على رغم ضرورة الاعتراف بتأثير بايرون في شعر بوشكين، وعلى رغم سمو منزلة الأول على منزلة الثاني في ميدان الشعر، فإنه من الإجحاف بحق بوشكين أن نطلق عليه كما فعل البعض صفة "بايرون الروسي"، كما أن هذا الوصف يتضمن ثناء على بايرون لا يستحقه. فبوشكين قبل كل شيء شاعر قومي، وجزء من كيان الأمة الروسية، تمكن من أن يتمثل خصائصها وفضائلها، وأن يعبر عن استيعابه لها في أدبه، بينما لم يضف بايرون الكثير مما يساعدنا على فهم طبيعة أمته. كذلك فإن أثر بايرون في الشاعر الروسي مقصور على مرحلة معينة من حياة بوشكين، وعلى فن واحد من فنون أدبه، هو الشعر القصصي. فإن نحن قارنا بين أعظم مؤلفات الرجلين "دون جوان" لبايرون و"يفغيني أونيغين" لبوشكين وكل منهما رواية في قالب شعري وجدنا بوشكين مديناً للشاعر الانكليزي بفكرة كتابة قصيدته الكبرى على النحو الذي كتبت عليه "دون جوان"، وبأسلوبها الذي تمتزج فيه جدية الموضوع بروح الدعابة والمرح والسخرية، حتى إذا ما وصلنا الى هذا الحد، افترقت الطرق، وإذا بقصيدة بايرون تفيض كالبحر الصاخب اللانهائي في قوة وبطش، وإذا بالقصيدة الروسية تتميز بهدوء أوفر، وحبكة أفضل، وتبدو في النهاية قصة ذات بداية ووسط ونهاية، في بناء متماسك متناسق لا تعرفه قصة بايرون، ثم إذا بقصيدة "يفغيني يونيغين" تثبت في خاتمة المطاف - على رغم غرابة هذا القول - أنها أقوى هجوم ظهر في ميدان الأدب على الروح البايرونية، وأعنف نقد موجه إليها. بين بطرس وبوشكين: غير أننا نبدأ بالقول بأنه إذا كان بطرس الأكبر أفلح في أن يجعل من روسيا جزءاً من أوروبا وأن يشكل منها دولة اوروبية عظمى، فإن الكسندر بوشكين تمكن من بعده بنحو قرن من الزمان من أن يحقق شيئاً مشابهاً في مضمار الأدب الروسي. وكان ثمة في الواقع ما يقرب بين هاتين العبقريتين، فالاثنان هما حاملا لواء عصر النهضة الذي هبت نسماته متأخرة على روسيا، فحاولا، كل في ميدانه، الاسراع من أجل تعويض روسيا عما فاتها من وقت، وحث الخطى للحاق بالغرب. فلا عجب إذاً أن نرى بوشكين يكن الإعجاب والاحترام لشخصية لم يكن لها تولستوي في ما بعد سوى البغض والنفور، لنفس السبب الذي أحبها بوشكين من أجله. كان أمام روسيا في ذلك العهد من تاريخها ثلاثة طرق يتعين عليها اتباع واحد منها: إما أن تنهج نهجاً روسياً محصناً، رافضة كل ما هو أجنبي، فتقيم ستاراً حديدياً بينها وبين الغرب، أو أن تنهل من دون تميز من النبع الأوروبي، مقتبسة من النظم والقيم الغربية ما يصلح وما لا يصلح لها باعتبار الاقتباس من الحضارات الأجنبية "صفقة مجملة"، أو أن تفتح أبوابها في حرص وحيطة، فتسمح بقبول ما يمكن أن يغذي الروح الروسية وينميها من ثقافة الغرب، وترفض ما يهدد طابعها الخاص وعبقريتها الفريدة بالاندثار، فيضحى بوسع روسيا عندئذ - وعندئذ فقط - أن تسهم بقسط وافر في بناء الحضارة وخدمة الانسانية العالمية. وكان هذا الطريق الثالث هو الذي اختاره بوشكين، وهو الطريق الذي انتهجته في ما بعد الموسيقى الروسية التي اتبعت اساليب الغرب في التعبير في علاجها لموضوعات وأحاسيس روسية محضة، والواقع أن بوشكين كان أكبر الروس قدرة على الربط بين الإعجاب بالحضارة الأوروبية وبين الثقة في فضائل ومستقبل بني وطنه. ولو لم يكن الامر كذلك لكان من الصعب أن نفهم سر ذلك التقديس القومي الذي لا يزال الروس يكنونه لشاعرهم الأكبر حتى يومنا هذا. قبل شهر من بلوغ بوشكين الحادية والعشرين من عمره قضت حكومة القيصر الاسكندر الاول بنفيه بسبب قصائد له تغنى فيها بالحرية ودعا الى إلغاء نظام الرق، وبسبب صلاته ببعض الضباط الداعين إلى أن تنتهج الحكومة سياسة تقدمية مستنيرة. وكان هذا النفي له نعمة في صورة نقمة. فما ان وجد نفسه في محيط خلت منه ما عهده من صنوف اللهو، حتى كرس جل وقته للقراءة والكتابة والسفر. وفي القوقاز بدأ يقرأ لأول مرة مؤلفات بايرون التي خلفت أثراً عميقاً في تكوينه الذهني وفي ما ألف من أشعار خلال السنوات الثلاث ما بين 1822 و1824، وتبدأ هذه المرحلة البايرونية بقصيدته القصصية "نافورة باختشيساراي" وهي تروي ما حدث في قصر الخان التتري "غيراي" في القرم بعدما عاد من غزواته بأسيرة بولندية جميلة تدعى ماريا وقع الخان في غرامها على رغم أو بسبب صدها له ونفورها منه، ويبلغ حبه لها مبلغا جعله يهجر زوجته "راربما" ويتجنب رؤيتها. وتتملك الغيرة قلب الزوجة فتقتل ماريا، وتلقى هي حتفها على يد الخان ساعة علمه بمصرع حبيبته. ويستمر تأثير بايرون قائماً إلى ما بعد شروعه في نظم رائعته "يفغيني اونيغين" عام 1823، غير أن السنوات السبع التي استغرقتها كتابة هذه القصيدة الطويلة شهدت ضعفاً مطرداً في هذا التأثير، ونمواً متزايداً لملكات بوشكين وسمات أدبه الفريدة، بحيث يمكن القول ان القصيدة نمت وتطورت بتطور مؤلفها ونموه الروحي. فما تمت كتابة الفصول الأولى منها حتى كان قد تخلص من تأثير بايرون الى الأبد. بل أضحى شديد العداء لما تمثله الشخصية البايرونية من معان تجسدت في شخصية أونيغين. "يفغيني أونيغين" يبدأ بوشكين قصيدته الكبرى بوصف لطفولة أونيغين وصباه، وترعرعه في جو المجتمع الراقي في بطرسبورغ، وإحاطة عائلته له بعدد من المربيات والمدرسين الخصوصيين وبسياج من التقاليد الارستوقراطية والأحاسيس الطبقية، ما يجعله في النهاية نتاجاً صرفاً لطبقته. وعلى رغم أن أونيغين يتقبل راضياً هذا الوضع، ولا يفكر في الثورة عليه أو الفكاك منه، فإن لديه من الذكاء ما يجعله يدرك أن حياة كهذه لم يتعلم فيها غير رقص المازوركا، والتحدث بالفرنسية، وركوب الخيل، حياة فارغة لا قيمة لها، جديرة بالاحتقار، ولا ينجم عنها في النهاية غير ملل قاتل. كانت في نفسه بذور قوة خاملة، ونشاط معطل، وذكاء غير مستغل، وكان هذا الخمول والتعطل نتيجة لرضاء المجتمع الذي يتحرك فيه عنه كما هو، والافتقار الى دافع قوي الى أن ينفض عن نفسه ذلك العقم الروحي. وإذ يكاد الملل يفتك به، يهرع إلى ضيعة ريفية له ورثها عن عمه، غير أن السأم هنا أيضاً لا يفارقه، فالآراء التقليدية التي يتفوه بها معارفه من السادة في الريف تضجره، وخط عيشهم البورجوازي يثير اشمئزازه، غير أنه يستثني شخصاً واحداً يختلف عن الاخرين، هو الشاعر لينسكي الذي كان قد عاد لتوه من ألمانيا حيث درس في إحدى جامعاتها، وتنمو بين الرجلين صداقة، لا لاتفاق المشارب والميول أو لتوافق بين الشخصين وإنما لما ارتآه كل منهما في الآخر من مناقب تنقصه، وسجايا لا يتحلى بها. ويعرف لينسكي صديقه الجديد بمدام لارين الأرملة وابنتيها أولغا وتاتيانا. كانت أولغا، خطيبة لينسكي، فتاة جميلة مرحة تفيض حيوية ونشاطاً، أما تاتيانا اختها الكبيرة فتختلف عنها، فما كانت بالجميلة أو المتوثبة المرحة، إنما هي صامتة دائماً عن حياء، يشوب ملامحها شيء من الحزن وكثير من الجد. غير أنها تخفي وراء القناع والمظهر شخصية قوية، وقدرة لا حدود لها على الحب وإسباغ الحنان والعطف على الآخرين، وهي على استعداد لأن تهب قلبها لامرئ يختلف عمن تعرفهم ويحيط بها من أناس يضجرونها بضيق أفقهم فما قابلت أونيغين حتى توهمت أنه رجل فريد فذ، ذو شخصية غير عادية، فإذا بقلبها الساذج يقع في حبه. وتاتيانا هذه هي على طرف نقيض من أونيغين، فهي على سجيتها دائماً، غاية في البساطة والبعد عن التكلف، مخلصة ساذجة في كل ما تقول وتفعل. وهي روسية صحيحة، جمعت زبدة مناقب النساء من بنات جلدتها، وإذ تقع في غرام أونيغين تحاول أن تستشف منه اهتماماً بها، ولكن من دون جدوى. فهو لا يرى فيها غير فتاة كغيرها من فتيات الاقاليم، ليس فيها من الصفات ما يبرر التفاته اليها. وتتألم تاتيانا في صمت، حتى إذا ما بلغ عذابها حداً لا تستطيع معه صبراًَ، تتناول القلم لتسطر رسالة ساذجة مخلصة اليه تكشف له فيها عن خفايا قلبها وحبها العميق له. ويقرأ أونيغين الرسالة فلا يعبأ بالرد، غير أنه يقابل تاتيانا في منزلها بعد فترة، فيعترف لها بأنه غير قادر على الإحساس بالحب، وأن قلبه من النضوب بحيث لا يمكنه أن يبادلها عاطفة بعاطفة، وإذ يشرح لها كل ذلك يبدو وكأنما هو في قرارة نفسه فخور بهذا النضوب وهذا العجز عن الحب، واصفاً لها الزواج في نهاية حديثه بأنه قيد على حرية الرجل، يرتعد بدنه لمجرد سماع اسمه. يترك أونيغين تاتيانا ذليلة محطمة، وتتركه هي ثائراً على الريف، وأهله، ناقماً على صديقه لينسكي الذي اقتاده الى تلك العائلة، ويحاول مضايقة صديقه فيغازل خطيبته أولغا خلال حفل راقص مغازلة تُثلج صدر الفتاة، وتحدو بها الى تجنب خطيبها الذي يبلغ به البؤس حد دعوة أونيغين الى المبارزة. ويحاول أونيغين تجنب هذه المبارزة التي لا طائل من ورائها، غير أن خشيته من أن يصفه الناس بالجبن تدفعه الى القبول، وتتم المبارزة التي يلقى لينسكي فيها مصرعه. يسرع أونيغين بالرحيل عن تلك الضيعة المشؤومة، ويشرع في القيام برحلات في أنحاء روسيا محاولاً قتل الوقت واستئصال الملل، وأما تاتيانا فتحاول الاستسلام للأمر الواقع وطرد صورة أونيغين من مخيلتها. ثم يصادف أن تقوم بزيارة للمنزل الخالي الذي كان حبيبها يقيم به في الضيعة، فتتأمل كتبه ومظاهر الحياة التي كان يحياها، فتكتشف الكثير مما كان خافياً عنها من طباعه وسلوكه، فتدرك في النهاية أنها كانت تعشق خصالاً لم تكن فيه، وأن الصورة التي كونتها عنه لا تمت الى الواقع بصلة. وتمر الأعوام، وينتقل مسرح الأحداث الى بطرسبورغ التي عاد إليها أونيغين بعد أسفاره الطويلة، ففي حفل راقص يحضره في العاصمة يجد نفسه وجهاً لوجه مع تاتيانا التي نجدها الآن متزوجة من رجل غني متقدم في السن، تنعم بكل ما يسبغه عليها مركزها الاجتماعي الجديد من مزايا. وهي الآن امرأة ناضجة ذات جمال ووقار، ترمقها أعين الناس في إعجاب ومودة، وعندما يسعى أحد الحاضرين الى تعريفها بأونيغين، تتحكم على الفور في عواطفها وتصافحه من دون أن تظهر شيئاً مما يعتمل في قلبها. ثم إذا بالأدوار وقد تغيرت: فأونيغين الآن هو الذي يقع في غرام تاتيانا، وتاتيانا التي تصده، ويسطر إليها خطاباً فلا يتلقى رداً علىه، ويصيبه القنوط فيهرع إلى منزلها ليقابلها، فإذا هي وحدها تقرأ رسالته وهي تبكي وقد غطى وجهها الدمع. ويمسك أونيغين بيدها مضطرباً ويركع أمامها ليصف لها مدى حبه إياها. غير أن المرأة العاقلة تدرك أن كبرياءه الذي دفعه في الماضي الى رفضها هو نفسه الذي يدفعه الآن الى خطب ودها، وعلى رغم أن قلبها لا يزال يشعر نحوه ببقية من الود القديم، فإنها تخبره في صراحة وحزم أنها مع حبها له قد وهبت قلبها ونفسها لزوجها وأنها ستظل مخلصة له حتى الموت، وبهذا التصريح منها يفترق الاثنان. قلنا إن السنوات السبع التي استغرقتها كتابة هذه القصيدة سجلت في طياتها التطور الروحي للشاعر بين عامه الرابع والعشرين وعامه الحادي والثلاثين، وانتقاله التدريجي من ذروة المرح والخفة الغالبين على الفصول الأولى الى الحزن العميق والاستسلام الواضحين في الفصول الأخيرة، والمؤكد أن بوشكين أثناء كتابته لأبياته الأولى من قصيدته وكما اعترف هو نفسه في أحدى رسائله كان ينوي أن يسطر عملاً أدبياً ساخراً مرحاً على غرار قصيدة بايرون "دون جوان" غير أن السخرية سرعان ما أفسحت الطريق لواقعية صارمة، وتصوير للشخصيات لم يصل الشاعر الإنكليزي في أي من كتاباته الى ما يقربه من الدقة. كانت الصورة الواقعية الشعرية التي رسمها بوشكين في قصيدته للمجتمع الروسي خلال فترة بالغة الأهمية من تطوره، هي التي حدت بالناقد بيلينسكي الى وصف "يفغيني اونيغين" بأنها "دائرة معارف للحياة الروسية"، فهي بالإضافة الى كونها أعظم روائع بوشكين، تعتبر حجر الزاوية في الأدب الروسي، ومن أشهر معالمه. فهنا نجد اسلوب تناول الموضوع نفسه الذي نلمسه في الشعراء بعده. بل إن أثرها لم يقتصر على ميدان الشعر. ذلك أن هذا الصنف من الواقعية الذي ابتدعه بوشكين في هذه القصيدة، ومنهاجه في تصوير شخصياتها، كانا الأساس الذي استند اليه عمالقة القصة والرواية الروسيتين في ما بعد في تأليفهم لقصصهم ورواياتهم. وهنا نصادف للمرة الأولى تلك الواقعية التي أثرت عن الأدب الروسي وأطالت في الإشادة بها كتب النقد وتاريخ الأدب، واقعية شاعرية من دون إفلات عنان، جميلة فنية من دون مروق عن الحقيقة، نبيلة سامية الهدف من دون غض الطرف عن العقبات في الطريق. وعادت واقعية "ايفغيني اونيغين" الى الظهور في أدب ليرمونتوف، وفي روايات تورغينيف وغونشاروف، وفي "الحرب والسلام" و"أنا كارينينا" لتولستوي، وخيرة ما كتب تشيخوف من قصص ومسرحيات، بحيث أصبح اونيغين قبل أن ينصرم القرن التاسع عشر رباً لعائلة كبيرة من الشخصيات الروائية التي تدين له بالوجود، فإذا بهذه الشخصية الذكية من دون قوة في العزم، المثقفة من دون مضاء في الإرادة، الخاملة غير المجدية، تطفو الى السطح مراراً في أدب غونشاروف أوبلوموف وتورغينيف رودين وتشيخوف ايفانوف، وإذا بالمرأة القوية تاتيانا وقد تعددت لها الصور في روايات تورغينيف من دون تغير أساسي في الملامح، وفي أدب كل من دوستويفسكي وتولستوي وغيرهما بعد إنمائها وتثقيفها. قد نلمح في بعض أبيات القصيدة مسحة من الرومانسية، غير أن روحها العامة خالية منها، فهنا تعمل قوانين الطبيعة من دون تدخل الشاعر، وهنا تؤدي طبيعة الشخصيات تدريجاً وخطوة خطوة الى النتائج الحتمية لتطورها. وقد تتمثل عظمة بوشكين في أنه لم يحاول أن يخلق من هذه المرأة القوية تاتيانا مثالاً سماوياً للمرأة الطاهرة التي ترد من تحبه وتنأى بنفسها عن الرذيلة. فإنسانية تاتيانا عند بوشكين إنما تتمثل في حزنها الذي لن تقهره، والذي لم يمكنها من أن تعيش بعد ما وقع لها حياة خالية من عذاب الفكر. وأخيراً، فإن كانت بساطة الموضوع، وتطور الاحداث تطوراً ناجماً عن خصائل الشخصيات، والنهاية الأليمة المكتومة، قد أضحت بعد نشر "يفغيني أونيغين" نبعاً ينهل منه الأدباء الروس وأدبهم الواقعي، فإن التفهم العميق ولكن، من دون شفقة أو تعاطف لشخصية البطل البايرونية والإعجاب والتقدير ولكن، من دون جزاء، لشخصية تاتيانا، لم يظهر لهما نظير أبداً في تاريخ الأدب الروسي. * كاتب مصري