يروي وهب بن منبه التيجان: ط صنعاء وغيره من الاخباريين اسطورة شهيرة، يبدو اليوم اكثر فأكثر انها ذات اساس تاريخي صحيح عن غزوة تبّان اسعد عاهل اليمن القوي لمكة" وكان "هو وقومه اصحاب أوثان يعبدونها، فتوجه الى مكة، وهي في طريقه الى اليمن، حتى اذا كان بين عسفان وأمَجْ - بلد من أعراض المدنية - أتاه نفرٌ من هذيل بن مدركة" فقالوا له: أيها الملك الاّ ندّلك على بيت مال داثر اغفلته الملوك قبلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والفضة؟ ويبدو ان الملك اليمني تنبّه، متأخراً، الى الخديعة التي دبّرها له الهذليون الذين ارادوا، بواسطته، فرض نفوذهم على مكة. وهذيل بن مدركة هذه، كانت قبيلة طامحة، ومنذ وقت مبكر، في الحصول على موطئ قدم لها في مكان العرب المقدّس" ولكنها اخفقت مرات عدة في ذلك نظراً لقوة خصومها من القبائل الاخرى مثل جَرْهم والعماليق. كما ان تبّان اسعد ادرك ان وراء هذا التحريض على غزو مكة" رغبة دفينة للتخلص منه" ذلك ان الصراع الجنوبي - الشمالي اي بين قبائل جنوب غربي الجزيرة العربية وقبائل الحجاز كان يمكن ان يسفر عن ضعف القوى المتنازعة ويفسح الطريق امام قوى جديدة. وهناك اعتقاد راسخ في الثقافة العربية القديمة ثم العربية الاسلامية، مفاده ان كل طامحٍ بالكعبة يلقى حتفه قبل الوصول إليها، فهي بيت الله الحرام الذي يحرسه بجنود ملائكة او طيرٍ ابابيل، وسوف يلازم هذا الشعور ابناء عبد مناف عند كل محاولة لغزو الكعبة او تدنيسها. ومن البيّن ان الملك اليمني تبّان اسعد الذي قام بمحاولته هذه قبل الغزو الحبشيّ لمكة بوقت طويل، لم يكن ليُمنَّي نفسه بمصير افضل من سابقيه" وتزعم رواية وهب ان تبّان اسعد رأى في المنام فور تخليه عن هذه المحاولة وتخلصه من محرضيه الهذليين بقتلهم "بأنه يكسي البيت بالخُصف - جمع خصفة وهي كساء غليظ -" ففعل ذلك في الصباح. لكنه في يومٍ تالٍ رأى في المنام ملاكاً يأمره بأن يغيّر كسوة البيت لأنها من قماش غليظ فقام تبّان اسعد على الفور باكساء البيت من جديد بالوصائل وهي ثياب او نوع من القماش اليمني الفاخر. ويزعَم انه كان بذلك اول ملك من ملوك اليمن القدامى يقوم بنفسه بإكساء البيت الحرام" في اشارة صريحة الى النفوذ اليمني الجنوبي القحطاني على المكان المقدّس للعرب" وتعاظم دور الملوك الحمْيريين الذين كانوا يقومون بتعيين الولاة في مكة. ما يفسر محاولة هذيل خداع الملك اليمني والايقاع بينه وبين ولاته من جَرهْم" عبر حثِّه على تنظيم حملة عسكرية لطردهم والاستيلاء على الكعبة" ان هؤلاء الولاة كانت تحرّكهم نزعات دفينة للاستقلال عن اليمن استناداً الى ماضيهم كقوة قبلية، وضيقهم وبَرَمهم من استمرار انقيادهم الى السلطة المركزية" وتحديداً رغبتهم في ان يحصلوا هم ايضاً" على فرصة للاستيلاء على المكان المقدس للعرب، وإن عبر الحرب، بين اليمن كلها وجَرهْم. ومع ان هذيل نفسها من اصول يمنية، فإن الدافع الحقيقي كان اقوى من اي روابط اخرى" ولذلك، ومن دون تحرّج، يمكن الزعم بأن هذا الدافع، الذي وقف وراء محاولة هذيل إغراء الملك اليمني بمهاجمة مكة يكمن هنا: التنافس بين هذيل وجَرْهم على ولاية البيت الحرام. كانت جرهم في عصر صعود مملكة سبأ تابعة وضعيفة نسبياً" وإن كانت نزعتها الاستقلالية التي اثارت حفيظة ملوك اليمن، تلعب في اعماقها كمحرّك فعّال، دوراً من نوعٍ ما، فيجعل هذه النزعة وكأنها ممكنة التحقق" لكن الوقائع على العكس، كانت تخذل جرهم وتحبط آمالها. على ان هذه الحادثة الاسطورية تفيد، مع ذلك، بوجود عناصر تاريخية مقبولة تؤكد ان جرهم حافظت على نفوذها في مكة بفضل فشل حملة تبّان اسعد العسكرية وانهيار تحالفه مع هذيل، وبالتالي بفضل فشل الوقيعة التي دبّرتها هذيل وارتدادها عليها" اذ قام تبّان اسعد بتنظيم مذبحة رهيبة طالت هذيل. وثمة اشارات مهمة في كتب الاخباريين القدامى تشير الى وجود دورٍ ما لليهود وراء احباط مسعى هذيل هذا" وبحسب رواية ابن هشام في السيرة ووهب التيجان وسواهما، فإن الاحبار اليهود حذّروا الملك اليمني من الانسياق خلف تحريضات هذيل. إن كلاً من ابن هشام ووهب يشيران الى وجود حبرين يهوديين في حكاية الحملة العسكرية على مكة" اذ عندما قرّر تبان اسعد المسير الى مكة من اجل "هدم الكعبة" قام هذان بتحذيره قائلَين: "لا نأمن عليك عاجل العقوبة". وعندما سألهما عن ذلك قالا: "انها مهاجر نبيّ يخرج من هذا الحرم، من قريش، آخر الزمان". لا شك في ان المقاصد الفعلية من التحذير الذي تلقاه تبّان اسعد" ستكون واضحة تماماً اذا ما وضعت في اطارها التاريخي، لأن حرباً كهذه تكون الكعبة مسرحها هي حرب باهظة التكاليف بالمعنى الديني لا السياسي والعسكري فحسب" اذ - عملياً - سنتقل الصراع من دائرة القوى القبلية جرهم وهذيل الى دائرة الدول، ولنأخذ - هنا - في الحسبان عنصراً جديداً كان يدخل حلبة الصراع نعني اليهودية. لقد كان اسعد يقيم روابط متينة مع الاحبار اليهود في اليمن، التي بدأت في عصره تشهد الرجَّات الاولى للانقلاب التاريخي العاصف، الذي سيحدث في حقبة ابنه ذي نواس عندما اعتنقت اليمن الديانة اليهودية وقامت باضطهادات واسعة للمسيحيين الموالين للحبشة" وهذه المسألة فصّلها القرآن في سرده لحادث الاخدود: قتل اصحاب الاخدود. النار ذات الوقود. اذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود. وما نقموا منهم الا ان يؤمنوا بالله العزيز الحميد. كان امر مهاجمة الكعبة المكان المقدس لجموع العرب المنتشرة في كل مكان من ارض الجزيرة العربية، فظيعاً في نظر قادة اليهودية من الاحبار، يصعب تبريره او تأييده والموافقة عليه، حتى وإن جرى تحت ستار تأديب "الولاة المتمردين". وبوسعنا ان نجد تفسيراً مقبولاً لتردّد تبّان اسعد وفشل "خديعة" الهذليين" فجسبَ المصادر الاخبارية القديمة، كانت اليمن في عصره تشهد البدايات الفعلية، المنسية لهذا الانقلاب التاريخي نحو اليهودية. وعلى رغم ان كل الدلائل، التي في حوزة المؤرخين المعاصرين، تؤكد ان اليمن اعتنقت اليهودية في زمن ذي نواس وهو "زرعة" بن تبان اسعد، الا ان تأكيدات ابن هشام ووهب بن منبه، تشير الى ان ذلك حدث - عملياً - في عصر اسعد نفسه، وذلك اثناء محاولته تنظيم حملة عسكرية لمهاجمة الكعبة وطرد جَرْهم منها، بعد سلسلة من الوشايات التي دبّرها الهذليون. إذاً، فقد تخلى تبان اسعد عن حملته العسكرية لإخضاع مكة من جديد وطرد جرهم من الكعبة بفعل دافع ديني هو بلا ادنى ريب اعتناقه اليهودية. يقول ابن هشام السيرة: "فلما اجمع لما قالوا ارسلَ الى الحَبْرين فسألهما عن ذلك. فقالا له: ما اراد القوم الا هلاكك وهلاك جندك. ما نعلم بيتاً لله اتخذه في الارض لنفسه غيره. ولئن فعلت ما دعوك اليه لتهلكنَّ وليهلك من معك جميعاً. قال: فماذا تأمراني أصنع اذا انا قدمت عليه؟ قالا تصنع عنده ما يصنع اهله: تطوف به وتعظمه وتكرّمه وتحلق رأسك عنده وتُذِّل له حتى تخرج من عنده. قال: فما يمنعكما انتما من ذلك؟ قالا: اما والله انه لبيت أبينا ابراهيم وأنه لكما اخبرناك، ولكن اهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان" فعرف "نصحهما وصدق حديثهما فقرّب النفر من هذيل فقطع ايديهم وأرجلهم ثم مضى حتى قدم الكعبة" - السيرة -. نجم عن هذا الحادث" اي محاولة هذيل الفاشلة للاستقواء باليمن ضد جرهم، ان ازيحت "هذيل" نفسها من ساحة التنافس نهائياً حول الولاية في الكعبة، واعتناق تبّان اسعد لليهودية، وبقاء جرهم في موقعها كصاحبة نفوذ مستقل نسبياً عن الادارة المركزية اليمنية" ويؤكد ذلك ابن هشام وأيضاً ابن منبه في اشارتهما الى لقاء تبّان اسعد بالحبرين "ورأى ان لهما علماً وأعجبه ما سمع منهما فانصرف عن المدينة - مكة - واتبعهما على دينهما". بعد "مؤامرة" هذيل الفاشلة تمكنت جرهم من الحفاظ على سلطتها" ويبدو انها اقامت روابط جديدة مع اليمن يُعبّر عنها قيام تبّان اسعد بنفسه باكساء البيت الحرام. كانت جرهم قد تمكنت، بحسب المصادر الاخبارية القديمة، من انتزاع السلطة في مكة من يد العماليق مستندة الى دعم قوي من اليمن، فنجحت في اخراجهم نهائياً لا من محيط الحرم بل ومن مكة كلها. وكان ذلك بداية زوال العماليق كشعبٍ قديم. ويؤكد علماء الآثار انهم عثروا على ادلة تؤكد وجود العماليق في مآب بالبلقاء من اعمال الشام زهاء 400ق.م.. لكن جرهم التي دخلت مكة ظافرة، سرعان ما وجدت نفسها عرضة للتنافس ذاته، لا من جانب هذيل بل من جانب قوة جديدة مهاجرة من اليمن إثر انهيار سدّ مأرب. هذه القوة الجديدة الصاعدة هي ائتلاف خزاعة. فمع اضمحلال دور اليمن وتصاعد دور القبائل في الصراعات المحلية حول الكعبة وجدت جرهم نفسها في حالة ضعف وعجز عن الحفاظ على دورها التاريخي. بالنسبة لنا" نعتقد بقوة ان خزاعة كانت ائتلافاً قبلياً واسعاً وطموحاً. ويبدو ان اسمها يُفسر - بالفعل - فكرة كونها تجمعاً من القبائل المهاجرة صوب مكة" إذّ يزعم أنها سميت خزاعة لأنها "انخزعت" عن الطريق الذي سلكته الجماعات والقبائل الأخرى في إطار هجرة جماعية. انتهى التنافس بين خزاعة وجَرْهم بانتصار خزاعة الظافر ودخولها مكة وامتلاكها حق ادارة الكعبة، فبادرت الى نفي الجرهميين خراج الحرم المكيّ، بل حتى من محيط مكة. لا شك في ان احد اوجه الصراع الضاري بين خزاعة وجرهم حول مكة" الذي سجلته المصادر القديمة بدقة، يكشف عن البُعد الحقيقي لكل هذه التنافسات القبلية" فهي تدور في نطاق امتلاك السلطة في المكان المقدّس: الكعبة، وليس حول اي شيء آخر كما يزعم بعض الاخباريين" الذين يحطّون من شأن هذا التنافس بحصره في نطاق التزاحم حول وفرة الماء والكلأ" ويُستدلّ على ذلك من حرمان القبيلة المنتصرة، القبيلة المهزومة من اي حقٍ مهما كان بسيطاً ومشروعاً بما في ذلك الاقتراب من محيط مكة وليس الاقتراب من الكعبة. وفي بادرة يمكن عدُّها شديدة الاستثنائية، اباحت خزاعة حق قتل كل جرهمي تسوّل له نفسه الاقتراب من مكة. كان اهدار دم الجرهميين يُلخص، بجملةٍ واحدة: ان يُقتل الجرهمي في اي مكان وجد قريباً من مكة. وفي هذا الصدد تروى حكاية مؤثرة الازرقي: اخبار مكة: 1:96 وكذلك الفاكهاني اخبار مكة في قديم الدهر: 5 كيف ان خزاعة فرضت على الجرهميين، المغلوبين على امرهم، شروطاً قاسية" وكان هؤلاء قد اصابهم الشوق وأمضّتهم الصبابة لمكة وحزنوا حزناً شديداً" ثم حدث ان اضاع رجل جرهمي إبلاً له فراح يتعقّبها حتى رآها بالقرب من مكة عند جبال أجياد. فصعَد الجرهمي جبل ابي قُبيس ينظر الى إبلهِ التي كانت، آنئذٍ، تهبط الوادي، فخشي على نفسه القتل إن هو تجاوز الاوامر الصارمة" فراح ينظر اليها من فوق الجبل وهي في بطن الوادي تُنحر ثم تؤكل امام عينيه الدامعتين. يكشف الصراع على مكة في بعض اوجهه، عن طموح غير محدود عند القبائل والدول المجاورة وخصوصاً اليمن والحبشة، لفرض السيطرة على المكان المقدس الكعبة عبر احتكاره وعزل الآخرين او اقصاء بعضهم سلماً ام حرباً" وهذا ما تدعمه الوقائع حتى بالنسبة لخزاعة المنتشية كثيراً بانتصارها" حيث وجدت - هذه - نفسها اخيراً، وبعد وقت ما من ولايتها شؤون البيت الحرام، عرضةً للتنافس ذاته من جانب قوة قبلية جديدة صاعدة، ثرية ومنظمة تنظيماً جيداً هي قريش، بقيادة زعيمها الفذّ قصي جدّ الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلّم. انتهى التنافس، هذه المرة، بين خزاعة وقريش بانتصار قريش وطرد خزاعة من مكة نهائياً. ولكن، وفي عصر سيادة قريش وسيطرتها على مكة ثم صعود دورها السياسي والتجاري، كانت الحبشة تتطلع الى مدّ نفوذها في اليمن وتقوم باحتلالها بالفعل. لم يتوقف طموح الحبشة عند هذا الحدّ" بل راحت تتطلع الى لعب الدور القديم ذاته الذي كانت اليمن تلعبه في الجزيرة العربية في عصر الدولة الحمْيرية، اي فرض نفوذها هي ايضاً على مكة. ومن هنا جاءت فكرة انشاء نموذج بديل عن الكعبة، وهو ما يُعرف عند الاخباريين القدامى بالقليس. يروي الطبري 1: 555 وبالتفصيل مسار هذه الحملة العسكرية الجديدة انطلاقاً من فكرة انشاء مكان مقدس بديل وزائف، اريد له ان يكون محط انظار العرب بأسرهم. يكتب أبرهة مخاطباً النجاشي: اني قد بنيت لك، ايها الملك، كنيسة لم يُبنَ مثلها لملك كان قبلك ولستُ بمنته حتى اصرف اليها حاج العرب. لا بد من وضع حملة ابرهة الحبشي التي يعرفها الاخباريون بعام الفيل زهاء 570م، في نطاقٍ اكثر مرونة لكشف حقيقة المبررات المعلنة" فالحملة العسكرية الجديدة لغزو مكة انطلقت من اليمن ايضاً" وهذه المرة على اساس الدوافع الدينية ذاتها، التي حركت حملة تبان اسعد من قبل" ولكن سوف يكون مصيرها الفشل" تماماً كما حدث لحملة اسعد مع فارق جوهري هو ان أبرهة تعرض للهلاك فيما انتهت حملة اسعد سلمياً بقيامه باكساء الكعبة. الامر المؤكد بالنسبة لنا، ان حملة ابرهة جاءت في اعقاب انشاء النموذج المنافس لا قبلها" بل ان الحملة ترتبط بقوة بإنشاء هذا النموذج الذي سارع ابرهة الى تنفيذه فور وقوع اليمن في قبضته. وجد ابرهة ان من المناسب لمشروع ديني كهذا" ان يباشر بالبحث عن اساس ديني متين يجذب اليمنيين ويرص صفوفهم خلف طموحه لتجريد العرب الشماليين من المركز الروحي" وهذا ما وجده في حجارة معبد بلقيس ملكة سبأ، الذي كانت بقاياه في مأرب تلقى تجاوباً دينياً قوياً من جانب اليمنيين، الذين كانوا يقدّسون هذه الحجارة ويعظمونها. الامر الجوهري في حملة ابرهة العسكرية كما تقول رواية الطبري والازرقي، انما هو انشاء نموذج بديل يسعى طرف خارجي، هذه المرة، الى فرضه على القبائل العربية بالقوة. ذلك ما يدفعنا الى ادراج هذا الهدف في السياق نفسه الذي جرت فيه محاولات كل القبائل المتنافسة حول الكعبة، لإحلال بدائلها الدينية او نماذجها القبلية محل الكعبة الاصلية" من ذلك مثلاً محاولة غطفان القبيلة القوية في جنوب الجزيرة العربية، ومنذ وقت مبكر، بناء معبد منافس او بديل عن الكعبة هو معبد بسّ او بسّاء وكذلك الامر - تالياً - مع ظهور كعبات اخرى مثل كعبة نجران. عندما قرّر ابرهة انشاء القليس كنموذج بديل عن الكعبة" ووجد في حجارة قصر بلقيس ضالته" كان اليمنيون في هذا الوقت يرون في المكان الجديد استمراراً ثقافياً ودينياً للمكان القديم الذي ارتبط بعصر ازدهار ممالك الجنوب مثل سبأ وريدان وحضرموت" فيما كان الامر يعني بالنسبة لابرهة ان الحجارة التي تلائم القليس هي من منشأ ديني مقدس وذلك لما لحجارة قصر بلقيس من قدسية خاصة ارتبطت باسطورة زواج بلقيس من النبي الملك سليمان. من جانبهم، تنبّه اليمنيون تحت الاحتلال الحبشي الى المصاعب التقنية والاخلاقية التي ستواجههم اثناء محاولة صرف العرب عن مكة. من بين هذه المصاعب" تعلّق العرب بفكرة الكعبة فالمكان المقدس هو في النهاية في صورة كعبة لا في اي صورة اخرى، وهذا ما يفسّر جزئياً سرّ تكرار كل القبائل الجنوبية لاسم الكعبة في معابدهم كعبة غطفان. كعبة نجران ... الخ. ولأن نموذج القليس اليمني - الحبشي كان، في الاصل، محاولة من الحبشة ونيابةً عن روما، لدمج المسيحية في نسيج المعتقدات العربية القديمة، بدلالة اللجوء الى حجارة قصر بلقيس، فقد اطلق على القليس اسم كُعيب وهو البيت الذي انشئ داخل القليس نفسه، وبذا تمّ قلب الاسم المؤنث كعبة الى اسم مذكر كعيب في اطار محاكاة مموهة. لكن الكعبة نفسها كما يرى صاحب بلوغ الارب 1: 230 لم تُسم "كعبة" الا لعلوها. تقول اسطورة بناء القليس ان ابرهة وضع الرجال في هيئة نسق يناول بعضهم بعضاً الحجارة والآلة حتى نقل ما كان في قصر بلقيس مما احتاج اليه من حجر او رخام او آلة للبناء، وجدَّ في بنائه وكان مربعاً مستوي التربيع، وجعل طوله في السماء ستين ذراعاً. وكان يصعد عليه بدرجٍ من الرخام وحوله سور. وجعل بين ذلك كله حجارة يسميّها اهل اليمن: الجروب منقوشةً ومطابقةً لا تدخل بين اطباقها الابرة. هذا هو باقتصاب شديد الوصف الذي عرضه الازرقي لالقليس. من البيّن ان ابرهة، الذي جعل من حملته العسكرية على مكة، عنواناً لصراع ديني - سياسي بين جموع العرب من جانب، وبين التحالف اليمني - الحبشي في حقبة الاحتلال، قد انتبه الى اهمية وضرورة تكييف نموذج المكان المقدس الزائف والبديل مع الثقافة الدينية الراسبة والمستمرة في اليمن، بحيث يبدو القليس في النهاية استمراراً لمعبد ديني قديم هو معبد بلقيس. وبذلك يكون ابرهة قد ارضى طموح اليمنيين واستجاب لتطلعاتهم الدفينة في انشاء نموذج منافس للكعبة ما دامت هذه ظلت - عملياً - خارج كل سيطرة مباشرة. الامر الآخر والمهم في هذا السياق، ان الخط القديم للحملات الحربية والنزاعات المستعرة ضد مكة وحولها، والذي كانت نقطة انطلاقه على الدوام جنوب غربي الجزيرة العربية وصوب الشمال الحجاز يعج، في اطار انشاء القليس ثم غزوة عام الفيل، لا بالقبائل المهاجرة والمتدفقة في شكل موجات بشرية متدافعة نحو مصادر المياه، وإنما كذلك بقوىً دولية جديدة صاعدة وطموحة مثل الحبشة المتحالفة مع روما في نزاعها ضد فارس. وعلى هذا الطريق القديم ازدحمت حملات ملوك اليمن الاسطوريين واختلطت بحملات قبلية مماثلة من حيث المطامع والطموحات والاحلام، وها هي تشهد تدافعاً جديداً للدول لتضيف تعقيداً لا مثيل له. كانت محاولة ابرهة ترتكز الى فكرة جعل القليس كنموذج يمني - حبشي، مركزاً دينياً جذاباً ليمنيين متحمسين وطموحين وحالمين بظهور عقيدة دينية تخصهم وتتناسب مع الدور التاريخي والحضاري لبلادهم. غير ان التوترات المستمرة بين القبائل المتنافسة، فاقمت من عزلة هؤلاء، ومن شعورهم إبان الاحتلال الحبشي لليمن، بأن استعادتهم لنفوذهم القديم عندما كانوا - ذات يوم - يسمّون الولاة في البيت الحرام من العماليق وجَرْهم بات امراً متعذراً ومستحيلاً في الظروف الجديدة. ومن المحتمل ان هؤلاء وجدوا في القليس فرصة تاريخية لإعادة مركزة السلطة الدينية جنوب الجزيرة العربية عبر اقصاء دور الشمال او حتى عزله سياسياً، كحل وحيد لوقف توزّع وتناهب السلطة الدينية بين القبائل المتصارعة. بيد ان هذا المشروع سرعان ما ارتطم بحادث عرضي له دلالة عميقة، اذ وبحسب المرويات التاريخية فإن احد العدنانيين الشماليين من بني مالك بن مدركة تسلل الى القليس ثم تغوّط فيه وولى هارباً. عندئذٍ ثارت ثائرة ابرهة. وحين قيل له ان الرجل من ابناء الشمال "من العرب الذين لهم بيت يحج الناس اليه - كما يقول النص الاخباري" تفجر غضبه وقرّر، مدفوعاً بالرغبة في الانتقام، ان يتوجه صوب الكعبة لهدمها. ان المؤرخين القدماء وحتى كثرة من المعاصرين يربطون بين حملة ابرهة العسكرية على مكة، وبين هذه الواقعة الاسطورية بحيث يجعلون منها سبباً مباشراً، وهذا غير صحيح برأينا، لأن الحادث منفصل تماماً عن قرار مهاجمة مكة، ولذا فإن تصوّر حملة ابرهة الحبشي يجب ان يقوم على اساس الفصل بينها وبين ما أعتُبر سبباً لقرار الهجوم. كانت الحملة العسكرية تقع اساساً، في سياق سلسلة من الحملات الحربية ضد مكة قادتها اليمن في ظل الدولة الحميرية، ولذا فهي يمكن ان تُعّد آخر حملة حربية بعد ان سقطت اليمن تحت الاحتلال الحبشي. بكلام ثانٍ: انها آخر محاولة يمنية لاسترداد دور اندثر وتلاشى، ولكن هذه المرة بواسطة استخدام ادوات غير محلية، فبذلاً من تحريك القبائل الموالية للجنوب، جرى استخدام الجيش المحتل. اما اسطورة التغوّط في القليس، فهي برأينا اسطورة عدنانية شمالية للرد على اسطورة قحطانية تقول بأن القليس، بُني من حجارة مقدسة، هي حجارة معبد قصر بلقيس. الجواب عن هذه القدسية المزعومة كان واضحاً: تصوير المكان البديل كمكان مدنّس ولا يستحق اكثر من فعلةٍ كهذه. في نطاق هذا التصوّر، فإن حملة ابرهة جرت - في الواقع - في سياق حملات يمنية قديمة فاشلة، بدأت مع تبّان اسعد ثم ابنه حسان. ولم تنتهِ الا مع ابرهة القائد الحبشي، وذلك من اجل استعادة دورٍ ما كان بالإمكان استعادته. * كاتب عراقي مقيم في هولندا.