"كلهم لأمري طائعون، ولكلامي سامعون، ولكن لا يعصيني إلا تلامذة المدرسة الكلية الأميركانية، فإنهم عن طاعتي مارقون متكبرون متعجرفون يدّعون الانتماء إليكِ ولكنهم لا يظهرون الأشياء التي يظهرها أبناؤك. سررت كثيراً في هذه المدة الأخيرة لما حرّكت عوامل النخوة بعض رجالي فطردوا من مملكتي اخوانك وأخواتك حضرات الأفندية العدل والصدق والرفق والحنو والآنسات المحترمات الأمانة والإعانة والاستقامة والطمأنينة، فبقيت أنا وحدي معزز الجانب، لا معارض لأمري". تلك مقاطع من رسالة مفتوحة وجّهها صاحب الاسم المستعار "الذلّ" عبر العدد الأول من مجلة "الغادة" الصادر في 17 كانون الأول ديسمبر من "عاصمة الشرق وأخت لبنان" أي بيروت، إلى الآنسة "حرية" التي تقيم في عموم أوروبا. وفي العدد الثاني الصادر في 11 كانون الثاني يناير 1904، قالت "حرية" في سياق جوابها: "حضرة ذلّ أفندي المحترم: لقد بكيت على حال الشرق الحاضرة والتعاسة المحيقة بأبنائه من كل جانب... لا أدري كيف تتجاسر وتطلب مني أولادي الصغار تلامذة المدرسة الكلية الذين أعوّل نهوض مملكتي في الشرق ولا يرجى لي نجاح، إلا بهم. سأعمل من الآن فصاعداً كل ما في وسعي لأقلّص ظلّ مملكتك". لعل أكثر ما يثير التعجب والاعجاب في الكتاب والجواب، ذلك النقد الصريح اللاذع الموجّه إلى نظام السلطان عبدالحميد من إحدى ولايات سلطنته، بل إن ما يضاعف من قيمة المجلة ويميّزها عن سائر رصيفاتها الخطية منها والمطبوعة التي كانت تصدر في بيروت آنذاك، انها استمرّت في النقر على وتر الحرية وسائر القيم الاجتماعية المرتبطة بها كالعدالة والإلفة والإصلاح والديمقراطية. فقد طرح أحد صاحبَيْ المجلة إيليا بارودي في مقاله "نحن والانتقاد" السؤال الآتي: "هل العقل الشرقي يقبل الانتقاد كما يقبله العقل الأوروبي بالسّلم وصفاء النية؟" أجابه "أستاذ له الباع الطولى في العلوم والمعارف: ان الشرق باقٍ على حاله كما كان منذ 25 سنة، والعقل الشرقي لا يقبل الانتقاد لضعفه وعدم تهذيبه، وهذه الهيئات الخارجية والتأنق في المعيشة والملبس، ما هي إلا صور خارجية مقتبسة من التمدن الغربي". ولكن الطالب لم يوافق أستاذه لأن حكمه "يصح على الشرق بوجه الإجمال ولا ينطبق على نخبة شبان البلاد". وختم متسائلا: "وما هي فائدة الجرائد الاجتماعية إذا كانت لا تشير الى مواقع الخلل، وما المنفعة منها إذا كانت تملأ صفحاتها بمدح هذا أو شكر ذاك؟". بل ان شجاعة رئاسة التحرير وصلت الى مستوى المغامرة عندما أعلنت في العدد الأول عن مسابقة تشطير بيتين من الشعر حيث ينال الفائز "كتاب طبائع الاستبداد الذي هو من أنفس الكتب العربية الحديثة". ويذكر أن سيّد قصر يلدز قد أوعز بدسّ السمّ للكواكبي في فنجان القهوة اثر صدور "طبائع الاستبداد" و"أم القرى" واعتقال كل من يروّج للكتابين، وهو ما جرى لصاحب إحدى المكتبات في بيروت نخلة قلفاط، الذي قضى نحبه في السجن عام 1905. في العدد 3 و4 الصادر في 28 كانون الثاني يناير 1904 تعريب لمقال كاتب تساءل في مستهلّه عن كيفية صيرورة العالم في "القرن التالي". وكان جوابه بمثابة إستشراف عجيب لما آل إليه العالم بعد حوالى مئة عام إذ قال: "في القرن الآتي تصبح اللغة الانكليزية أكثر شيوعاً. ثم أن الطعام يصير يشرى مصنوعاً حاضراً كما يُشرى الخبز الآن ويطبخ بواسطة الكهرباء ويُنقل لبيت الشارين بواسطة الأوتوموبيل. وسترسل الصور الفوتوغرافية بواسطة التلغراف. وتصير سرعة القطار الحديد ميلين في الدقيقة. ويمتد التلفون حول الدنيا الى أقصاها. ويصير فن الطب ضرورياً لكل واحد". وبالطبع لا ينقص من رفعة الاستشراف ان الكاتب لم يضع كلمة كومبيوتر مكان التلغراف، ولم يستدرك للقول ان الطب الضروري "لكل واحد" لن يكون بمتناول كل إنسان. ولم تخلُ صفحات "الغادة" من القصائد وخصوصاً الغزلية. وكان الطالب الشيخ فؤاد الخطيب شيخ المتغزلين حين قال في قصيدته "المحبة والوفاء" المنشورة في العدد 9 و10 الصادر في 20 حزيران يونيو 1904: لستِ يا ذات السنى عندي كما عدّ داروين الورى نسل القرودْ أين للغوريلا والشمبنزي ما خصك الله به بين الوجودْ من جلالٍ وجمالٍ كلّما ذكروه خرّت الناس سجودْ ومن أطرف القصائد التي نشرتها "الغادة"، قصيدة بعنوان "منتدى البلياردو" لشكري أبو شهلا و"شركاه"، المنشورة في العدد نفسه، إذ قال ناظمها عن "نادي البلياردو" الذي يمتلكه عبدالحليم: يا منتدى عبدالحليم أراك أشرف منتدى جدّدت للشيخ العجو ز شبابه فتجددا وأعدت للعب اللطي ف زهاءه فتمجّدا وينتقل القرّاء من أقصى الطرافة والسخرية الى أقصى الجدية مع قصيدة "إصطدام قطارين" لسليم العازار المنشورة في العدد 7 و8 الصادر في 24 نيسان ابريل 1904، إذ يقول الشاعر: يا نادب الشرق مهلاً كفى نواحاً وندبا فإن داء التراخي مع طفلنا يتربى ونحن نرجو زوالاً ولا نطيع الأطبّا كم يوم بؤس كهذا مستقبل الشرق خبا فحسبنا نتمنّى أن يصبح الشرق غربا والشاعر يقصد أن يقتدي الشرق بالغرب فيسير على طريق العلم والديموقراطية والعدالة، لا أن يصبح نسخ طبق الأصل عنه. نعود الى العدد الأول من مجلة "الغادة" التي يصرّ الناشران على إعطائها اسم جريدة على رغم أن حجمها صغير ومحررة ومبوبة وفق تبويب وتحرير المجلات لا الجرائد. فقد نشر قلم التحرير مقالة عن الدكتور جورج بوست أحد مؤسسي الجامعة الاميركية وأساتذتها. وورد في التعريف بالدكتور "النطاسي والجرّاح الشهير" انه قدم الى البلاد كمبشر وطبيب وسكن "مدينة طرابلس نحو مرة من ثلاث سنين. وفي سنة 1866 دعاه دانيال بلسّ - أول رئيس للجامعة - لينخرط في سلك أساتذة مدرستنا الزاهرة فلبى الدعوة... ومال الى اللغة العربية الشريفة وطلبها بكد واجتهاد حتى برع فيها وألّف مؤلفات عديدة منها "نظام الحلقات في سلسلة ذات الفقرات" في جزئين و"نبات سوريا وفلسطين" وأنشأ مجلة "الطبيب" المشهورة". ويذكر أن الدكتور بوست لم يكن المستشرق الوحيد في الهيئة التعليمية في الجامعة الذي أتقن العربية. فقد تفوق عليه الدكتور كورنيليوس فان ديك باتقان العربية واصدار مؤلفات علمية ولغوية عدة بها. أما مجلة "الطبيب" التي استمرت بالصدور حوالى نصف قرن، فإن صاحبها كان يسند مسؤولية اصدارها وتحريرها الى بعض خريجي الجامعة من الأطباء المتفوقين. من هنا سرّ تولّي الدكتورين بشارة زلزل وخليل سعادة تحريرها في العام 188 وقد عاونهما اللغوي الشهير ابراهيم اليازجي. يبقى ان "الغادة". المحفوظة أعدادها في أرشيف مكتبة الجامعة الاميركية في بيروت، ضربت الرقم القياسي بالشعارات المزروعة على غلاف كل عدد منها. فالشعار الأول اقتبس من الثورة الفرنسية والمؤلف من الكلمات الثلاث: الحرية، الإخاء، والمساواة. وأضيفت إليها كلمة رابعة: التعاون. ويؤكد الشعار الثاني على أن "الجرائد أعظم قوة ظهرت في العالم الى اليوم" وهو للكاتب الروسي تولستوي. ويفيد الشعار الثالث بأن "العلم ينير طريق الانسانية". وينص الشعار الرابع المستعار من السياسي الفرنسي شارلمان على الآتي: "عليكم أيها التلامذة سأبني مستقبل مملكتي وأنتم تكونون وزرائي وأعواني ومشيريّ". أما الشعار الخامس والأخير فيقول لطلاب الجامعة وسائر المتنورين: "أنشئوا الجرائد لأن بها حياة الأمة". * كاتب لبناني.