من المؤكد والثابت أن تعامل العرب المعاصرين مع الغرب يندرج بين أبرز المشكلات التي يعانيها العرب المعاصرون، مع أنفسهم ومع الأخرين. واذا كان تعامل العرب المعاصرين مع الغرب، بحسناته وسيئاته، بوجوه الصواب فيه ووجوه الخطأ يغطي كل النشاطات العامة، من السياسة الى الاقتصاد الى الثقافة، فأن بوسعنا أن نزعم وجود قواسم مشتركة بين جميع هذه النشاطات. بما يعني أن معايير الصواب في مجال معين، تشابه معايير الصواب في كل المجالات الأخرى، ان لم تتطابق معها كليا. وما ينطبق على معايير الصواب، ينطبق على معايير الخطأ. ان التأمل في علاقة العرب المعاصرين بالموسيقى الأوروبية، يكاد يكون تأملا نموذجيا لتعامل العرب المعاصرين مع أوروبا والغرب عموما في جميع الميادين الأخرى، سياسية كانت أم اقتصادية أم ثقافية. المحطات التاريخية للعلاقة اذا حددنا الفترة المعاصرة التي نتناولها في هذه السطور بالقرنين التاسع عشر والعشرين، فلا شك بأن بداية اتصال العرب المعاصرين بالموسيقى الأوروبية الكلاسيكية ظلت محصورة في مراحلها الأولى بأفراد معدودين من النخب الاجتماعية والثقافية التي أتيح لبعض أفرادها السفر الى أوروبا، والاستماع في مسارحها الى نماذج من الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، ولا شك بأن المتعطف الكبير الأول الذي وسع دائرة هذا الاتصال كان بناء دار الأوبرا بالقاهرة، المتزامن مع افتتاح قناة السويس في أواخر العقد السابع من القرن التاسع عشر 1869 . والحقيقة أن مسرحا آخر قد تم بناؤه في تلك الفترة. بجوار دار الأوبرا المذكورة، وأصبحت الفرق الموسيقية الأوروبية تقدم عروضها لجمهور المستمعين الاجانب والعرب المقيمين في القاهرة أو الوافدين اليها، في كلا المسرحين المذكورين. ومن المؤكد أن مما يدعم العناصر المادية والرمزية للدور التاريخي الذي لعبته دار الأوبرا المصرية القديمة في مجال العلاقة بين العرب المعاصرين والموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، قرار الخديوي اسماعيل الأول بأن يكون انشاء دار الأوبرا جزءا من خطته الشاملة لتحديث مصر وهذا التحديث كان متماهيا في نظرية الخديوي اسماعيل وفي تصرفاته مع تحويل مصر الى قطعة من أوروبا، ثم قراره بتكليف موسيقار ايطاليا الأعظم في القرن التاسع عشر جيوسبي فردي بتلحين أوبرا عايدة بناء على قصة مستوحاة من التاريخ المصري القديم. ان الدلالة الرمزية لهذا الحدث الثقافي التاريخي ذات كثافة استثنائية هائلة - برأيي - الى درجة أنها ما زالت تختزل الى الآن كل ايجابيات وسلبيات تعامل العرب المعاصرين مع الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، بل مع الثقافة الغربية الكلاسيكية بشكل عام. وهذه مسألة سنعود اليها في سياق هذا المقال. أما المحطة التاريخية الثانية في علاقة العرب المعاصرين بالموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، فكانت ظهور الحاكي الفونوغراف والتسجيل على أسطوانات. ولكن حتى حدود هاتين المحطتين التاريخيتين انشاء دار الأوبرا بالقاهرة، وظهور الأسطوانة والحاكي بقيت صلة العرب المعاصرين بالموسيقى الأوروبية الكلاسيكية محصورة في أضيق الحدود. ذلك أن رواد الأوبرا كانوا لا يتجاوزون العشرات من الطبقة الموسرة التي تقيم في القاهرة، أو التي تمر بها. كما أن امتلاك الحاكي الفونوغراف والأسطوانات الأجنبية التي تحمل روائع الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، ظل لعقود طويلة محصورا في اطار الطبقة الموسرة، بل شريحة محدودة من هذه الطبقة، التي تجمع القدرة المالية الى الاستعداد الطبيعي لتذوق الوان الموسيقى الوافدة من الخارج، والغربية جدا بالنسبة لألوان الموسيقى العربية الكلاسيكية السائدة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. والجدير بالذكر هنا أن هذه المرحلة قد شهدت لدى العرب الميسورين المتصلين ببعض نماذج الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، دخول آلة البيانو الى منازلهم، الى جانب الحاكي والأسطوانات. علما بأن البيانو، بقي في تلك المرحلة، وحتى في مراحل لاحقة، آلة ملتبسة الدور داخل البيوت العربية، قلما كان يتحول وجوده في هذا البيت أو ذاك الى تعبير حقيقي عن علاقة جادة وعميقة بالموسيقى الأوروبية الكلاسيكية. المحطة الثالثة في اتصال العرب المعاصرين بالموسيقى الأوروبية الكلاسيكية اكتملت عبر أكثر من مرحلة ومن خلال أكثر من أداة، ولكن نتيجتها الأساسية كانت توسيع رقعة العرب المعاصرين المتصلين بالموسيقى الأوروبية الكلاسيكية الى أوسع مدى، بحيث تجاوز الأمر الطبقة الموسرة، الى شرائح واسعة من المثقفين من أبناء الطبقات الوسطى في كل أو معظم المدن العربية، وان بدرجات متفاوتة، وظلت هذه المحطة في حالة من التصاعد واتساع المدى، حتى بلغت ذروتها في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، في سياق يمكن تتبعه كما يلي: أ- لا بد من دراسة مطولة تضع يدنا بدقة وموضوعية على الأثر الواسع والعميق والمبكر الذي أحدثه التأثر الايجابي الخلاق لمحمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب بالموسيقى الأوروبية الكلاسيكية بين العشرينيات والاربعينيات وهضم هذه المؤثرات واعادة انتاجها من داخل نسيج موسيقي ذي هوية عربية مؤكدة. ان العنوان العام لأثر هذا الجهد الابداعي يمكن اختصاره بفتح آفاق لا حدود لها أمام الموسيقيين العرب والمستمعين العرب. والأثر نفسه، أحدثه في خط مواز تأثر محمد عبدالوهاب المغني وأسمهان بأساليب الغناء الأوروبي الكلاسيكي، وهضمه هضما كاملا واعادة انتاج ذلك من ضمن نسيج القواعد الكلاسيكية الراسخة للغناء العربي، بغير أي شبهه تشويه أو هجنة. ان المعادلة المدهشة التي عرّب بها عبدالوهاب والقصبجي تأثراتهما الخلاقة بالموسيقى الأوروبية الكلاسيكية في مجال التلحين والتأليف الموسيقي، والمعادلة المدهشة الموازية التي حققها في حقل الأداء الغنائي عبدالوهاب وأسمهان وأم كلثوم في انتاج عقد الثلاثينيات، تستحق كما قلنا دراسات أكاديمية جادة ومعمقة وموثقة، لوضعها نموذجا دراسيا كلاسيكيا بين أيدي الأجيال الصاعدة في دراسة الموسيقى والغناء، وفي تذوقهما. وهي معادلة يمكن أن نختصرها في هذه السطور بأنها فتحت أفاقا واسعة أمام كل العرب المشتغلين بالموسيقى والغناء، وطورت الذائقة الموسيقية والغنائية لأجيال كاملة من المستمعين العرب، بين المحيط والخليج، ولأجيال طويلة متعاقبة. ولعل هذه المحطة بالذات هي صاحبة الفضل الأول بترتيب الأولوياتفي توسيع رقعة تذوق العرب المعاصرين للموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، لتصبح هذه الرقعة شاملة أوسع مدى ممكن من الطبقات الاجتماعية، في ظاهرة تقدم حقيقي واسع النطاق وبعيد الأثر، في المكان والزمان . ب - ما أن دخلنا النصف الثاني من القرن العشرين، حتى كانت عملية احتكاك العرب المعاصرين واتصالهم بالمجتمعات الأوروبية وأدوات الحضارة الأوروبية المعاصرة قد شهدت توسعا ملحوظا، فزادت اعداد العرب المنتقلين الى أوروبا للسياحة أو الدراسة أو الاقامة تتجاوز الألاف، وتطورت صناعة الفوتوغراف، ليصبح جهازا منزليا عاديا لدى معظم الأسر العربية المتوسطة في السلم الأجتماعي، فأصبح العربي ابن المدينة، الذي لم تكتب له فرصة الحضور الشخصي لحفلات الأوبرا أو الموسيقى السمفونية الحية في أي مدينة أوروبية كبرى، يستطيع ببساطة أن يقتني النماذج الأساسية لتراث الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية على اسطوانات خاصة بعد ظهور الأسطوانة المطولة ذات ال 33 لفة. وقد رافق هذه الظاهرة وساندها تطور الفن الأذاعي في معظم البلدان العربية، واستحداث برامج تقديم وشرح نماذج الأعمال الكبرى في الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، اضافة الى استخدام اشهر الالحان الكلاسيكية الأوروبية، كمقدمات لمعظم البرامج الاذاعية، وكموسيقى تصويرية في البرامج الأذاعية والأفلام السينمائية. ج - غير أن ذروة علاقة العرب المعاصرين بالموسيقى الأوروبية الكلاسيكية تمثلت بعد ذلك بظاهرتين: - ازدياد مطرد في عدد العرب الدارسين للموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، وذلك اما في معاهد الموسيقى الأوروبية الأكاديمية في فرنسا وانكلترا وايطاليا والمانيا والنمسا وروسيا، أو في المعاهد الموسيقية في بعض الدول العربية كمصر ولبنان وسورية والعراق، والمغرب وتونس بشكل رئيس. - تكوّن فرق عربية لاداء الموسيقى السمفونية والأوبرالية الأوروبية، وذلك بدءا من الفرق الصغيرة الأقرب الى "أوركسترا الحجرة" الأوروبية، وصولا الى الفرقة السمفونية المتكاملة. حتى أن مصر على سبيل المثال أيضا كانت في عقد الخمسينيات لديها فرقة أوبرا كاملة بمجاميع الكورس والأصوات الفردية من جميع الفتات الصوتية الرجالية والنسائية وفرقة سمفونية وفرقة باليه. وها هي القاهرة تضم في عقد التسعينيات ثلاث أوركسترات سمفونية أوركسترا القاهرة السمفوني، وأوركسترا أوبرا القاهرة، والأوركسترا السمفوني للمعهد الموسيقي. ومما يستحق الذكر في هذا المجال على سبيل المثال لا الحصر ان دولة خليجية هي سلطنة عمان لديها أوركسترا سمفونية، اضافة الى وجود فرقة سمفونية سورية، كما أن العراق كون فرقة سمفونية لا نعتقد أن تطور الأحداث الدامية قد سمح باستمرارها، وكان آخر تطور في هذا السباق ظهور الأوركسترا السمفونية اللبنانية. دهاليز عقد النقص يوحي هذا الاستعراض "الخارجي" للمحطات الأساسية التي مر بها تعامل العرب المعاصرين مع الموسيقى الاوروبية الكلاسيكية وتفاعلهم معها، يوحي بأن الأمور في هذا السياق كانت دائما تسير من حسن الى أحسن، غير أن الدخول في أعماق هذه الظاهره، وتجلياتها العملية والتفصيلية في الحياة الثقافية العربية، تؤكد بما لايدع مجالا للشك أن الأمور انما تسير من حسن الى أسوأ. واذا كان التأكد من دقة هذا الرأي وموضوعيته الباردة، وعدم وجود أي أثر للمبالغة أو التشاؤم فيه، اذا كان التأكد من ذلك يتطلب الغوص في مقالات لاحقة في شتى مجالات التطبيق العملي لتعامل العرب المعاصرين مع الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية مثل التعامل مع النوطة الموسيقية، والتعامل مع الأوركسترا والالات الوافدة، والتعامل مع التوزيع الموسيقي، وفلسفة مناهج الدراسة الموسيقية، وسواها من المجالات التطبيقية، فأن بوسعنا الافادة مما تبقى من سطور هذا المقال، لاستعراض سريع لأهم الملامح النظرية في "عقد النقص" التي تحولت الى دهليز أو نفق معتم تاهت فيه حتى اشعار آخر علاقة العرب المعاصرين بالموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، بطريقة لا نقدم معها الحياة الثقافية العربية المعاصرة بصيصا يشير الى قرب الخروج من هذا النفق. ولا ضير في هذه السطور الأخيرة من المقال، من التذكير بأن "عقد النقص" هذه، انما هي قاسم مشترك في تعامل العرب المعاصرين مع الغرب، في شتى مجالات التعامل. فاذا صح ذلك، فأن الخروج من نفق "عقد النقص" لا بد من أن يكون شاملا لجميع مجالات تعاملنا مع الغرب، فهي مشكلة واحدة ذات تجليات متعددة. من المفاهيم الخاطئة التي يؤدي انتشارها الى استمرار مكوثنا في هذا النفق، نكتفي بمفهومين على سبيل المثال: - مفهوم العالمية: ولعل العرب المعاصرين قد انفردوا بين سائر الأمم، في اختراع وصف غريب للموسيقى الأوروبية الكلاسيكية هو ترجمة دقيقة لحالة التعامل من خلال عقد النقص ، بدل التعامل من خلال الاطلاع الموضوعي والمنهجي والعلمي، وهو تعبير "الموسيقى العالمية". فليس في الدراسات الاوروبية نفسها، مرادف لغوي لهذا التعبير العربي"انترناشونال ميوزيك". ولا تقف المشكلة مع هذا التعبير عند حدود الخلاف اللفظي النظري، ولكنه تعبير شديد الكثافة الرمزية، الى درجة أنه يختصر كثيرا من مشكلات تعامل العرب المعاصرين مع العصر الحديث، في شتى المجالات النفسية والعلمية والثقافية. فمفهوم العالمية المشوه هذا، يؤدي عمليا الى الخلط بين الشهرة والأنتشار من جهه، والقيمة الفنية والثقافية من جهة ثانية، ويؤدي في مجال آخر الى الخلط بين الأحاسيس الانسانية التي يمكن وصفها بالعالمية لكونها قاسما مشتركا بين مختلف الأمم والثقافات وبين لغة التعبير عن هذه الأحاسيس، التي هي بالضرورة والطبيعة لغة محلية. فكما أن الشاعر الفرنسي والشاعر العربي قد يعبران عن أحاسيس مشتركة، فان الأول يعبر عنها بلغته الفرنسية، والثاني بلغته العربية. وكما في الشعر، كذلك في الموسيقى: تتوحد المشاعر والاحاسيس وتتداخل بين مختلف الأمم، ولكن كل أمة تعبر عنها بلغتها المحلية الخاصة بها، لغتها الأم. فاذا كانت النوطة الموسيقية قد تحولت الى أداة مشتركة بين كل الامم لتدوين الموسيقى، فان أفظع ما يحدث هو الخلط بين هذه الاداة الموحدة للتدوين من جهة واللغات الموسيقية المختلفة من جهة آخرى. يقابل ذلك في المجال اللغوي أننا نكتب بأداة واحدة هي الحروف العربية لغتين مختلفتين تماما كالعربية والفارسية، وقس على ذلك امكانية كتابة عشرات اللغات المختلفة بالحرف اللاتيني الموحد. - الخلط بين العلم والوجدان: فاذا كانت الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية قد تطورت في مسار تاريخي معين، ادى الى تكون قوانين وقواعد نظرية استقاها العلماء النظريون من الأبداع الموسيقي وليس العكس، فان تعامل بعض العرب مع ابداعات الموسيقى الأوروبية وعلومها النظرية من خلال عقد النقص، بوهم هؤلاء بأن العلوم الموسيقية النظرية حكر على الموسيقى الأوروبية وحدها وقابلة للتطبيق الميكانيكي بلا أي تحفظ على موسيقات سائر الشعوب، ويتجاهلون بل يجهلون في أحيان كثيرة أن الابداع الموسيقي العربي القديم والحديث ، قد أنتج هو الأخر قواعده وقوانينه في مجال السكك المقامية المعقدة، وفي مجال الايقاعات المعقدة، وفي مجال الاشكال الموسيقية العربية شديدة التنوع والغنى. وقد بلغ من أمر هذه البلبلة المدمرة، شيوع المفهوم الذي يقول أن التقدم العلمي موجود في الموسيقى الأوروبية، ولا وجود له في الموسيقى العربية. ومفهوم آخر أشد تدميرا، يدعي أنه كما أن التقدم في مجال العلوم، يمكن اختصار الطريق اليه باستيراد انجازات الغرب العلمية، فأسرع الطرق الى تقدم الموسيقى العربية هو استيراد القواعد والقوانين العلمية في الموسيقى الأوروبية وتطبيقها ميكانيكيا على الموسيقى العربية، أو حشر الموسيقى العربية قسريا في القوالب النظرية الأوروبية. هذا خلط يؤدي منذ نصف قرن الى نتائج مدمرة لأن كل شئ قابل للاستيراد والاستعارة الا الوجدان. ولا بد هنا من الاشارة الى فئة خاصة من العرب الدارسين للموسيقى الأوروبية، وهي فئة يمكن تصنيفها في خانة "خرج ولم يعد"، ذلك أن بعض أفرادها أصبحوا "يترفعون" عن الموسيقى العربية "المحلية"، بعد أن دخلوا رحاب "الموسيقى العالمية"، أما بعضهم الاخر فلم يكن له اصلا أي علاقة وجدانية أو دراسية بالموسيقى العربية. طبعا، أثبت عدد غير قليل من عباقرة الأبداع الموسيقي العرب، أن الافادة من علوم ونظريات الموسيقى الأوروبية ممكن، بل أنه مدهش في حالات محددة، ولكن ذلك مرهون بصرامة شديدة لا مجال فيها لاي تهاون، بالانطلاق من هضم كامل وشامل لكل عناصر الموسيقى العربية، قبل أي تفاعل وأي أستعارة. وخلاصة المشكلة في هذه المفاهيم الملتبسة، أنها أدت عمليا الى ظهور نظرية يستلهمها ويسير على هديها عدد لا بأس به من الفاعلين في مراكز القرار الموسيقي في بلادنا دور أوبرا، ومعاهد موسيقية على أساس أنك كلما خرجت من عناصر الشخصية المميزة للموسيقى العربية، ودخلت في عناصر الموسيقى الأوروبية، تكون مندفعا نحو التقدم الموسيقي، والا فأنت قابع في التخلف الى الأبد. ان تحديد الأثار المدمرة لهذه المفاهيم الخاطئة وسواها، يقتضي متابعة هذه الآثار في شتى الميادين العملية للحياة الموسيقية العربية. ونكتفي في خاتمة هذا المقال أن نشير الى أن سلطان هذه المفاهيم المشوهه قوي في حياتنا الثقافية، الى درجة أن حصيلة التشوه الذي أصاب الموسيقى العربية الجادة على أيدي دارسي الموسيقى الأوروبية من العرب، أكبر بكثير للأسف الشديد من حصيلة الثمار الايجابية لنشاط هؤلاء. وليس أسهل من التفريق بين الحصيلة الايجابية والحصيلة السلبية: فكلما تعامل العرب مع الموسيقى الأوروبية بابداعها وعلومها تعاملا طبيعيا منطلقا في الاساس من معرفة كاملة بابداع وعلوم الموسيقى العربية، جاءت الحصيلة ايجابية. وكلما كان التعامل منطلقا من الجهل بابداعات وعلوم الموسيقى العربية، ومن عقد النقص ازاء الموسيقى الأوروبية، جاءت النتيجة سلبية، بل مدمرة.