سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عصام المحايري يروي وقائع اغتيال عدنان المالكي . تسريح غسان جديد ... وصدام مع البعثيين والتحقيقات الرسمية تكشف عن دور لعبدالمسيح في حادث الاغتيال 2 من 3
تحدث عصام المحايري في حلقة أمس عن حادث اغتيال عدنان المالكي وكيف استقبل مجلس العمد في الحزب السوري القومي الإجتماعي خبر الاغتيال واتهام قيادة الحزب بالحادث. ويواصل المحايري في حلقة اليوم رواية وقائع ملاحقة قادة الحزب واعتقالهم وبدء التحقيق الرسمي واتهام جورج عبدالمسيح بتدبير الاغتيال. بعد "استقبالي" في الشرطة العسكرية، ودخولي إلى المزة سجيناً، بدأ الضغط الذي سببه لي حادث الاغتيال يزول شيئاً فشيئاً، ولم يعد الحزن هو الشعور الوحيد الطاغي عليّ، بل إن شعوراً متنامياً بالمسؤولية دفعني لإعادة تقويم الحادث وتحليل عوامله ومسبباته والقرائن الدالة على أنه سيقع، معتمداً في ذلك على ذاكرتي التي بدأت تسترجع الحوادث الماضية المرتبطة بهذا الواقع الجديد، وهذه الحقيقة الواضحة، التي يعبّر عنها مقتل العقيد المالكي على يد يونس عبدالرحيم. في 4 نيسان ابريل نشرت إحدى الصحف الدمشقية في صفحتها الأولى، خبر تسريح المقدمين غسان جديد وسليمان نصر المحسوب علينا أيضاً، ولم يكن مفاجئاً بالنسبة لي هذا الخبر، ولذلك عندما كنت في مكتب جريدة "البناء" كعادتي اليومية، وجاء غسان ليكتب زاويته الأسبوعية التي كان يتناوب على كتابتها مع آخرين وهي كانت بعنوان "سمعت وقرأت ورأيت" إضافة لكتابته مجموعة مقالات بعنوان "إلى الشباب" وهي تشكل سلسلة مقالات ذات طابع بنائي تعبوي، عندما رأيته قلت له: مبروك التسريح. وعدم المفاجأة بالنسبة لي سببها أنه سبق وتم نقل غسان من مسؤولية رئيس أركان المنطقة الوسطى في حمص، الى موقع دمشق معاوناً لناظر الموقع، وكان يتندر بهذا الانتقال مكرراً: "ليس لدي سوى طاولة وكرسي..."، ويستكمل كلامه بأنه وضع على "الرف... من دون أي عمل أو مسؤولية، وكنا جميعاً في الحزب كمسؤولين في صورة الوضع الجديد الذي عليه غسان، من حيث أنه لا دور راهناً له، وهنالك إرادة بتهميشه وإبعاده، ولذلك لم يكن وقع تسريحه غريباً أو لامألوفاً عندي وعند قيادة الحزب، وهو في هذه الأثناء، وبعد انتقاله الى دمشق تم تعيينه عميداً للدفاع باسم مستعار "غيث المقدم". بعد انتهاء عملنا في الجريدة، في ذلك اليوم، حوالى الساعة الواحدة ظهراً، خرجتُ وغسان مترافقين كما هي العادة، باعتبار أن هنالك مسافة مشتركة يمكن أن نقطعها سوية قبل أن نفترق كل إلى منزله. حيث كانت مكاتب الجريدة تقع في شارع الفردوس، فننطلق منها لنفترق عند بناية كسم وقباني، فأذهب أنا تجاه "الفرنسيسكان" وغسان صوب حي المزرعة. وكنا خلال هذه المسافة نتبادل الأحاديث، وفي ذلك اليوم لاحظت أن فؤاد جديد، أخ غسان، يمشي وراءنا على مسافة محددة، فسألت غسان إن كان قد كلّفه بحراسته، وخصوصاً أن هذه أول مرة أراه فيها يتبعه، فأجابني قائلاً: "لا، ولكن فؤاد ومن يوم كنا في جيش الإنقاذ أخذ على عاتقه مهمة حمايتي، ولذلك يرافقني دائماً". وتابع حديثه واصفاً فؤاد بالشجاعة والإقدام، وبأنه لا يخشى شيئاً، ثم أعقب هذا الوصف قائلاً: "ولما كان العم عبدالمسيح يعرف فيه هذه الصفات، طلب منه أن يقتل العقيد عدنان المالكي، أو الزعيم شوكت شقير". وما أن أنهى غسان عبارته هذه حتى انتابني رد فعل مستنكر ومستغرب فقلت له: "شو القصة؟ غسان "العم" مجنون،، هذا يريد أن يورط الحزب، ولا ندري بماذا يورطه؟ هذه مسألة لا يمكن السكوت عنها، يجب أن نواجهه ونضع حداً لهذه المسألة". حاول غسان تهدأتي قائلاً: "أنت تعرف جيداً أن العم مبهوَر، ويحب البهورة أمام الآخرين، وجد في فؤاد صفات الشجاعة والإقدام، فحدثه بشيء يعزز عنده البهورة. وعلى كلٍ قال لي فؤاد كل ما قاله له فحذرته ومنعته، ويمكن أن تعتبر أن هذا الموضوع انتهى". فقلت له: "يا غسان، لا يكفي هذا، إن كان هذا الموّال برأسه فسيقوم بتحريض غيره حتماً". فأجابني غسان: "يا أمين عصام، إذا كنا سنثير معه هذه المسألة، فهذا يعني أننا سنصطدم به، وأنت تعرف أننا والحالة هذه لن نبقى في مجلس العمد. على من نترك الحزب؟ على كامل حسان؟". ثم تابع مستهدفاً طمأنتي: "أنا عميد الدفاع، وأنت منفذ عام دمشق، وهذا يعني أن أي اتصال من هذا النوع لا بدّ أن نعرف به، وأنا بتقديري المسألة بهورة ببهورة، فؤاد يتردد عليه، وسمع له هذا الكلام، ولكنه لم يأخذ هذه المسألة على محمل الجد، ولم يفكر فيها ولم يبدُ منه أنه يتابعها". وتابع قائلاً: "والحالة هذه، لا أرى داعياً للاصطدام به". والواقع أن كلام غسان هدأني إلى حد ما، خصوصاً أني متيقن من معرفتي ببهورة عبدالمسيح، وكيف شيّد أسطورة سمعته على أحاديث تبرز فيها صفات العنف والقساوة، حيث ما يني يكرر هذه الصفات وخصوصاً أمام الطلاب، وبسبب معرفتي فيه هذه البهورة اعتبرت كلام غسان معقولاً، وطوينا البحث، وافترقنا كل إلى منزله عند بناية كسم وقباني. المشهد الثاني الذي استرجعته ذاكرتي، كان مرتبطاً بما حدث في جلسة مجلس العمد بتاريخ 15 نيسان اليوم الجمعة الذي هو موعد دوري دائم، حيث اجتمع المجلس وتم التداول في جدول الأعمال الذي أذكر من بنوده مناقشة إقامة مهرجان للشهيد جهاد الأطرش الذي استشهد في حوادث الجبل وقمع قوى الجيش لحركة عام 1954، فتقرر أن ينقل رفاته إلى مكان شيدنا فيه له قبراً، وذلك ضمن احتفال هناك. وبينما نحن نشارف على ختام مناقشة جدول الأعمال، رن جرس الهاتف، فيأخذ عبدالمسيح السماعة، ثم يعطيها لغسان جديد قائلاً له "هذا لك". يتكلم غسان ويقول: طيب، طيب، قل له سآتي حالاً. ثم أنهى المخابرة وتوجه لنا قائلاً: "أكرم ديري مرّ الى البيت ليراني". وأكرم كان رئيساً للشرطة العسكرية، وغسان كان مسرّحاً بقرار صادر قبل يوم، فلا بدّ أن الأمر ينطوي على شيء ما، فتابع غسان كلامه: "أريد أن أعرف ماذا يريد هذا الحارور أكرم ديري"، فطلب منه عبدالمسيح الانتظار بضع دقائق ريثما يتم اختتام الجلسة، وفيما هو يعطي إيعازاً بذلك، اعترض كامل حسان قائلاً: "كيف نختتم الجلسة من دون أن ندرس مسألة الصدام بيننا وبين البعثيين الذين يعتدون علينا، البارحة قتل لنا الرفيق محمد أمين جمعة في دير الزور، ألا يجب أن ندرس هذا الموضوع ونعرف كيف نرد عليهم؟". وبالفعل كانت وقعت حوادث عدة مع البعثيين في حارم وحمص إضافة الى دير الزور، وهذا ما دفع كامل حسان للإلحاح أيضاً قائلاً: "ليس ضرورياً اختتام الجلسة" غير أن عبدالمسيح نهره قائلاً: "هيدا الحكي ما بينحكى بالمجالس، باسم سورية وسعادة أختتم أعمال الجلسة".انتهت الجلسة بهذه الطريقة، ونزلت مع غسان الذي اعتاد أن يوصلني بسيارته، ونحن على الدرج قلت له: "ما هذا الكلام الذي قاله عبدالمسيح؟ حكي ما بينحكى بالمجالس؟ وما هذه اللهجة التي يتكلم بها؟ إذا ضمن المجالس لا تبحث هكذا مواضيع فأين تبحث إذاً؟ أين سنبحثها؟ هذا الرجل يرتب لأمر ما!! أنا يا غسان لن أسكت، هذا الرجل في ذهنه شيء ما لا يريد أن يقوله في المجالس...؟". وأنا اتخذت قراري بالمواجهة. هواجس مع المجلس الأعلى انقضت بضعة أيام، قبل أن تتوافر فرصة اللقاء مع أعضاء المجلس الأعلى في بيروت، وذلك كي أنقل لهم ما أهجس به وأفكر تجاه عبدالمسيح وما يرتبه. وبالفعل اتصل سعيد تقي الدين مبلّغاً أن المكتب السياسي لشعبة بيروت سينعقد يوم الأربعاء 20 نيسان، وأن على عميد الإذاعة الذي هو عضو في هذا المكتب بحكم صفته، الحضور، وبالفعل ذهبت الى بيروت، وتم عقد الجلسة التي يحضرها عادة رئيس المجلس الأعلى عبدالله قبرصي وناموس المجلس الأعلى إنعام رعد، وبعد أن انتهت أعمال الجلسة، اجتمعت معهما ونقلت هواجسي وارتياباتي من أنه يوجد شيء ما، لا أعرف ما هو، وكيف...؟ فطلبت أن يوضع هذا الأمر على جدول أعمال المجلس، لتتم إثارته وأقول ما عندي، ويتم اتخاذ قرار بقطع الطريق على عبدالمسيح، الذي لا بد أنه يفكر بشيء ما مريب. وتم الاتفاق على إدراج هذه المسألة على جدول أعمال المجلس الأعلى الذي من المقرر أن ينعقد يوم السبت في 23 نيسان. بعد انتهاء جلسة المكتب السياسي، نمتُ في بيروت، وكما هي عادتي أنزل في نادي الخريجين الذي كان يديره الرفيق جوزف رعد شقيق إميل رعد، وصباح الخميس صادفني الرفيق المحامي نظمي عزقول فقال لي بأنه سر لأنه رآني في بيروت، حيث تنظم منفذية صيدا يوم الجمعة محاضرة لسعيد تقي الدين، والقوميين الاجتماعيين في المنفذية بشوق للتعرف على عميد الإذاعة والتحدث معه، وعلى ذلك طلب مني الحضور الى منفذية صيدا. فأجبته أنني أنا أيضاً بشوق للتعرف إلى رفقاء صيدا، ولكن عندنا مجلس عمد دوري في دمشق، ومن الممكن أن نتصل برئيس الحزب من أجل تأجيل الاجتماع. في الوقت نفسه، كان غسان جديد في بيروت، فجاء لرؤيتي، وسألني إن كان غداً يوجد مجلس عمد، وإن لم يكن كذلك فإنه سيظل في بيروت هو أيضاً. فنقلت له ما دار بيني ونظمي عزقول، فتداولنا بشأن الاتصال بعبدالمسيح، واتفقنا على أن يمر علي مساء، وأكون أنا حينها قد قررت إن كنت سأبقى أو لا. العودة الى دمشق مع عبدالله سعادة لم أكن على معرفة وثيقة بالأمين عبدالله سعادة، فأنا أعرفه بالاسم، كما رأيته في لقاءات عابرة وعامة، ولذلك عندما أتى ليزورني في مساء الخميس ويسلم علي، سررت جداً لأني بشوق للتعرف إليه عن قرب. وفي هذا اللقاء أخبرني أنه مسافر الى السعودية غداً صباحاً، ولذلك سيضطر الى السفر الى دمشق هذه الليلة للاجتماع مع عبدالمسيح، ويريد أن يعرف أوضاع الحزب مني وذلك قبل اجتماعه معه. ولذلك عرض علي أن أرافقه الى دمشق، وفي الطريق نتحدث وأضعه بصورة الوضع الحزبي الراهن. وبسبب شوقي للتعرف إليه وافقت فوراً على مرافقته. ولذلك عندما جاء غسان بلّغته بأن لا داعي لإبلاغ عبدالمسيح بتأجيل الاجتماع وبأني ذاهب الى دمشق الآن. فقال لي إنه لن يذهب مساء، وإنما سيكون في دمشق صباح الجمعة باكراً. وهكذا ترافقت مع عبدالله سعادة طوال الطريق من بيروت الى دمشق، حيث تركته يجتمع مع عبدالمسيح، وعرفت لاحقاً أن الاجتماع استمر حتى الثالثة صباحاً، حيث عاد عبدالله الى بيروت، ومنها الى السعودية، بينما انعقد مجلس العمد في موعده الدوري، وتلقى خبر اغتيال المالكي، وكان ممكناً ألاّ يعقد، وأن أبقى في بيروت، وأزور صيدا، وكذلك غسان جديد، ولكن مصادفة عبدالله سعادة والشوق إلى التعرف إليه ثبت موعد مجلس العمد الدوري، وجاء بي إلى دمشق ليلة الخميس 21 نيسان. واستكملت تداعياتي، بواقعة أخرى، حدثت يوم الأحد في السابع عشر من نيسان، ذكرى الجلاء، عندما كنت في مكتب الجريدة مساء، وإذ برفيق من لبنان، لم أعد أذكر إن كان بشير عبيد أو إميل رعد، دخل ليسلّم علي، وبدأ يتحدث بأنهم يتابعون أو يرصدون تحرك شوكت شقير عندما يزور بلدته في قضاء المتن الأعلى، ولما قلت له باستهجان ماذا تتابعون؟ فهم أني لست بصورة هذا الأمر، فطمس الرواية ولم يكمل لي ما هو بصورته. وحينها توقفت عند هذه المسألة، فتذكرت ما حدث في مجلس العمد يوم الجمعة، والحديث مع غسان على الطريق، مما حفزني على المواجهة، وضرورة أن أنقل للمجلس الأعلى ما يدور بخاطري، وهو ما تم بعد ثلاثة أيام، بعد انعقاد المكتب السياسي في 20 نيسان كما ذكرت. تداعت هذه الحوادث في ذهني، بعد أن حلَلتُ في السجن، فوفرت لي المادة التي من خلالها بدأت أفكر وأحلل إنْ كان عبدالمسيح وراء الحادث؟ وعلى رغم أن الهواجس كانت تنتابني تجاهه، ونقلتها الى المجلس الأعلى، إلاّ أن ضغط الحادث والحزن العميق الذي أحاط بي، لم يدعني أصل إلى التحليل الذي يمكنني من تقرير مرجعية عبدالمسيح ومسؤوليته عن وقوع الحادث، بل إني وحتى يوم الاغتيال، وعندما سمعت بالخبر لم يتناه لي مباشرة ربط المسألة بعبدالمسيح، كل ما استحوذ على تفكيري حينذاك، أن رفيق قومي اجتماعي قتل العقيد عدنان المالكي. التحقيقات الرسمية بدأت التحقيقات الرسمية، وشرحت في مستهلها أوضاع الحزب ومفاهيمه ونظامه، وكيف ان هذا النظام هو الضابط لأي عمل يمكن أن يحدث، ولا يوجد عمل خارج مجال القرار الحزبي وسلطته، فكيف بحادث لا ينسجم مع مفاهيمه الاساسية فضلاً عن عدم بحثه في مجالس الحزب واداراته يمكن أن تنسب له؟ ثم أكدت ذلك بكوني عضواً في مجلس العمد، فضلاً عن كوني أحضر جلسات المجلس الاعلى، وفي المجلسين لم يبحث هذا الأمر أو تتم إثارته، بل إن مجلس العمد كان أول المفاجئين بالحادث عندما ورد خبر وقوعه. ومع اصراري على عدم علاقة الحزب بالاغتيال، تمت مواجهتي مع بديع مخلوف وعبدالمنعم دبوسي اللذين كانا يخضعان للاستجواب في تلك الاثناء. وفي هذه المواجهة التي رتبها أكرم ديري شخصياً قال لهما: "احكوا.. احكوا... ما زال يقول ليس لنا علاقة!!". فاضطرا الى إعادة اعترافاتهما أمامي، التي تشير إلى دور لعبدالمسيح واسكندر شاوي اللذين كانا يجتمعان اليهما في حلقة مع يونس عبدالرحيم، وان عبدالمسيح طرح في احد الاجتماعات مسألة اغتيال المالكي، وان يونس ابلغ كلاً منهما انه سيتولى التنفيذ، فالتفت اكرم ديري وقال: "ألا زلت تنكر الا علاقة للحزب". فقلت له: "انهم يقولون عبدالمسيح، وليس الحزب. فإن كان عبدالمسيح هو المسؤول عن هذا العمل، فهذا لا يعني أن الحزب له علاقة به". فأجابني مع "كلام جميل" "كيف لا يكون الحزب له علاقة، وعبدالمسيح هو رئيسه"؟ وعدت للاصرار على التفريق ما بين مسؤولية عبدالمسيح ومسؤولية الحزب، وتابعت في سبيل تأكيد هذا المبدأ، "إذا كانوا يقولون بأن مسؤولية الحادث تقع على عبدالمسيح، فنحن نساعدكم في إلقاء القبض عليه، دعوني اساعدكم لتضعوا ايديكم عليه، ويواجه هو بذاته مسؤولية ما يُنسب إليه. أنا لا أعرف صحة ما يقولونه عن مسؤوليته، وهو وحده قادر على اثبات أو نفي هذه المسؤولية. وأنا مستعد تماماً للمساهمة في أن يساعدكم الحزب على إلقاء القبض على عبدالمسيح، بتسليم نفسه". بوجه عام، ومن خلال منطقي في إفادتي، بدا أكرم ديري أنه أقرب كي يصدقني، فقال "طيب ماذا لديك؟". فقلت: "أعرف مسؤولي الحزب واشخاصه، وهنالك علاقة متينة ورؤية مشتركة بيني وبينهم، وباستطاعتي الكتابة لهم واقناعهم بتسليم عبدالمسيح، وهذه المسألة يمكن ترتيبها في الحزب لأنه يهمه أن تظهر الحقيقة ويسود العدل". انقضت أيام بعد هذا الحديث، ولم يأتني جواب، على رغم ان اكرم ديري قال لي سندرس المسألة ونبلّغك، على اني وعندما رأيته سألته فوراً: "شو صار؟" فقال لي: "شوكت شقير لم يرضى". ثم تابع قائلاً، وهو يعتبر قوله فضحاً لدوافعي: إن همّك تبرئة الحزب من الموضوع. فقلت لاكرم ديري: "هذا صحيح. أنا معني أن أبرئ الحزب لأني بالأصل موقوف لكوني مسؤولاً فيه، ولا شيء يُنسب إلي شخصياً في ما له علاقة بحادث الاغتيال، فمن بديهيات المسائل أن ترتبط براءتي ببراءة الحزب". وتابعت متسائلاً "دعوني اسألكم هل همكم أن تجرّموا الحزب أو تكشفوا الحقائق؟". فقال "طبعاً، همنا الحقيقة". فأجبته "فإذاً أنا اساعدكم لتكشفوا الحقائق، وتبرئة الحزب لا تحصل لمجرد اعتقال عبدالمسيح، بل إنه ومن خلال إفاداته يتبين في ما إذا كان للحزب علاقة أو لا، فإما ان يدين الحزب معه أو لا يدينه. وعلى ذلك فاني أوفر لكم المجال الذي يمكّن من ادانة الحزب إذا كنتم مقتنعين فعلاً ان الحزب له علاقة، وليس لديكم طريقة ثانية تستطيعون فيها الوصول الى هذه الإدانة. فعبدالمسيح هو الطريق الحصري لذلك". قلت ذلك، وكلي ثقة بأن عبدالمسيح وكيفما جاءت افاداته وأقواله لا يمكنه اثبات علاقة الحزب بحادث الاغتيال، ولا مسؤوليته عنه، ولذلك تمسكت بوجهة نظري محاولاً مرة أخرى ايجاد منفذ عملي لها، حيث قلت لاكرم ديري: "إذا كان الزعيم شقير لم يقبل، أتني بالاستاذ رياض المالكي وأنا اقنعه بالموضوع". مصافحة موجعة مع رياض المالكي في اليوم التالي، وفي القاعة الكبيرة التي كنا نضع فيها اغراضنا، دخلت، لأرى أكرم ديري الى جانب رياض المالكي. والواقع انه بيني ورياض جو من الصداقة والود، كنا نلعب كرة القدم في الفريق نفسه، أذهب الى الملعب بعدما أمرّ عليه الى البيت وبرفقتنا أخي نزار الذي يحمل لي أغراضي، وأخيه صبري الذي يحمل له أغراضه، ونترافق الى الملعب الذي كان مكان معرض دمشق الدولي الآن، وهناك كانت ملاعب "الفوتبول" الخضراء. إضافة الى اني اعرف عائلته: ابوه، وأخواته، ومنذ مدة كنت مدعواً عندهم على الغداء. نظرت اليهم، ثم اقتربت منهم، ولكن لم أبادر الى مدّ يدي للمصافحة، ولكنه بالمقابل، ومع ملاحظته لترددي، بادر الى مدّ يده فصافحته طبعاً. ولكنه قال لي "قد تستغرب كيف أمدّ يدي لاصافحك، أصافح اليدّ الملوّثة بدم أخي، وأنا الذي كنا حريصاً على صداقتنا التي ضربت بها عرض الحائط". فأجبته محتدّاً "استاذ رياض، أنا لو كان عندي فكرة انه بذهنك يدي ملوّثة بدم أخيك، كنت لا أسمح لنفسي بأن أصافحك". فتطلع اليَّ وقال "كفى... كفى كلام، ويكفيك اسلوب التغطية، كلّه أصبح معروفاً ومكشوفاً. الاميركان... اعترف من أجل الشباب رفقائك الذين اعترفوا وانهوا الأمر". فقلت له "استاذ رياض لم ولا أقول ان كان الاميركان أو غيرهم، ليس هذا الموضوع الذي أريد التحدث به، لقد واجهوني خلال التحقيق بدلائل تشير الى ان عبدالمسيح له علاقة، وبوصفي مسؤولاً في هذا الحزب، رأيت أن أعرض مساعدتي وذلك للتمكن من الوصول الى الحقائق، من طريق استجواب عبدالمسيح بعد أن يساعد الحزب على ان يقوم بتسليم نفسه. وعندئذٍ يتبيّن إن كان الاميركان هم وراء الموضوع أو غيرهم؟ فهذا شأن لا علاقة لي به، هنالك شخص رئيسي متهم، وعن طريقه وحده يمكن الوصول الى تبيان الحقائق، هذا ما أردت أن أقوله وأعرضه عليك، لا أكثر ولا أقل". عندها بادر الى سؤالي "وكيف ستسلّمه؟". فأجبته فوراً "أولاً أنا باقٍ هنا، لم ولا أطلب منكم الخروج من السجن، غير أني سأكتب بعض الرسائل الخاصة بمسؤولين في الحزب، واعرف كيف أخاطبهم واقنعهم بالفكرة ليقرروا، ويقوم أخي نزار بنقل هذه الرسائل لهم". وللأسف أخذ كلامي على محمل آخر، بعيداً عن مقاصده قائلاً لي "هل من أجل اخراج نزار من السجن - كان موقوفاً - وتجنيبه الحكم بالموت تعرض علينا هذا العرض". فأجبته "أخي نزار عضو في الحزب، ولكنه ليس مسؤولاً، وفي الحالات كلّها كان مريضاً ومعتكفاً في البيت". فأجابني بكلام غريب "هل تظن أنه يوجد أحد من بيت المحايري أو بيت الغميان - اهل أمي - سيبقى حياً. خوالك، خالاتك، عماتك، أعمامك، لن يبقى واحد منهم على قيد الحياة، دم عدنان المالكي ما بيروح هيك، لن نترك أحداً من هذه العائلة حياً، حتى بدنا نفنيكم". سمعت الى كلامه هذا، بينما كانت صرخات الموقوفين تملئ الآذان أنيناً من أعمال التعذيب المستمرة، وحسبت عندما طلبت مقابلته اني سأخاطب محامياً، فالتفتُ الى اكرم ديري متسائلاً: ما هذا الكلام؟ فرأيتُ ظلّ ابتسامة خفيفة مرسومة على محياه، قطع عليّ النظر اليها احتداد رياض مرة أخرى قائلاً بتوتر واضح: "كل الموجودين هنا في هذا السجن، كلمة مني الآن، يساقون للذبح. ولكني حريص ان تجرى المسألة ضمن إطار العدل. والجيش ينتظر مني كلمة واحدة فقط، وانتم هنا نذبحكم جميعاً". وأذكر انه كرر هذه العبارة لاحقاً في المحكمة، وتجاه هذه الطريقة في الكلام سكتّ، فتابع هو: "انصحك أن تحكي وتعترف. ونحن نعرف انكم تجاوزتم الحدود كثيراً. فتحتم بيوتاً للشباب والبنات. وبهذا الألاعيب اللااخلاقية - قال كلاماً آخر - تطبقون الناس...". زادني كلامه سكوتاً، وصمتاً، وتأكدت ان هذا الطريق في الكشف عن الحقائق بات مغلقاً، انتهت مقابلتي معه، وعدت الى زنزانتي. التفريق بين مسؤولية الحزب ومسؤولية عبدالمسيح رسخ لديّ منهج التفريق أو الفصل ما بين مسؤولية الحزب، ومسؤولية عبدالمسيح، وذلك مع دخولي السجن، حيث تعززت هواجسي القديمة بعد ان استمعت الى إفادتي بديع مخلوف وعبدالمنعم دبوسي، وتيقّنت بأن التحقيق يتجه نحو عبدالمسيح حتماً. وبدا ذلك واضحاً منذ التحقيق الأولي الذي جرى معي، والذي تولاه المقدم محمد الرافعي وساعده محمد الجراح، الذي تولاه لاحقاً. والمقدم الرافعي كان قومياً اجتماعياً، هويته الحزبية لم تكن مطموسة، ولكنها لم تكن فاقعة ظاهرة. وكان يعمل في مكتب للمحاماة للأستاذ الراحل الرفيق غالب خوري شقيق العميد في الحزب، وأعرف محمد لأني كنت منفذاً عاماً لدمشق، كما تم تعيينه لاحقاً في الشعبة السياسية للحزب في الشام، وفي ما بعد التحق بالجيش وتسلم وظيفة النائب العام العسكري، وكان ان تولى التحقيق الاصلي معي قبل ان يعفوه من هذه المهمة. مع بداية التحقيق سألني السؤال التقليدي المعتاد: أين كنت ساعة وقوع الجريمة وماذا كنت تعمل ومن رأيت..الخ؟ وقد رويت أحداث نهار الجمعة، ومن ضمن ما رويت قصة اسكندر شاوي مع عبدالمسيح، وإجابته بأنه سمع اطلاق الرصاص من الراديو، وكذلك قصة أخي نزار الذي قال بأنه لم يسمع صوت الرصاص في الراديو، وتعليقي الاستفهامي إن كان اسكندر شاوي يكذب علينا؟ عند ذلك اذكر ان محمد الجراح التفت الي قائلاً: "لا يهم إن كان سمع الرصاص أم لم يسمع. ولكن ما هي العلاقة بين ان يسمع صوت الرصاص ويخفي أوراق العسكريين، ما هو الرابط؟". وعندها، انتبهت وكأني استيقظت من كابوس كان يعطل عليّ التفكير، فاجأني السؤال وغرقت في ذهول المكتشف ودهشته مما بدأ يراه. ولكن على رغم ذلك اجبت الجراح: ما بعرف. فكتب الجرّاح في محضر التحقيق بأنه تم توجيه السؤال إلى المتهم: ما هي العلاقة... فأجاب ما بعرف ولكن بدا عليه الذهول. وهنا يلتفت الرافعي ليقول له: "انا قلت لك هذا. إن عبدالمسيح لا يقول لهم مسائل من هذا النوع"، ويتابع محمد الرافعي مؤكداً على طريقته: "لا يقول لهم ذلك، لأن عصام مسلم، لن يقول له، انا قلت لك عصام ليس عنده خبر". وبقدر ما سررت فيه للتسجيل انه بدا عليَّ الذهول بقدر ما استعرضت من تفسير الرافعي وهو القومي الاجتماعي عندما يطرح ان الحزب يفرّق بين مسيحي ومسلم في ما يجب التداول فيه من الأمور العامة. هكذا نبهني محمد الجرّاح، الى المفتاح الذي يوفره جواب اسكندر شاوي، والذي يؤدي استعماله الى كشف ما كان غامضاً أمامي. ولذلك اقترحت على أكرم ديري طريقة للمساعدة في تسليم عبدالمسيح لنفسه، واستكملت بحث هذا الاقتراح مع رياض المالكي، ولكن من دون أن أتمكن من اقناعهم بذلك، وأيضاً لتمنّع شوكت شقير من الخوض في هذا السبيل. اقتراح اكرم ديري بعد أيام من اللقاء الفاشل والمخيّب مع رياض المالكي، جاءني اكرم ديري يقول "طيب يا استاذ عصام، انت قلت انك تكتب رسائل لبعض المسؤولين. اكتب هذه الرسائل ونحن نقوم بإيصالها". فقلت له "يعني ليس نزار أخي الذي سيقوم بهذه المهمة؟". فقال "لا ليس نزار، بل نحن". ومن المؤكد ان هذا العرض جاء نتيجة ترتيب معين وضعته الأجهزة في الجيش للوصول الى هدف معين. كتبت الرسالة، وأنا الحقوقي، بلغة دقيقة مضبوطة، لم أضمنها أي إشارة تدين عبدالمسيح، لأنه عندما أقول بأن عبدالمسيح له علاقة، فهذا يعني أني أعرف، في الوقت الذي لم أكن على معرفة، حتى اني لم أذكر رواية غسان جديد التي سمعتها منه، ولا أي حادثة أخرى يمكن أن تشكل شبهة بأن عند الحزب علماً بأي شيء. شددت في الرسالة على مفهوم الحزب وقيم الحق والعدالة، وعلى المرجعية الدستورية له، بحيث ان من يخرج على دستوره ونظامه، فعلى الحزب ان يسحب الغطاء عنه، ويخرج منه لينتهي ارتباط الحزب به. جورج عبدالمسيح متهم بأنه المحرض على اغتيال العقيد المالكي، وهو وحده المسؤول عن ضرب صورة الحزب وتبديد قوته. وعلى الحزب الذي يحرص على مبادئه وأخلاقه وقيمه، وعلى صورته تجاه الرأي العام، وتجاه نفسه، وفي سبيل تعزيز موقفه، عليه أن يعمل على تسليمه. لأنه وكما نحن موجودون في السجن، فلا بأس أن يكون عبدالمسيح أيضاً. وليكن هو من يواجه الاتهامات ويوضح ما يمكنه إيضاحه وما يملك من معلومات، فهو أقدر على كشف الحقائق، وما يقع على المسؤولين الآخرين يقع عليه، بهذا فقط يكون قد قام بواجبه القومي العام، وقام بواجبه تجاه نفسه. الرسالة في الصحف بهذا المعنى، وبلغة وعبارات منتقاة بدقة، كتبت الرسالة، التي لم أشأ تزيين الحزب فيها وصورته حتى لا استفزهم، ولكن وفي الوقت نفسه أظهرت حقيقة ان الحزب متمسك بقواعد دستورية، وأصول نظامية، ومبادئ أخلاقية. طبعاً، لم تسلّم هذه الرسالة باليد لأحد، وإنما نشروها، على ما اعتقد، في مجلة "الجيش والشعب" التي كانت تصدر بشكل اسبوعي. وتركت صدى إيجابياً في الأوساط العامة، وأذكر أن خالي زارني مرة في السجن وقال لي ان اوساط "نادي الشرق" تأثروا برسالتك، وبدأوا يتداولون كلاماً يؤكد ان عصام المحايري لا علاقة له بالموضوع، وأكّد خالي ان الرسالة استطاعت اعطاء الرأي العام فكرة صحيحة وعادلة عن المسألة، تقوم اساساً على الفصل ما بين مسؤولية عبدالمسيح ومسؤولية الحزب وتفك الارتباط بينهما. بالتأكيد، أزعجت الرسالة عبدالمسيح، وتبين ذلك من خلال جريدتنا، التي أخذت تصدر من بيروت، حيث ظهر في أحد أعدادها رسماً كاريكاتورياً لي يُظهر المسدس مصوباً نحو رأسي وأنا أكتب، مع تعليق يشكك في قدراتي وتماسكي، ومن أني سمحت لنفسي أن أدين عبدالمسيح، في الوقت الذي لم ادنه، ولا استطيع حتى على إدانته. ولكن اوساط عبدالمسيح بدأت بحملة تتهمني فيها بالتهاوي في السجن، والاستسلام، والضعف، والانهيار. والحقيقة كانت معكوسة تماماً، إن كان في إفاداتي، أو في لقاءاتي، والتي سبق وذكرت واحداً منها مع رياض المالكي مثلاً. لقد كنتا معروفاً ومشهوراً بحدتي وعنفواني. قال لي المالكي قبل اسبوع: كاسك، وانا قلت للسراج انت قومي؟ ومن دون أن أهجس في تبيان مقدار تمالكي لأعصابي وتماسكي، وهو أمر صار معروفاً، كصفة مميزة فيّ وبارزة، أذكر في إحدى المرات أكرم ديري يقول لي "هيك من اسبوع كان عدنان يشرب كاسك..". وبالفعل، كنت مرة في مطعم مطار المزة الذي يتعهده خالي، حيث أتردد للسهر فيه كثيراً من الليالي، وكان في تلك الليلة أكرم ديري وعدنان المالكي وعبدالحميد السراج مع ضباط آخرين يجلسون الى طاولة قريبة من تلك التي أجلس اليها مع خالي. وإذا بعدنان المالكي ينظر الي ويرفع كأسه قائلاً: "عصام سأشرب كأسك وليس كأس من تمثلهم"، فأجبته "أنا والذي أمثله واحد". فرد علي "على كل ٍ سأشرب كأسك انت". هذه الحادثة واجهني بها اكرم ديري بهذا الاستنكار الصادر عنه "هيك، بيشرب كاسك من اسبوع وانت تقتله؟!"، فقلت له "كيف حكمت على هذه المسألة؟ بل بالعكس، ما دام قبل اسبوع شرب كأسي، فهل من الممكن أن اقتله؟ عليك ان ترى الصورة معكوسة، فأنا لا أسمح لنفسي بتفكير من هذا النوع؟". وكان في هذا المواجهة الى جانب ديري عبدالحميد السراج، حيث كانا يريدان مني معلومات عن التنظيم العسكري، وأصررت على عدم وجود هكذا تنظيم، وأصرّ السرّاج على انه يجب عليّ اعطاء معلومات عن هذا التنظيم متوعداً مهدداً بكشف اسمهم، عندها قلت "إن كان عندنا تنظيم عسكري، فأنت أول الاشخاص المفترض أن تكون مطّلعاً عليه" فسأل باستغراب وحذر "لماذا؟". فقلت له سأذكرك بواقعة تثبت حجتي. وقلت "في مطعم مطار المزة، كنت مرة مع اديب الشيشكلي وبعض الضباط الآخرين، وكنتُ أنا الى طاولة ثانية، إلاّ ان الشيشكلي أصرّ علي ان اجلس معكم، وجلست بناءً لرغبته. وأثناء ذلك، ذهب الشيشكلي ليقضي حاجة، فالتفتّ اليَّ أثناء غيابه وقلت لي: أنا وصلاح الشيشكلي استقبلنا انطون سعادة في محطة حمص". وتابعت قائلاً: "فمن خلال حديثك معي في المطعم أوحيت لي وكأنك قومي، فلو كان عندنا تنظيم عسكري، لكان جاء من يتصل بك وينظمك، وهذا الأمر لم يحدث معك. فأنا أعرف أنه يوجد ضباط قوميون، وضباط يحبون الحزب، ولكنهم ليسوا منظمين لعدم وجود تنظيم. وحين تعرفت إليك كان من الممكن ان تكون قومياً، ولكن مثل غيرك غير منظّم". وقع عليه هذا الكلام كالصاعقة فأربكه ولم يجد إلاّ ان يقول لي "انا قلت لك لم أرض أن أذهب، وحسبي اني كنت أجاملك"، فأجبته: "يا سيادة المقدم، كنت جالساً معكم وتريد مجاملتي، فهل من المعقول أن تقول لي لم أذهب، وتريد بها مجاملتي، بل إنك أوحيت لي أنك ذهبت فعلاً". واجهت السرّاج بهذا الكلام، على مسمع من أكرم ديري الذي عمد الى نشره في جريدة "الجيش والشعب" بعنوان كيف حاول صلاح الشيشكلي أخذ السرّاج الى استقبال سعادة؟ وبسبب هذه المواجهة، وتسريبها الى الرأي العام عبر اكرم ديري، أخضعني السرّاج لبرنامج منهجي من التعذيب، كان المكافأة اللائقة لتماسكي، والثمن المحترم لثبات موقفي. في الوقت الذي كان عبدالمسيح وأوساطه يروجون الأخبار عن انهياري المزعوم!. ولم يكن تعبيري عن موقفي الصارم من هذه المسألة، التي ابتدأت باغتيال المالكي، مقتصراً على تلك المواجهات المستمرة مع المحققين والجلادين، بل يبدو هذا الموقف واضحاً ودقيقاً وعلى غاية من التماسك في إفاداتي، وخصوصاً مرافعتي التي وصلت الى 110 صفحات كتابة. والتي شكلت بمضمونها دفاعاً جعل المحكمة غير قادرة على إدانة الحزب على رغم وضوح الرغبة في ذلك، وهو ما جعل القاضي جلال عقيل يقول لي في نهاية التحقيق "عصام، من هو محاميك؟" قلت "ليس لدي فكرة عمن سيكلفون أهلي" فقال لي "اسمع مني، لست بحاجة الى محام، عندك 110 صفحات، ولا يوجد فيها ثغرة، أنت محامي نفسك". فأجبته "قد لا يقتنع أهلي بذلك، ويكلفون واحداً". وعندما شكل الحزب لجنة من الحقوقيين ليعدوا دفاعاتهم، قرأ عبدالله قبرصي إفاداتي، وبعث لي بكلام يقول فيه، لو أنك غير موقوف، لكان من الواجب أن يبعثوا بك ليوقفوك. ولكني موقوف على كل حال، ومنهج الفصل بين عبدالمسيح والحزب أدى ثماره، حيث برئ الحزب، وأدين عبدالمسيح من حزبه، مع ادانته من المحكمة أيضاً. بعد مضي أكثر من شهرين على التحقيق، يتم استدعائي لأفاجأ بمجموعة من الضباط يحيطون بالسرّاج وأكرم ديري في غرفة التحقيق. ويبادرني جاسم علوان بينهم، فيطلب مني أن أجلس وأجيب على اسئلته، وانه يكفيني مراوغة وتمايلاً. جلست إلى طاولة صغيرة، وأخذت أجيب كتابة على أسئلة املاها عليّ جاسم علوان، ومنها سؤال حول كون القاتل سورياً قومياً، فما هي الصلة التي يمكن ان تكون دفعته لقتل المالكي، غير هويته الحزبية، كان جوابي الهادئ هو ان هذا السؤال ينبغي ان يوجه ليونس عبدالمسيح وليس لي، فأنا لا يمكن ان أعرف الصلة أو الدافع لديه، ويزمجر العسكريون بغضب، ويمضي علوان في طرح اسئلته على هذا النمط واستمر في الأجوبة على النمط نفسه. كان علوان واقفاً وراء ظهري وهو يطرح اسئلته، وفجأة شعرت بحركة وبرجل تلبطني والتفت لأرى علوان شاهراً مسدسه وبعضاً من الضباط يمسكون به لمنعه من إطلاق الرصاص، واسمع السرّاج يقول له: "ليش انت وحدك تقتله، خلينا ناخذه الى نادي الضباط وهونيك خلي ميات الرصاصات تطلق عليه من الضباط فكلهم يلحّ على ذلك". وبالفعل أخذوا بي خارج القاعة إلى باب السجن وقاموا بفتحه وانتحوا يتداولون في ما بينهم، وبعدما يقرب من عشر دقائق عاد السرّاج يلتفت إليّ، ويقول لي: "سنترك لك اوراقاً ونريد أن تكتب لنا اعترافاً كاملاً يوم غد. ولعل المحكمة ترأف بك، اذا ما اعترفت، وإلاّ فإننا سنأتي يوم غد ونمضي بك إلى نادي الضباط ليتم قتلك علانية". وأعود إلى زنزانتي ومعي الاوراق التي كتبتها جواباً على اسئلة جاسم علوان، ولا أضيف إليها أي شيء ويأتي في اليوم التالي بهجت المسوئي، المكلف بالتحقيق معي لتسليمها له.