في ظل التغيرات العالمية والاقليمية التي اجتاحت العالم أخيراً، أصبح ضرورياً التركيز على ايجاد مكان ملائم للقوة العربية بين باقي القوى العالمية والاقليمية الاخرى، وان تتبوأ هذه القوة مكاناً متميزاً بين قوى المستقبل، في العالم، وفي منطقة الشرق الاوسط. لقد مرت علينا في الآونة الاخيرة احداث تمثل انماطا وتجارب تاريخية، يمكن أن تصبح اساساً لتوجهاتنا المستقبلية. فمن حرب تشرين الاول اكتوبر 73 العربية، الى اتفاقات الفصل بين اسرائيل وكل من مصر وسورية، الى اتفاقات كامب ديفيد، ومؤتمر مدريد، ثم اتفاقات اوسلو بين اسرائيل والفلسطينيين، والاتفاقات الاردنية الاسرائيلية. وخلال ذلك شهدت المنطقة العربية حرب الخليج الاولى بين العراق وايران، والغزو الاسرائيلي للبنان، ثم حرب الخليج الثانية التي غزت فيها العراقالكويت وما ترتب على ذلك من حرب حديثة مدمرة. وكانت مفاوضات التسوية السياسية بين اسرائيل والاطراف العربية، وتقلب مواقف عملية التسوية بين بعض النجاحات الجزئية والازمات الخطرة، ومحاولات دفع عمليات التعاون الاقتصادي بين اسرائيل ودول المنطقة من دون ان ترافق ذلك نجاحات مواكبة على المستوى السياسي والامني، دافعاً لوقفة عربية لاعادة صياغة الرؤية السياسية والاستراتيجية، التي يضاعف من تعقيداتها بعض الخلافات العربية - العربية التي تطور بعضها الى اشتباكات مسلحة، والحلف الاسرائيلي - التركي الذي يمثل تهديداً مباشرا للمنطقة العربية ولمنطقة الشرق الاوسط إجمالاً. في هذا الاطار، تقدم اسرائيل - المدعومة بامكانات الولاياتالمتحدة - حالة خاصة بالنسبة الى مصر، والدول العربية عموما، نظرا للصراع التاريخي معها، والى كونها تمثل تحدياً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. فمن زاوية، يخدم الاقتصاد الاسرائيلي عملية البناء الاستراتيجي لقوة اسرائيل المسلحة خدمة مباشرة تستجيب للمتطلبات السياسية والاستراتيجية لاسرائيل، طبقاً للظروف السياسية لمنطقة الشرق الاوسط، وفي اطار استغلال المناخ السياسي العالمي السائد، الذي عادة ما يكون لمصلحتها. وتساهم القاعدة الاقتصادية الاسرائيلية، سواء في حد ذاتها او بمصادر الدعم الاقتصادي والمالي الذي يقدم لاسرائيل - في غيبة التماسك العربي - في الحفاظ على التفوق السياسي والاستراتيجي والعسكري والتكنولوجي الذي تتمتع به اسرائيل على الدول العربية. ويقودنا ذلك الى امر آخر هو نجاح اسرائيل في تعبئة طاقات المجتمع وتنظيمها، وتسخير الدعم العالمي والقدرات العلمية والتكنولوجية لبدء واستكمال عمليات البحوث والتطوير، التي تحافظ بها اسرائيل على استمرار تفوقها، بما يعكس صورة ايجابية لاسرائيل اقليمياً ودولياً، في الوقت الذي يلقي بالشكوك حول طبيعة المجتمع العربي وبنائه، وتتأكد الانعكاسات العملية للحقائق السابقة على قدرة اسرائيل على بناء شبكة من العلاقات الاقتصادية، ثم السياسية الدولية، والتي تنعكس بالضرورة على وضع اسرائيل في منطقة الشرق الاوسط، وعلى حساب الاطراف العربية. والاطار الجامع لكل ذلك هو الثقافة التي يتوقف بروز دورها على تحديد الهوية. والصراع العربي - الاسرائيلي يعتبر واحداً من الصراعات التي يبرز فيها دور الثقافة والحضارة، ويتطلب تحليلاً مجدداً لإيجاد العناصر الفاعلة في الموقف العربي. والسؤال الذي يجب ان نطرحه على أنفسنا هو: ما هي الاستراتيجية العربية - والمصرية - للتعامل مع مثل هذه القضايا وغيرها؟ وما هو اسلوب تعاملنا مع قضايا مستحدثة يفرضها الوضع الراهن والتحركات السياسية والديبلوماسية لاسرائيل، والولاياتالمتحدة؟ وكيف نتعامل مع التحالفات الجديدة في الشرق الاوسط؟ وايضا مع الاساس الديني الذي تقوم عليه اسرائيل والذي ادى بالضرورة الى انتشار الارهاب بكل صوره في المنطقة؟ وهنا يجب علينا التأكيد بصفة مبدئية على ضرورة ان تحتفظ مجمل الدول العربية بقيادتها السياسية والاقتصادية لمنطقة الشرق الاوسط وعدم السماح بخصوم لنا لاحتلال هذا الموقع. والتحدي الكبير في هذا السياق، أن يدفعنا "كم" الاحداث والتحديات الى استمرار الفرقة، والى تيارات الانسحاب من الشؤون العالمية، وبالتالي من الشؤون الاقليمية، وترك المجال واسعاً للحركة الاسرائيلية. وعلينا في هذا السياق ان نوازن بين كل هذه العوامل والعناصر وأن نستمر في اهتمامنا بالشؤون الدولية والاقليمية، على ان نتدخل في كل حالة حسب متطلباتها وطبيعتها، وفي اطار نسق قومي عربي جديد، يحفظ لنا حقوقنا، ويوفر افضل الظروف لتحقيق كل اهدافنا. وبذا يمكن ان يصبح دورنا النشط في الشرق الاوسط اكثر اهمية مما كان عليه من قبل، كما يصبح للعامل الاقتصادي دور اكثر اهمية. لقد اصبحت التطورات الاخيرة علامة جديدة في مسار العمل العربي، وان المفهوم الرئيسي الذي يجب ان نتحرك تبعاً له هو مفهوم القيادة العربية للمنطقة ودور العرب الايجابي في الشؤون الاقليمية والدولية. وهو الدرس الرئيسي الذي خرجنا به من الازمات المتتالية التي مرت بها منطقتنا. إن الذي يجب ان يهدينا في حياتنا العربية المرجوة هو عدد من المبادئ القيمية الجوهرية، وليس سياسات عشوائية لا تجد لها أسساً صحيحة. وأحد التحديات الجديدة التي تواجهنا جميعاً هو كيفية الخروج من الدوائر التقليدية، التي أدت بالعرب الى هذا الوضع الذي لا يحسدنا عليه احد. ويجب ان نعلم ان العالم العربي لا يعيش في فراغ، وانما هو جزء من كيان اكبر هو الكيان العالمي، يؤثر فيه ويتأثر به. والعرب يواجهون اليوم تحديات كثيرة في كل مجالات العمل والحركة تحتاج الى تجمعهم حول اهداف محددة يُتفق عليها، والى الحفاظ على دورهم المركزي في المنطقة التي يعيشون فيها، وان يترجم هذا الدور الى فوائد اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية مباشرة تشعر بها الشعوب العربية. والدور المصري في هذا المجال مهم للغاية. الا ان قوة مصر ودورها في التأثير في النظام الدولي والنظام الاقليمي العربي يرتبط بدورها وفاعليتها في النظام العربي. فمصر تصبح قوية ومؤثرة عندما تندمج في دائرتها العربية، وكذلك الحال بالنسبة الى كل دولة عربية. وبذا فليس في مصلحة مصر، ولا في مصلحة الدول العربية، استمرار الاوضاع الراهنة على ما هي عليه، ويتطلب الامر اعادة هيكلة للعلاقات العربية البينية على اسس جديدة. وقد حسم الرئيس مبارك موضوع "هوية مصر العربية" منذ بدأ توليه السلطة، اذ اكد أن "عروبة مصر هي قدرها وشرف لها، وان علاقة مصر بالعرب هي علاقة الجزء بالكل. وتحتم هذه العلاقة روابط العقيدة والجغرافيا والتاريخ والحضارة والهموم والآمال المشتركة". ولذلك فان طبيعة دور مصر العربي وحدوده ليست مسألة اختيار قيمي او ايديولوجي فقط، ولكنها محصلة لتداخل وتفاعل عديد من العوامل والمتغيرات الداخلية، والاقليمية العربية، والشرق اوسطية، والنظام العالمي الجديد بتحولاته وتفاعلاته. لقد شهد النظام الاقليمي العربي فترات من التماسك والقوة والفاعلية، ولكنه دخل في حالة من التأزم والانتكاس منذ ازمة الخليج الثانية، التي واكبتها حالة من الضعف والتفكك في الجامعة العربية باعتبارها النظام المؤسسي للنظام، مع تزايد حدة الخلافات العربية - العربية، واستفحال بعضها وتحوله الى صراعات ممتدة، وأضحت الجامعة العربية بمثابة مرآة عاكسة لهذه الصراعات. وواكب ذلك ضمور الاهتمام العربي بالقضايا القومية، وتفتته بين العديد من القضايا الفرعية الداخلية، الامر الذي اعطى اسرائيل، والولاياتالمتحدة، اليد الطولى في تصريف شؤون المنطقة العربية. ويدعم ذلك الوجود الاميركي العسكري المباشر في الشرق الاوسط عموما، ومنطقة الخليج خصوصاً. ولا يوجد اختلاف على ان مصر، بالتعاون مع الدول العربية الشقيقة، مارست دوراً مهماً في النظام الاقليمي العربي، ويمكن لها ان تلعب هذا الدور مرة اخرى لإعادة توحيد العرب على القضايا القومية المهمة، خصوصا في ظل هذه الهجمة الشرسة التي تتعرض لها المنطقة العربية، بغرض تفتيتها، وقتل الآمال العربية لمستقبل زاهر سعيد. ويتضمن دور مصر الممارسة الفعلية له كما تتصوره، وترجمة هذا التصور الى سلوكيات وقرارات عملية، حتى لا يعتبر الدور تصوراً فقط، ولكن أيضاً اقتناع وقدرات وامكانات لممارسة هذا الدور بفعالية واقتدار. ويتسم الدور المصري في المرحلة الحالية بقدر كبير من الواقعية في الفكر والسلوك، وهي الاسس الضرورية لاعادة التجمع العربي في المرحلة الراهنة، استعداداً لمستقبل مليء بالمخاطر والتحديات. ومن خلال تتبع الخطاب السياسي المصري بهذا الشأن، يمكن القول بأن تصور النخبة الحاكمة لدور مصر العربي يدور حول محاور عدة، اهمها المساهمة في حماية الامن القومي للامة العربية، والمساهمة في تحقيق التضامن العربي، ثم حل المشكلة الفلسطينية والتوصل الى تسوية سياسية مقبولة للفترة التاريخية الراهنة. وتعمل مصر من خلال ممارستها للبعد العربي للديبلوماسية المصرية الى خلق شبكة من العلاقات الفاعلة، وتطوير شكل من الممارسة الاقليمية في اطار تصور واضح للامن العربي، على اساس من وضوح الاهداف وطبيعة القدرات والامكانات العربية المتاحة. كما تسعى الى وقف الانهيار في النظام العربي، وخلق الوفاق والتكامل الفكري والاقتصادي والعسكري بين الدول العربية، والاسهام الفاعل في حماية الامن القومي للامة العربية، مع ادراك حدود الموقف المتاح، وحدود الممكن في اطار الوضع العربي الراهن. وتدعو مصر في الوقت نفسه الى التزام جميع الدول العربية في علاقاتها بالاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والالتزام بميثاق جامعة الدول العربية واتفاقية الدفاع المشترك. وبناء على الأسس السابقة، يمكن صياغة رؤية سياسية واستراتيجية واضحة للدور العربي في الوقت الراهن وفي المستقبل. ويتم ذلك تراكمياً وطبقا للمتغيرات العربية، حتى يمكن وضع الدور العربي المشترك موضع التطبيق، وان يتم تطبيقه بكفاءة واقتدار، ويتطلب ذلك تحديداً واضحاً للاهداف العربية، وتوزيع الاعباء والمسؤوليات بين الدول العربية طبقا للمتغيرات المختلفة، والتزامات الدول العربية تجاه بعضها بعضاً ودرجة ادائهما لهذه الالتزامات. وافضل الاساليب لانجاز ذلك، وتحديد أبعاد الامن القومي العربي في نظر القيادات العربية، وما هي المخاطر الاساسية التي تهدد هذا الامن، وما هي الآليات المطلوبة لتصفية الخلافات العربية لرأب الصدع العربي الحالي. ويتسم النظام العربي في المرحلة الراهنة بانتشار عناصر القوة وتعدد مراكز التأثير التي تتفق احياناً فيمكن لها تحقيق الاهداف العربية، وتتعارض احياناً اخرى فيحقق خصومها اكثر مما يطلبون. في الوقت الذي يمكن بتجميع الامكانات والقدرات العربية، ايجاد عناصر القوة والتأثير اللازمة لتحقيق الاهداف والارادات العربية. وهذه القدرات والامكانات العربية موزعة بين الدول العربية، ولا تستطيع دولة بمفردها ان تجمع بين يديها كل عناصر وادوات القوة اللازمة، التي يمكن بها دخول عالم قرن جديد يتميز بالكتل السياسية والاقتصادية الكبيرة. ومن هنا يصبح التوجه العربي، بل التضامن العربي، ضرورة ملحة، وليس ترفاً تسعى اليه المجموعة العربية. كما تتطلب الممارسة العربية في مناخ التطورات والمتغيرات الجديدة قدرات اقتصادية وتكنولوجية، اضافة الى قدرات عسكرية واعدة. وفي التحليل النهائي، لن تتمكن دولة عربية واحدة من مواجهة المشاكل الاقليمية بمفردها، كما سيظل هناك تعدد في مراكز القوى والتأثير، الأمر الذي يفتح مجالاً للتفكير في إمكان وجود قيادة جماعية في النظام العربي، وأن يتم ذلك في اطار استراتيجية عربية تتضمن تحديداً للاهداف العربية الراهنة والمستقبلية، وأساليب تحقيق هذه الاهداف، وتوزيع الادوار الاساسية بين الدول العربية. ولا شك ان مثل هذه القيادة الجماعية في النظام العربي لا بد ان تمتلك القدرة على بلورة وطرح النموذج المطلوب للعمل العربي المشترك المقصود. ويفترض في مثل هذا النموذج تكامل عناصره وتماسكها، وتطبيق الدول العربية له بفاعلية واقتدار داخل وخارج حدودها، وان تعكس ممارسات هذه الدول تمسكها والتزامها بهذا النموذج بحيث يختفي التناقض بين القول والفعل وبين النظرية والممارسة، كما لا بد ان يكون هناك قبول لهذا النموذج في الدائرة العربية المستهدفة - كما يتضمن النموذج مبدأ احترام التنوع والتباين بين الدول، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى. كما يجب ان يتضمن أيضا أبعاداً اقتصادية وتنموية، وأبعادآً اخرى سياسية وثقافية واجتماعية، تهدف الى رفاهية المواطن العربي وازدهاره، وإعداده لمواجهة تحديات جديدة غير مسبوقة من قبل. ونحن الآن كعرب امام خيار استراتيجي، فهل نحن مستعدون لأن نكون في موقع مؤثر في عالم الغد، وهل لدينا القدرة على تعزيز قوة التغير السياسي والاستراتيجي والتكنولوجي التي تساعد على عملية التحول المطلوبة، أم اننا غير مستعدين لذلك. ومن ضرورات ضمان ذلك التعرف على التحديات الراهنة التي تواجه سياستنا الخارجية، والظواهر والمتغيرات الجديدة التي بدأت تظهر في العالم وفي المنطقة، وأولويات التعامل مع هذه الظواهر والقضايا التي ستظهر في المستقبل، ووجهة نظرنا في كيفية التعامل مع هذه القضايا. وعلينا في هذا الاطار ان نستعد للتعامل مع ظاهرة الكونية العولمة الاقتصادية، ومع دور الثقافة والحضارة كمحددات جديدة للعلاقات الدولية في المستقبل. إلا ان استمرار التقدم تجاه تحقيق مثل هذه الاهداف يتطلب الاستعداد لذلك، حتى لا نفاجأ بمتغيرات جديدة لا نكون مستعدين لها. وفي اطار ذلك كله علينا ان ندرك تماماً ان التوجه العربي الآن هو ضرورة.