لحاجة موضوعية في التكوين الاستراتيجي للعالم المعاصر وموقع البلدين فيه، لكنها بقيت على رغم استقرارها علاقة بندولية تتأرجح دائماً مع حركة السياسة وعواصفها بين انفراج وتأزم، في دورات متعاقبة يحكمها تركيب جدلي استاتيكي لا يتطور كيفياً، ذلك لانها بقيت دوماً في إطار نمط "العلاقة" ولم تبلغ قط نمط "التحالف". ومع زيارة الرئيس حسني مبارك شبه الدورية لواشنطن ينطلق الجدل الفكري والسياسي حول هذه العلاقة وحدودها وتناقضاتها ونمط تطورها وكيفية تفسيره، وهو الجدل الوارد أيضاً في سياق هذه السطور. بداية، فإن التكوين العام الاميركي يتسم برؤية تجزيئية للتاريخ تعكس نوعاً من التشكك فيه ودرجة عالية من اللامبالاة به، فالولاياتالمتحدة تكوين تاريخي حديث العهد يفتقد للتقاليد التاريخية البعيدة ولديه في الماضي القريب والواقع الراهن والمستقبل المنظور حيوية دافقة تدفعه الى تصور العالم باعتباره فضاء ممتداً للمصلحة يبدأ وينتهي عند حدودها وتتحكم فيه ادوات تحقيقها، وليس باعتباره مجالاً لتفاعل ادوار وارادات ورؤى خاصة بالامم والثقافات التي تعيش هذا التاريخ. وهذه الرؤية بمكوناتها النفعية والانسانية الممتزجة معاً تزكي الرغبة الاميركية في تجاوز الابنية التاريخية القائمة على نحو مستمر وكأن حركة المواقع لديها هي وحدها القادرة وبشكل فائق، على إعادة تشكيل الحاضر وصوغ المستقبل حسب تأويل خاص للماضي يتجاوز عقده وهواجسه. وربما جاز القول إن تلك الرؤية التاريخية او اللا تاريخية بالأدق. كانت حافز الولاياتالمتحدة الى مشروعية تصور، ثم الى امكان تحقق نظام عالمي كان جديداً منتصف القرن العشرين على انقاض نظام بائد بفعل الحرب العالمية الثانية وضد منطقها ونمط تحالفاتها، وهو نظام الاممالمتحدة الذي دشنته في يالطا لتحقيق السلام العالمي، فإذا به ينتهي منطقياً الى نموذج الحرب الباردة. ثم كانت هذه الرؤية حافزها مرة اخرى لاطلاق صيحة النظام العالمي الجديد ضمن خطاب كوكبي شامل راح يتمحور حولها ككتلة تاريخية تحمل الخطاب وتمارس تجلياته في الاقتصاد والسياسة والاعلام وتسعى الى فرضه على الثقافة، فهي إذاً رؤية تقوم على، وتؤمن بأن الاحداث السياسية الكبرى قادرة على انتاج تواريخ جديدة وصوغ أبنية متمايزة عن ابنية الماضي. وضمن التكوين الاميركي العام برؤيته التجزيئية هذه للتاريخ توجد رؤية فرعية يمكننا تسميتها "بالاختزالية" ونسبتها تقريباً الى مركب اليمين الاميركي الصهيوني المحافظ الذي يضغط احياناً، وبشدة، على مصر. هذه الرؤية الإختزالية تذهب، ليس فقط الى الشك في التاريخ، ولكن الى كراهيته ايضاً، ومن ثم كراهية التكوينات ذات التقاليد التاريخية البعيدة وعلى رأسها مصر، فعلى العكس من الرؤية التجزيئية ذات الاسس الليبرالية والمعبِّرة عن روح الفلسفة البيوريتانية في التكوين الاميركي جسدها بعض الرؤساء الاميركيين وعلى رأسهم ايزنهاور وكارتر في ما يتعلق بمصر، استندت الرؤية الاختزالية الى أكثر الفلسفات البراغماتية تشدداً، وتجسدت في سياسات بعض الرؤساء الاميركيين مثال جونسون وريغان وبدأت في ممارساتها ضد مصر منذ الخمسينات وفي اعقاب اعلان دولة اسرائيل. وإذ كان رجل الاستخبارات الاميركي جيمس انغلتون هو صاحب خيار الرهان على اسرائيل منذ البداية في مواجهة الاعتدال الذي حاول ممارسته رجل الاستخبارات الاميركي، كيرمبت روزفلت، وكان لكل من الرجلين ركائز قوته في النخبة السياسية الاميركية. ومع بداية الستينات، كان اتجاه انغلتون انتصر، وبدأت الرؤية الاختزالية في ممارسة تقاليدها العدائية لمصر التي تم تعريفها بحسب هذه الرؤية باعتبارها "الآخر" للاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط. وعلى رغم التحول المهم في العلاقات المصرية - الاميركية منذ منتصف السبعينات عبر مركب الانتصار العسكري والنزوع الى السلام من قبل مصر والتأييد الاميركي لهذا النزوع، الا ان مصر ظلت في موقع "الآخر" في الاطار التكويني للاستراتيجية الاميركية حسب هذه الرؤية، وهو "آخر" قد تدفع تفاصيل الوقائع أو الاحداث الى صداقته والتعايش معه، لكنه يظل في التحديد النهائي "آخر" على رغم أن مصر بدت في اكثر من مرة اقرب الى التصور الاستراتيجي الاميركي من اسرائيل، وأكثر قدرة على تلبية متطلبات هذا التصور من الدولة العبرية، خصوصاً في حرب "عاصفة الصحراء" التي شهدت تحالفاً حقيقياً بين الطرفين في مواجهة طرف عربي هو العراق، ما اتاح الفرصة للانتقال بالعلاقة الى إطار تكويني آخر يعتبر مصر حليفاً، ولكن، ضاعت الفرصة سريعاً، وتم تفكيك التحالف عبر مظاهر عدة، اهمها الاهمال الدائم لوجهة النظر المصرية في الشأن العراقي، ثم رعاية الاتفاقات العسكرية بين اسرائيل وتركيا، وكان ذلك بين ترسيخ الاطار القديم الذي يعتبر اسرائيل الحليف الوحيد في المنطقة، وأن مصر زعيمة المعارضة العربية التي يتوجب احتواؤها. ومنذ بداية التسعينات لم تتوقف هذه الرؤية في قراءتها لجديد العالم في المفردات المتواترة التي تشكل لدى التكوين العام الاميركي ركائز صوغ العالم الجديد، لكنها تسعى الى اسقاط جديد العالم "التاريخ" على واقع العرب "السياسي"، إذ ترى وتستبطن ان العالم العربي انهزم بالضرورة امام اسرائيل عندما انهزم الاتحاد السوفياتي امام الولاياتالمتحدة، بل تكرست هزيمته عسكرياً في حرب "عاصفة الصحراء" التي اخلّت بالتوازن الاستراتيجي الاقليمي واتاحت لاسرائيل القطبية الاقليمية المنفردة في مواجهة فراغ استراتيجي عربي، مثلما صارت الولاياتالمتحدة هي القطب المنفرد في الفضاء العالمي. وتبعاً لذلك تؤكد هذه القراءة ان "عقيدة القومية العربية" انهزمت امام "العقيدة الصهيونية". وكما تداعى نمط الحياة الاشتراكي بكل مقوماته امام النمط الرأسمالي، يجب على العالم العربي أن يسلم قياده لاسرائيل. وكما تم تفكيك الكتلة الاشتراكية حول روسيا ليتبدى انكشافها امام الغرب يمكن تفكيك الكتلة العربية حول مصر فيتأكد انكشافها امام اسرائيل. وتتساءل هذه القراءة ضمناً: لماذا لا يعترف العرب بهزيمة عقيدتهم القومية؟ ذلك انها تدرك القومية العربية كايديولوجيا سياسية قابلة للهزيمة والزوال، وليس كهوية تاريخية الثقافية متجددة لا تفنى الا بفناء شعوبها. ومن ثم تبدي اندهاشها لما تعتبره "مشاكسة سياسية عربية" سواء عند المقاومة العربية لطموح اسرائيل الاقليمي المؤسس على الشرق اوسطية حين انطلاق عملية التسوية، أو عند المطالبة العربية بالتزام شروط العدالة والندية والتكافؤ عند تعثر العملية ذاتها، وجموح التطرف الاسرائيلي داخلها. وإذا كان ممكناً لمصر والعرب تحمل اعباء الرؤية التجزيئية للتاريخ والتي يمارسها التكوين العام الاميركي في اسسه الليبرالية كجزء من العالم السياسي الذي بات يعاني جموح الممارسات الاميركية، فإن تحمل اشياء الرؤية الاختزالية يبدو شاقاً ومكلفاً وغير ممكن لأنها تعنيهم بالاساس، وتصب في مصلحة اسرائيل بالضرورة، ولأنها في النهاية تنحو بالدور الاميركي في عملية السلام كونه يهدف الى تسوية اوضاع أمة مهزومة "عربية" في مواجهة منتصر اسرائيلي... وليس الى مصالحة تاريخية بين طرفي صراع. ونظن ان تجاوز ممارسات هذه الرؤية الاختزالية ضد العرب لن يقدر له النجاح الا بتجاوز ممارساتها ضد مصر اولاً، وهو امر لن يتم بدوره إلا إذا قبلت الولاياتالمتحدة "بالدور المصري" الذي تؤكده المفردات الاستراتيجية كافة للمنطقة بديلاً للدور الاسرائيلي الذي تمانعه كل المفردات الاستراتيجية ذات الحضور التلقائي لا المصطنع. ذلك ان محاولة اصطناع ركائز لهذا الدور ستعمق بالضرورة تناقضات السياسة الاميركية في المنطقة وفي العالم، فهي تدعو الى اخلاء المنطقة من اسلحة الدمار الشامل وتسعى في الوقت نفسه الى حماية ترسانة الاسلحة النووية الاسرائيلية، وتطلق صيحات مواجهة الارهاب العالمي ومطاردته بقوة الدولة الاميركية حتى انها تمعن في حصار دول عربية بأكملها على سبيل هذه المواجهة وتوجيه ضربات عسكرية لدول اخرى، وفي الوقت نفسه تقف صامتة امام ممارسات ارهاب الدولة الاسرائيلي الذي صبّ غضبه اخيراً على لبنان، اضافة الى اعتماد السلام كخيار استراتيجي ورضوخها في الوقت ذاته لايقاع الحركة الاسرائيلية على رغم كل ابطاءاتها. لا يمكن لصداقة استراتيجية وطيدة أن تستقر بين الولاياتالمتحدة ومصر الا بتفكيك العقدة الاسرائيلية، عندما لا تصبح حماية التفوق العسكري الاسرائيلي التقليدي والنووي احد الاهداف الرئيسية للاستراتيجية الاميركية، لأن التسليم بهذا الهدف سيدفع دوماً لحماية ورعاية متناقضاته، التي ينزعها فقط التسليم الاميركي بدولة اسرائيلية يحميها السلام مع جيرانها وليس تفوقها العسكري وحده، والتسليم بوجود كتلة عربية قومية لها الحق في ممارسة تاريخها من داخل ثقافتها، طالما تمارسه من دون شوفينية او استعلاء او عداء للغير، والتسليم ايضاً بالدور المصري في العالم العربي - الذي اثبت مراراً قدرته المتزايدة على الاعتدال وقيادة المنطقة نحو السلام والاستقرار. ولكن ذلك لن يتم بالطبع الا بتفكيك الرؤية الاختزالية التي تكره التاريخ وتقاليد ممارساته العريقة التي تجسدها مصر. * كاتب مصري.