لا كلمة أخرى لتوصيف القرار الإسرائيلي الانسحاب الأحادي الجانب من لبنان إلا كلمة انتصار. وكل من يقول ذلك بنوع من الغصة يكون مخطئاً. يكفي لتبيان ذلك مراجعة تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي. فلقد كانت إسرائيل على الدوام تتوسع، وها هي تتراجع تحت الضغط. وحتى عندما كانت تصدر قرارات لمجلس الأمن كانت إسرائيل اما تمتنع عن تنفيذها أو تستغلها من أجل المزيد من التقدم، ولكن الحاصل اليوم اننا، وللمرة الأولى، أمام اضطرار تل أبيب إلى إعلان التزامها القرار 425 وهي التي ترفض علناً الاستمرار في تطبيق القرارين 242 و338. ومع أن الجهد الإسرائيلي انصب، خلال عقود، على تجاهل الأممالمتحدة واستبعادها، فإنها اليوم تتوجه إليها وتستحضرها وتطلب مساعدتها. وهذه كلها سوابق يمكن لها أن تكون في رصيد أي مفاوض عربي. ويمكن ان نضيف إليها ان المتعاونين مع الاحتلال سيدفعون ثمناً، في حين أن لبنان وسورية سينجحان في الحفاظ على علاقتهما وتطويرها. إن هذا الكلام السابق لا يصح إلا إذا كان الانسحاب الإسرائيلي كاملاً وخاضعاً للمراقبة وغير مصحوب بأعمال انتقامية. يجب، في المقابل، التدقيق في وصف الموقف الإسرائيلي. يخطئ من يعتبر أن إسرائيل مهزومة بالمعنى الاستراتيجي. الأدق هو القول بأن إسرائيل عجزت عن الانتصار وعن تغليب ارادتها. فالمقاومة اللبنانية "حطمت اسطورة الجيش الإسرائيلي" بهذا المعنى، أي بمعنى اظهار حدود القوة ورفع كلفة الاحتلال إلى حد جعله غير ممكن الاستمرار. إن إسرائيل دولة قوية جداً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً حتى في لحظة خروجها من لبنان تحت ضغط. ومن دلائل هذه القوة ان العرب يخوضون ضدها، الآن، معركة فاشلة في الأممالمتحدة لارغامها على الانضمام إلى المعاهدة النووية. يقود ذلك إلى الاستنتاج بأن إسرائيل تريد لانسحابها من لبنان ان يكون خطوة إلى الوراء تمكنها من التقدم خطوتين إلى الأمام: ايقاف النزيف، والاستقواء على العرب المفاوضين وغير المفاوضين. هذان هما طرفا المعادلة: انتصار لبناني وسوري، يعبّر عنه التنفيذ الدقيق للقرار 425 إذا حصل ذلك، ومن الجهة الثانية عجز إسرائيلي موضعي على انفاذ ارادتها. غير أن الملفت ان هناك من يتصرف على أن إسرائيل تلقت هزيمة قاسية وقاصمة، ولكنه يرفض اعتبار ان ما تحقق هو انتصار. أي أنه، بدل تظهير حجم الانتصار ووضع الخسارة في موقعها الصحيح يحصل العكس، أي يتم تحجيم الانتصار وتعظيم شأن الهزيمة. لا بد، والحال هذه، من إعادة الأمور إلى نصابها. ويعني ذلك، أولاً، تقديم أي انسحاب كامل بصفته انجازاً. وثانياً، حماية هذا الانجاز، إذا تحقق، عبر التركيز على ثلاثة محاور: أولاً، حرمان إسرائيل من أي ذريعة لعمل انتقامي مدّمر من دون أن يعني ذلك حراسة حدودها. ثانياً، الشروع فوراً في تأمين عودة الشريط الحدودي المحتل وأهله إلى الوطن بعد عقود من الاحتلال. ويقتضي ذلك وضع خطة تفصيلية وشاملة تسمح بتجاوز هذا الامتحان الصعب بأكبر قدر ممكن من النجاح. ثالثاً، الاهتمام بإعادة النظر في العلاقات السورية - اللبنانية باتجاه تطويرها بارسائها على قواعد راسخة تحميها من تقلبات اقليمية ودولية عن طريق اسنادها إلى أوسع شبكة ممكنة من المصالح المشتركة