تطور التحرك الشعبي الفلسطيني في الأشهر الماضية بشأن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم، وانتقل من مرحلة التعبير عن القلق والخوف، إلى مرحلة التحرك العملي الايجابي دفاعاً عن هذا الحق، وايصال الصوت الشعبي بشأنه إلى كبار المسؤولين في مختلف عواصم العالم. الخوف الشعبي الفلسطيني والعربي من التفريط بحق العودة، بدأ منذ الاعلان عن اتفاق أوسلو، إذ على رغم ذكر قضية "اللاجئين" في نص الاتفاق كقضية ستبحث في مفاوضات الحل النهائي، إلا أن ذكرها هكذا بشكل غير محدد المضمون أثار قلق الآلاف بل الملايين، فاتفاق أوسلو ذكر أن القضية ستبحث ولكنه لم يحدد بأي وجهة سيكون هذا البحث، وجهة حق العودة؟ أم وجهة التوطين والتعويض؟ أم الوجهة الانسانية التي تركز على تحسين أوضاعهم المعيشية؟ وزاد من هذا القلق أن الاتفاق لم يحدد مرجعية للبحث في موضوع اللاجئين، وهل تكون هذه المرجعية ممثلة بشرعة حقوق الانسان، أو الشرعية الدولية ممثلة بقرار الأممالمتحدة الرقم 194 الصادر عام 1948؟. وتفاقم القلق عندما أعلنت اسرائيل في وسائطها الاعلامية أنها ترفض حق العودة، وانها أوكلت إلى هيئة رسمية تحديد أعداد وأملاك من اسمتهم "اللاجئين اليهود" من البلاد العربية إلى دولة اسرائيل، حتى تكون هناك مقايضة بين اللاجئين الفلسطينيين واللاجئين اليهود. محطة ثانية ركزت الأنظار على هذه المخاوف، هي محطة المفاوضات التي دارت في لجنة اللاجئين و"المنبثقة عن المفاوضات المتعددة" التي انبثقت عن "مؤتمر مدريد" وأصبحت موازية للمفاوضات الثنائية. ففي تلك اللجنة التي ترأسها كندا، جرى في الجلسة الأولى، وبغياب اسرائيل، ادراج القرار الرقم 194 كأساس للبحث في موضوع اللاجئين، أما في الجلسة الثانية، وبحضور اسرائيل، فقد جرى شطب هذا البند، وبدأ تركيز البحث منذ ذلك الحين على المشاريع الانسانية تعليم، صحة، سكن التي تحسن من حياة اللاجئين وبخاصة داخل المخيمات. ولكن أضخم نقلة اهتمام شعبي بموضوع اللاجئين وحق العودة كانت حين بدأت رسمياً قبل أشهر مفاوضات الحل النهائي بين السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية. شعر الجميع آنذاك أن القضية تجاوزت مرحلة التوقعات، ودخلت مرحلة البحث في التنفيذ. ومع أن السلطة الفلسطينية أعلنت رسمياً أنها تتمسك بحق عودة اللاجئين على أساس القرار 194، وطرحت ذلك رسمياً مع الوفد الاسرائيلي إلى المفاوضات، إلا أن الثقة الشعبية بالاصرار على هذا الموقف لم تكن كبيرة، ويعود السبب الأساسي في ذلك إلى أسباب عدة أبرزها. أولاً: تعوّد المواطن الفلسطيني والعربي على أن السلطة الفلسطينية، ومهما أعلنت من مواقف سليمة ومشددة، إلا أنها تعود في النهاية إلى قبول الموقف الاسرائيلي والرضوخ له، وساد جو من الخشية من أن يتكرر ذلك في موضوع عودة اللاجئين. ثانياً: إعلان مسؤولين كباراً في السلطة الفلسطينية لتصريحات تتلاعب مع مضمون حق العودة، وتفسره على أنه حق العودة إلى الدولة الفلسطينية حين يتم انشاؤها وليس إلى الأرض الفلسطينية التي تم تشريد الفلسطينيين منها، ،هي الارض التي انشئت فوقها دولة اسرائيل عام 1948. ثم كانت هناك تصريحات أخرى تتلاعب في مضمون شعار رفض التوطين، وتفسره على أساس أن اللاجئ الفلسطيني الآن سيحمل في المستقبل جنسية الدولة الفلسطينية، ولن يكون في هذه الحال لاجئاً حيث هو وحيث سيبقى. بل مهاجراً مثل غيره من المهاجرين العرب من هذا البلد إلى ذاك. ثالثاً: اعلان اسرائيل رسمياً بأنها ترفض حق العودة، وتطالب بتوطين اللاجئين حيث هم، وتطالب بانشاء هيئة دولية لتعويض اللاجئين، واسرائيل جزءاً من هذه الهيئة، لأنها ليست مسؤولة عن مأساة اللاجئين، وتدعّم هذا الموقف الاسرائيلي بمواقف اميركية وأوروبية وكندية تبحث مع بعض الدول العربية بشروط وكلفة توطين اللاجئين حيث هم، حتى أن تنافساً خفياً برز بين بعض الجهات العربية والفلسطينية حول من يحق له التحدث باسم اللاجئين، طمعاً بمبالغ التعويضات، والتى قيل أن الجزء الأكبر منها يجب أن يدفع للحكومات لا للاجئين الفلسطينيين، حتى تعوض ما صرف عليهم سابقاً، وحتى تذهب إلى مشاريع انمائية تحسن من أوضاعهم الاقتصادية لاحقاً. رابعاً: بروز نظرية تفاوضية جديدة، بادرت إليها اسرائيل، ودعمتها الولاياتالمتحدة مفاوضات قاعدة بولينغ وخلاصتها: تجزئة الحل في المرحلة النهائية، حيث تصبح أمام حلول مرحلية متلاحقة، وليس أمام حل نهائي. ويتم من خلال هذه التجزئة تقسيم القضايا إلى قضايا يمكن الاتفاق بشأنها الآن المياه - الحدود- السيادة، وقضايا يصعب الاتفاق بشأنها اللاجئون - القدس فتؤجل للمستقبل، أو يجرى التوافق ضمناً على ادارة مفاوضات مديدة لا تنتهي بشأنها، وهو نوع من التواطؤ الذي يوازي التفريط. ويبرز مجموع هذه الوقائع أن الخوف الشعبي الفلسطيني والعربي من التفريط بحق العودة هو خوف من مبرر، وليس مجرد اتهام للمفاوض الفلسطيني أو شكٍ به من قبل المعارضين لاتفاق أوسلو، وهم كثر كما يبرز من خلال هذه الوقائع، ان الخوف الشعبي، والذي بدأ كمجرد شعور بالقلق، بدأ يتنامى مع تطور الاحدات والمواقف ليصبح نوعاً من القناعة، بأن هناك خطراً فعلياً يتهدد حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى وطنهم، وأن المفاوض الفلسطيني ليس مؤهلاً لمواجهة هذه المسألة. وفي مواجهة هذا الخوف وتطوراته المتصاعدة، بدأت تتبلور داخل تجمعات اللاجئين في كل مكان وفي كل بلد، فكرة الحاجة الى تحرك شعبي منظم يطرح المسألة علناً، ويظهر مقدار تمسك الناس بها وحرصهم عليها، ويتطلع من خلال كثافة التحرك الى فرض مسألة حق العودة على جدول أعمال التفاوض، ويبين أن أي حل آخر مثل التوطين أو التعويض أو التأجيل هو حل غير مقبول، وينذر بأن أي تسوية سياسية هي تسوية فاشلة إذا لم تتضمن هذا الحق ووسائل تنفيذه، وتنذر كذلك بأن أي حل مفروض من هذا النوع يحمل بذور فشله في داخله، ولن يكون سوى ممهد لانفجار العنف في المنطقة من جديد. بدأت هذه التحركات الشعبية صغيرة، وحية في البداية، وعلى شكل لجان تطالب بحق العودة داخل المخيمات الفلسطينية في مناطق السلطة، وفي مخيمات الأردن بشكل خاص، ثم داخل تجمعات الفلسطينيين في لبنان وسورية. وامتد هذا النوع من التحركات إلى تجمعات الفلسطينيين في بلدان أوروبا وأميركا. ومع الزمن، ومع كل موقف سلبي يبرز، كان النشاط الشعبي الفلسطيني يزداد ويتعزز ويتبلور. اتخذ هذا النشاط في البلاد العربية شكل التأخير من خلال اللجان والمؤتمرات والندوات والبيانات، واتخذ في أميركا وأوروبا شكلاً آخر يقوم على إعلان العرائض وجمع التواقيع عليها بهدف ايصال صوتها إلى كبار المسؤولين في العالم وكبار المسؤولين في البلاد العربية. وارتبط هذا التحرك بتوجهات لرفع دعاوى فردية تؤكد حق الملكية لأراض وبيوت داخل دولة اسرئيل الآن وتطالب بالحق في استعادة هذه الملكية. وكان من أبرز التحركات في هذا المجال ثلاثة تحركات: أولاً: تحرك "عريضة المائة" التي أعلنت في 4/3/2000، من خلال عريضة تطالب بحق العودة، نشر نصها في وقت واحد في الضفة الغربية، والأردنولبنان والكويت ومصر ولندن. ولدت فكرة العريضة في ندوة نظمتها الجالية الفلسطينية في لندن التي يرأسها أستاذ كرسي هندسة الكهرباء في جامعة برونيل البروفسور خليل هندي، وكان المحاضر في الندوة الدكتور سلمان أبو سنة أحد أبرز الباحثين في شؤون اللاجئين والقضايا القانونية والسياسية المتعلقة بحق العودة، وبعد أن تحدث ابو سنة، نصبت مداخلات الحضور حول سؤال ما العمل؟ وبرزت من خلال النقاش فكرة العريضة، وجرى التوافق على ضرورة اطلاقها. كانت الندوة، وما جرى بداخلها من نقاش، نموذجاً عن الحال النفسية التي يعيشها الجمهور الفلسطيني في كل مكان، وأبرزت المناقشات رغبة واضحة بتحويل النقاش إلى عمل، واتفق أن يكون العمل كالاتي: - أن تبادر مجموعة من الاشخاص إلى تبني فكرة العريضة وصياغة مضمونها. - أن يتوافر في هؤلاء الاشخاص المبادرين ثم اطلاق اسم اللجنة الراعية عليهم أن يكونوا من أكثر من بلد حيث يوجد الفلسطينيون. - ان يتم جمع مئة توقيع على العريضة من أشخاص فلسطينيين معروفين، يتولون تقديم هذه العريضة الى الهيئات الدولية والعربية. في مجلس الامن، والامم المتحدة، وجامعة الدول العربية والحكام العرب، ومنظمات المؤتمر الاسلامي والوحدة الافريقية. أن يتم في مرحلة لاحقة تقديم العريضة للتوقيع الشعبي الواسع. لقيت العريضة عند الاعلان عنها تحبيذاً واسعاً من جهات كثيرة. وبادر الكثيرون للاتصال من أجل وضع تواقيعهم عليها، وكتبت مقالات عربية محبذة لها، ومنتقدة لبعض جوانب القصور أيضاً. منها المقال الذي كتبه الياس خوري في بيروت مؤيداً وداعياً الى اشراك المواطنين العرب في التوقيع عليها. ومنها مقال فهمي هويدي في القاهرة محبذاً ومؤيداً لفكرة العريضة وشارحاً لمضمونها. ومنها مقال معتصم حمادة في دمشق مؤيداً ومنتقداً غياب تمثيل الفلسطينيين في العراق، وداعياً هو أيضاً الى المشاركة العربية في هذا النشاط. وكانت هناك مقالات أخرى معارضة، تتهم العريضة وأصحابها بأنهم يعلمون لحساب اتفاق أوسلو، ولحساب التطبيع مع اسرائيل. ولكن العريضة أثبتت في النهاية تأييد الغالبية لأي نشاط في هذا الاتجاه، والحاجة إلى من يبادر لتأكيد العمل حول حق العودة. ثانياً: وكان هناك تحرك آخر بادر اليه الفلسطينيون في الولاياتالمتحدة، وهو تحرك منفصل عن تحرك "عريضة المائة" وإن كان يلتقي معه في الهدف، ويثبت أن الفلسطينيين، ومهما تباعدت أماكن اقامتهم، تقلقهم قضية حق العودة، ويشعرون بضرورة التحرك من أجلها، خوفاً عليها. وانتظم هذا التحرك في الولاياتالمتحدة تحت ادارة "مجلس حق العودة واستعادة الممتلكات الفلسطينية" COUNCIL FOR PALESTINIAN RESTITUTION AND REPATRIATION واختصاره CRRR. واطلق هذا التجمع عريضة مختصرة، وقدمها للتوقيع الشعبي الواسع ، واستطاع أن يجمع عليها حتى الآن حوالى 25 ألف توقيع فردي، بالاضافة إلى تواقيع اكثر من 130 هيئة شعبية فلسطينية تؤيد هي أيضاً حق العودة. ومن أهداف هذا التجمع أن يستغل واقع حمل المئات من الفلسطينيين للجنسية الاميركية، وان ينظم عملية تجميع وثائق ملكيتهم لأملاكهم في فلسطين، وأن يشجعهم على رفع دعاوى أمام المحاكم الاميركية، للمطالبة بحقهم في استعادة أملاكهم، وهو حق يضمنه القانون الاميركي. ويقول أصحاب هذا النشاط أن الفوز بقضية ملكية واحدة في الولاياتالمتحدة، يصبح سابقة من أجل نيل أحكام مماثلة للعشرات بل للمئات والآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، مع ما ينطوي عليه ذلك من احراج لاسرائيل التي ترفض عودة أي لاجىء فلسطيني، كما ترفض أن يكون له حق تسلم أملاكه والتصرف بها. ويتعاون مع القائمين على هذا المجلس مجموعة من المحامين الذين عملوا في قضايا البوسنة، وكوسوفو، وجنوب افريقيا، ولهم خبرة واسعة في ميدان قضايا عودة اللاجئين وحقوق الملكية. ثالثاً: التحرك الثالث في هذا المجال، هو تحرك البروفسور وليد الخالدي بشأن أرض السفارة الأميركية في القدس. من المعروف أن الولاياتالمتحدة اشترت من اسرائيل أرضاً في القدس لتقيم عليها سفارتها هناك اشترت الأرض لمدة 99 سنة بدولار واحد ومن المعروف أن الكونغرس الأميركي صوت بما يشبه الاجماع على قانون يفرض على رئيس الولاياتالمتحدة نقل السفارة الأميركية من تل أبيب الى القدس باعتبارها عاصمة لاسرائيل في مدة أقصاها أيار مايو 1999، وهو موعد انتهاء تطبيق اتفاق أوسلو، وأعطى القانون للرئيس حق التأجيل إذا كان في ذلك مصلحة للولايات المتحدة. وقد قام البروفسور وليد الخالدي بجهد دؤوب خلال الاشهر السابقة حول ملكية الارض المخصصة للسفارة الأميركية في القدس ووصل الى الحقائق الآتية: - أرض السفارة التي اشترتها الولاياتالمتحدة من دولة اسرائيل هي في70 في المئة منها ملك للوقف الاسلامي. - ال30 في المئة الباقية هي ملك لأشخاص فلسطينيين عددهم 76 شخصاً، موزعين على 19 عائلة، من بينها 4 عائلات مسيحية و15 عائلة مسلمة، وعدد ورثة هؤلاء المالكين يبلغ المئات وتم العثور عليهم، وتبين أن90 منهم يحملون الجنسية الأميركية، و43 يحملون الجنسية البريطانية، ويحمل الباقون جنسيات سويسرية وبلجيكية ونمسوية وفرنسية. - تبذل الان جهود لحث هؤلاء الورثة على المطالبة بحقهم في الأرض، وأنه لا يجوز للحكومة الأميركية أن تشتري من جهة أجنبيه أرضاً يملكها أفراد يحملون الجنسية الأميركية ويترتب على ذلك الغاء الصفقة وعودة الأرض الى أصحابها. - تم ابلاغ وزيرة الخارجية الاميركية مادلين أولبريت بواقع ملكية الارض، وبخاصة ما يتعلق بحقوق الورثة حاملي الجنسية الاميركية. وإذا ما توبعت هذه القضية قانونياً وقضائياً، فإنها ستثير ضجة كبيرة وستكون لهذه الضجة أبعادها السياسية. وسيكون لذلك تأثير كبير على البحث الدائر حول مستقبل القدس. إن هذه التحركات ليست سوى نماذج عملية لنشاطات اللاجئين الفلسطينيين، وهي نشاطات يمكن أن تتأثر في العديد من بقاع العالم، ويمكن لها أيضاً أن تتطور نحو اشكال من التعاون والتنسيق لتشكل في النهاية حركة شعبية فلسطينية، يكون لها مضمون سياسي بارز يتلخص في أنه لا يمكن إنجاز تسوية سياسية في المنطقة تتجاهل حوالى 5 ملايين لاجىء فلسطيني، وتنكر عليهم حقهم الطبيعي في العودة إلى وطنهم، وتنكر عليهم كذلك حقهم الطبيعي في احتلال ممتلكاتهم، وجوهر ممتلكاتهم الارض والوطن. لقد نبعت مشكلة اللاجئين من القضية الفلسطينية الأصل، نبعت من احتلال فلسطين عام 1948 وطرد اهلها منها، واحياء قضية عودة اللاجئين الآن هي التي تريد ان نتجاهل ذلك. وأن تدفن الحقيقة تحت رماد التوطين. ولكن هذه الحقيقة الساطعة كالشمس، والتي بدأت تقلق الاسرائيليين والأميركيين وكل دعاة التوطين والتعويض، تلاقي معارضة، وتواجه اتهامات من نفر من الفلسطينيين الذين تحجرت عقولهم حتى باتت عاجزة عن رؤية معنى هذا الهدير الشعبي الذي يلهج بحق العودة، فيتهمون دعاته حيناً بأنهم مروجون لاتفاق اوسلو، ويتهمونهم حيناً آخر بأنهم دعاة تطبيع مع اسرائيل، وهم يطلقون هذه الاتهامات من مواقع المتفرجين الخلفية، ويندهشون حين يرون الحشد الشعبي الفلسطيني وقد سبقهم إلى مقدمة المسرح. وهم يروجون حججاً خادعة تحتاج إلى رد مفصل.