- 11- مياتم... للمعوزين والفقراء أيضاً غيرت الحرب وظيفة المياتم في لبنان. فلم تعد تقتصر على استقبال اللقطاء وفاقدي آباءهم أو أمهاتهم، بل تعدتها الى استيعاب أطفال الفقراء والمعوزين. هذه هي حال جمعية رعاية اليتيم في صيدا وميتم تبنين، وكلاهما قائم في جنوبلبنان. فميتم صيدا بدأ بمبادرة - حلم من شاب من أبنائها، هو رياض الجوهري، مع مجموعة من أترابه، عام 1948، لتضع الجمعية الحجر الأساس لمقرها وتبدأ عملها بترخيص حكومي بعد ثلاثة أعوام. وتقول مديرة الجمعية السيدة فاتن جردلي فاخوري أن الميتم الذي بني بمبلغ زهيد على قطعة أرض تنازل عنها أهالي صيدا، ضم أولاً ستين يتيماً ويتيمة، وراح يتسع، بناء واستيعاباً، ويتطور تنظيماً، حتى أصبح إحدى الجمعيات الأساسية المختصة في هذا المجال، وقد اتفق مع وزارة الشؤون الإجتماعية التي تقدم إليه مساهمة مالية بنسبة ثلاثين في المئة من حاجاته، في حين تغطي السبعين في المئة الأخرى هبات المحسنين ومساعداتهم. وتضيف السيدة فاخوري أن الميتم يؤوي اليوم نحو ألف طفل تتفاوت أعمارهم بين سنة وثماني عشرة سنة، ويؤمن لهم المأوى والغذاء والكساء والتعليم والتدريب على حرف. وتؤكد أنه مؤسسة لكل اللبنانيين، وهو إذا كان في الماضي معنياً أكثر بالأيتام واللقطاء، بات اليوم مقصد عائلات فقيرة لا تجد ما يسد رمق أطفالها، ومعظمها عائلات أثرت الحرب في أوضاعها سلباً. وتوضح أن الميتم لا يتقاضى بدلاً مادياً عن إيواء الطفل، حتى رمزياً، وإنه يتوسع دائماً، ويضم أجنحة للفتيان والفتيات ومدرسة وقاعات طعام وفرناً ومسلخاً وغرفاً لتعلم بعض الحرف، من مثل حياكة السجاد والرسم على القماش أو الزجاج، أو لتعلم الموسيقى، فضلاً عن اهتمامه بنشاطات أخرى لإغناء شخصية الطفل اليتيم أو المعوز، كالكشافة والرياضة والرحلات الى مناطق أثرية أو سياحية في لبنان. وأضيف إليه قبل سنوات قسم لمعالجة الصم وآخر للأطراف الإصطناعية يُعد بين الأفضل في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط، وهو قدم خدمات الى مئات الذين فقدوا أطرافهم، إما خلال الحرب وإما في حوادث أخرى. وخير ما يعبر عنه هذا الواقع نشيد يرحب به الأيتام بمن يقصدهم، يطلقونه فرحين ومرحبين، وكلهم أمل في المستقبل. أما ميتم تبنين فحديث العهد مقارنة مع ميتم صيدا. بنته الوحدة الهولندية العاملة في نطاق قوات الطوارئ الدولية في جنوبلبنان، بين العامين 1978 و1980، وأشرف عليه وأداره الأب عفيف عسيران، سنوات قليلة، الى أن اضطرته الحرب الى هجره، وتأسيس جمعية تعنى بالأيتام والفقراء في منطقة أخرى الفنار، شرق بيروت. فاستولت عليه تنظيمات مسلحة وتعرض للسرقة، وبقي مغلقاً بين العامين 1983 و1990، الى أن استؤنف العمل فيه، "وهو المركز الوحيد من نوعه في لبنان الذي لا يتبع أي جهة خاصة أو حكومية"، كما يقول مديره المتطوع لإدارته السيد محمد علي فواز الذي عمل قبلاً مع الأب عسيران. ويوضح أن في الميتم 71 طفلاً وطفلة، بعضهم فقدوا آباءهم وأمهاتم خلال الحرب، وبعضهم أحد والديهم معاق لا يقدر على إعالتهم. ويعترف بالتأثير السلبي للحرب في هؤلاء الأطفال، خصوصاً أن الميتم يقع في منطقة ما زالت تشهد عمليات حربية، وتنتشر فيها كتيبة إيرلندية من قوات الطوارئ الدولية. ويقول "إنهم يسمعون يومياً هدير الطيران الحربي، وأصداء انفجارات القذائف على خطوط التماس القريبة جداً منهم... لكنهم يطمئنون الى أنهم في حماية القوة الدولية". ويلاحظ فواز، وهو أستاذ مدرسة منذ ستة وثلاثين عاماً، "انطواء شخصياً وقلة قدرة على استيعاب الدروس" لدى هؤلاء الأطفال "ناتجَين عن تأثرهم بأجواء الحرب". لكن إدارة الميتم تلجأ الى الترويح عنهم بألعاب شتى وبمشاهدة التلفزيون وبعض النشاطات الرياضية والفنية... وبينما كان فواز يتحدث، سمع دوي انفجار قوي، فهبّ من مكانه الى حيث كان يتجمع الأطفال ليطمئنهم الى أن ما سمعوه ليس قصفاً، بل انفجار قذيفة سقطت على تبنين، وعطلتها وحدة الهندسة في الكتيبة الإيرلندية. ويدعو فواز الى تطبيق كل الإتفاقات والمواثيق والقوانين التي تحمي المدنيين، وخصوصاً الأطفال، خلال الحرب "فعندها يطمئن الطفل ويعتبر أن الحرب لا تعنيه بل تعني المتقاتلين". ويحبذ تلقين الأطفال هذه القوانين، ولا سيما منها اتفاقات جنيف، مناشداً وزارة التربية اللبنانية إدخالها في مناهج التعليم، والصليب الأحمر الدولي والمنظمات الدولية الأخرى، طبع كتيبات عنها مبسطة الأسلوب، ليتمكن الأطفال من استيعابها والعمل بها. وإذ يشدد فواز على وقف الحروب، يؤكد أن لكل حرب نهاية، مهما طالت، موجهاً رسالة الى العالم "بألا نعلّم أطفالنا أي درس عن الحرب، لأنها تدمر كل شيء، حتى الإنسان ولو بقي على قيد الحياة". ويطلق صرخة "حققوا السلام، ليعيش الناس برفاهية وحرية وعدالة، إذ ليس معقولاً أن ينصرف الأطفال في دول العالم الى التعلّم واللهو، فيما ينشأ أطفال لبنان وسط الخوف وفي الملاجئ". - 12- مفقودون ومخطوفون "تخلق من الضعف قوة"، مثل ينطبق على السيدتين وداد حلواني وصونيا عيد اللتين تنشطان، في إصرار وأمل، الأولى لكشف مصير زوجها المخطوف منذ سبعة عشر عاماً، بترؤسها لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، والثانية لمعرفة مصير ابنها المفقود منذ تسعة أعوام، ضمن لجنة ذوي المعتقلين في السجون السورية. كانت وداد وزوجها عدنان في منزلهما في بيروت، عندما حضر مسلحون بثياب مدنية ظهر يوم 24 أيلول 1982، وساقوه، بعدما قالوا لها أنه لن يغيب أكثر من دقائق. "لم أستوعب أولاً الأمر. وعندما استأخرته، جلت على مراكز أمنية وقضائية رسمية أبلغ المسؤولين فيها بما حدث، وكلّي أمل بأنه سيعود. ولكن عندما أويت الى فراشي ليلاً، أدركت أنني أصبحت وحيدة، من دون عدنان. وكانت المرة الوحيدة التي بكيت فيها غيابه، لأنني حرمت البكاء، كي لا أبدو ضعيفة أمام ولدينا". تتذكر وداد تلك اللحظات، وتمسح دمعة، وتتابع أنها ظلت توهم الولدين أن والدهما اضطر الى السفر الى أن كبرا وعرفا الحقيقة، وهما يتابعان نشاطها في لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين الذين تتفاوت الإحصاءات عن عددهم بين 2500 و17 ألفاً، كما تقول. تأثرت حياة وداد كثيراً، ووجدت نفسها في صلب هذا النشاط "لأنها متضررة ومعنية بالموضوع ليس من أجل زوجي فحسب، بل من أجل قضية إنسانية، فيها ظلم". أكثر ما يشغلها، وإن كانت لا تستطيع التعبير عنه كلاماً، هو اللايقين "أنه أمر لا يوصف وقاس ويوقعني في عذاب. لو قضى عدنان بقذيفة لكان الأمر أهون علي". وتضيف "أحسست من البداية أن مسؤوليتي كبيرة حيال ولديّ، وحيال والدي زوجي، صرت أشحنهم بالمعنويات، علماً أنني لست قوية أساساً. اضطررت الى أن أكون قوية، فلم يشعر أحد أنه في حاجة الى دعمي. وازدادت قوتي هذه عندما شكلنا اللجنة". ... ونجل صونيا عيد جندي في الجيش اللبناني خطف في معركة في 13 تشرين الأول 1990 عندما أسقطت القوات السورية وألوية من الجيش اللبناني، حكم العماد ميشال عون "الى جهة مجهولة". وتروي السيدة عيد "بعد سنة ونصف السنة أكدت لي الدولة اللبنانية وجوده حياً، وكذلك محقق من تابعية الجهة التي خطفته". وتضيف "رفاقه قالوا لي أنه أصيب في كتفه ورجله، خلال قصف الطيران المنطقة التي يقع فيها قصر الرئاسة اللبنانية في بعبدا. مضت تسع سنوات ولم أره، وبالأمس احتفلت بعيد ميلاده التاسع والعشرين وأضأت له تسعاً وعشرين شمعة على قالب حلوى". وتتابع، دامعة "عام 1996 أفرج عن شخص من أحد السجون السورية. التقيته فأكد لي أن ابني كان معه في السجن، وأن رجله بترت من الكاحل". لم تتمكن السيدة عيد من زيارة ابنها. "بعد سنتين من الحادث حصلت على إذن بمقابلته. ذهبت أنا وزوجي وابني الآخر. وعندما طلبت من حراس السجن المناداة على جهاد جورج عيد. اكتفوا باسم جورج عيد، فلم يجب أحد. فأعادونا، خصوصاً عندما عرفوا أين خطف ومتى؟". وعلى رغم اختلاف ظروف اختفاء عدنان وجهاد، إلا أن الجرح واحد في قلب الزوجة وداد والأم صونيا. وتتصور وداد أن زوجها الآن "منزعج من وضعه كسجين ومحروم أبسط الحقوق الإنسانية، خصوصاً أن المعلومات عن تفنن الخاطفين في تعذيب المخطوفين كثيرة. أتصوره في حال مزرية، مشتاقاً الى عائلته، وقلقاً عليّ كيف يمكنني أن أتدبر الأمور من دونه. وهو على رغم عذابه، حيث هو، يتعذب أكثر عندما يفكر فينا". وتنقل صونيا عمن كان رفيق ابنها في سجنه "أن جهاد قوي جداً عندما يخضع للتحقيق. لكنه في السجن لا يكف عن البكاء. ولا أدري هل ما زال يتمتع بمعنويات. أنا وزوجي وأولادنا الآخرون نضعف جداً كلما فكرنا به. موقفنا صعب. أخرج أنا كل يوم من المنزل لأفتش عن وسيلة أستطيع من خلالها إعادة إبني الى كنف عائلته. وما دام غائباً، لن أهدأ ولن أرتاح". وتبدو وداد وصونيا متضلعتين من القوانين والإتفاقات الدولية التي ينبغي أن تتبع في الحرب لحماية المدنيين، لأنها في صلب عمل جمعيتيهما. وتطالبان بتطبيقها وتحييد المدنيين عن الأعمال الحربية. وفي حين تعتبر السيدة حلواني أن "هذه القوانين تنفذ معكوسة، كأنها موجهة ضد الإنسان"، تأسف السيدة عيد لأن ما من أحد من المسؤولين أو الفاعليات أو وسائل الإعلام أو الناس يتضامن علناً مع قضية ابنها وكثر مثله "إذ ممنوع حتى أن نسأل عنه. فأين حقوق الإنسان؟". وتدعو وداد الى تنشئة الأجيال على حسن تطبيق القوانين، للتقليل من التجاوزات التي تنتهك حقوق الإنسان، ودفع السلطات المسؤولة الى التزامها وعدم السكوت عن أي خرق لها. لكن صونيا المؤيدة أيضاً الدعوة الى احترام هذه الحقوق، يهمها أن يعرف الجميع أن ابنها بريء ولا ذنب له ليعامل هكذا "هذا ظلم وعذاب، ونحن نطالب أيضاً بأن نتبادل الرسائل معه، ولكن من دون جدوى. ولم تفقد المأساة وداد وصونيا حسهما الإنساني، لا بل زادته، فهما تساعدان أياً كان، حتى عدواً تصادفانه وتعرفان أنه مسبب مأساتهما، لعله يرأف بحالهما ويدلهما الى مكان وجود من فقدتا. وإذا كان السلام بالنسبة الى وداد حلماً تتمنى تحقيقه، فهي تأمل في أن تتوقف الحروب في العالم أجمع، أو إذا وقعت، في أن تجنب المدنيين أضرارها وويلاتها. أما صونيا التي طرقت أبواب مؤسسات وجمعيات دولية وإنسانية كثيرة للتحرك من أجل نصرة قضيتها، فلا ترى سلاماً أو راحة إلا بإطلاق ابنها "البريء... إذ لو كان مجرماً لما تحركت لأنه يستأهل عقوبته". وتدعو "دول العالم أجمع الى تبني قضية هؤلاء المسجونين الذين أعتبرهم مخطوفين، والضغط للإفراج عنهم".