أبو دلامة عبد شاعر وله نوادر هزلها بالجد قد عرفا فاستقبلوا العبد حراً خادماً وطناً والهزل بالجد مقبول من الظرفا لم يكتفِ صاحب "أبو دلامة" ورئيس تحريرها رفقي بكار ببيتي الشعر المثبتين في ترويسة كل عدد، بل ألحقهما بلمحة تاريخية في افتتاحية العدد الأول الصادر في مدينة صيدا اللبنانية في 4 كانون الثاني يناير 1927، قال فيها إن أبا دلامة هو "زند بن الجون وهو كوفي أسود مولى لبني أسد أدرك آخر أيام بني أمية ولم يكن له فيها نباهة، ونبغ في أيام بني العباس، فانقطع الى السفاح والمنصور والمهدي، وكانوا يقدمونه ويستطيبون مجالسته ونوادره... وله امرأة وولد يدعى دلامة، كانا لا يقلان عنه في خفة الروح والنباهة". وختم الافتتاحية قائلاً: "لما كان غرضنا الأسمى إصدار صحيفة تجمع بين الأدب والفكاهة، اخترنا تسميتها باسمه إحياء لذكر شاعر عربي هزلي معروف في كتب الأدب وسير الشعراء". فهل استحقت الصحيفة حمل اسم الشاعر الساخر الفكه؟ لقد كلّف رفقي بكار الأمير حسيب شهاب كي يتولّى تحرير جريدته بدلاً من تكليفه لأحد مشايخ آل الخازن المشهورين بالظرف. لذلك، طغت الجدية على كل افتتاحياتها. إلا أن بعض المتبرعين من الشعراء والأدباء وفّروا جواً ساخراً في الصحيفة التي كادت جدّية الأمير الشهابي أن تحوّلها الى مطبوعة هتلرية. فالشاعر المهجري، أسعد رستم ساهم بأكثر من قصيدة، حيث قال في إحداها المعنونة "بوس اللحى" والمنشورة في العدد 2 الصادر في 11 كانون الثاني 1927. بوس اللحى عادة في الشرق دارجة وقد ورثناه عن آبائنا الأول عاداتنا بعضها في الشرق محتمل والبعض منها ثقيل غير محتمل ما أثقل اثنين في تقبيل بعضهما كأنما جبل يهوي على جبل لا سيما إن يكن من بستَ مفترساً حصّاً من الثوم أو رأساً من البصل تفوح رائحة من فرط قوتها يشمّها الناس في المريخ أو زحل أضعتم بينكم منه الكثير فما أبقيتم لذوات الأعين النجل أما اللبناني المتمصّر الدكتور أسعد الشدودي فقد بعث برسالة تهنئة الى صديقه الأديب نجيب المشعلاني بمناسبة زواجه. فحوّلها العريس الى إدارة تحرير "أبو دلامة" بسبب صدورها عن الطبيب العازب والفكه، حيث نشرت في العدد الأول. ومما قاله الشدودي للمشعلاني: "أتيت إليك مقدماً واجبات التهاني رغماً عما أشعر به من الأسف، إذ أرى أنصار راية العزوبة التي أحملها قد نقص عضو من أعضائها... نعم إن عدونا نحن العزبان عدو قادر قاهر تخضع لهيبته القلوب الصلبة. ولكني سأدافع وأناضل وأموت اقتداء بأبي العلاء وقوله: هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد وفي باب الصحة تساءل "مروكب" في العدد 37 الصادر في 11 تشرين الأول اكتوبر 1927 عن ماهية مرض "أبو الركب"؟ وأجاب أنه "أحد أعضاء مؤتمر نزع الأرواح. شاب ظريف كريم متواضع، زار هذه المدينة - صيدا - منذ شهرين ونيف، فتعرف على الكثيرين، وتكرّم على البعض بجوازات للسفر. حلّ عندي ضيفاً كريماً مدة خمسة أيام. وعرض عليّ هديته الثمينة التي تخولني السفر دون معارض، فرفضتها. وأبت عليه شهامته أن يغادرني دون أن يترك لي أثراً من آثاره الحميدة أذكره به من بعده، فعرّفني بالطبيب والصيدلي وبائعي اللبن والحليب وأوصاهم بي خيراً". أما صاحب الاسم المستعار "الخلد" فنقرأ في مفكرته التي نشرها في العدد 52 الصادر في 5 تموز يوليو 1927 "أن إصدار جريدة يومية أو أسبوعية ترضي الجميع في هذا الزمن أمر شاق بل مستحيل". لماذا؟ لأنه إذا كانت الأحرف صغيرة قالوا إنهم لا يستطيعون قراءتها. وإذا كانت كبيرة قالوا إنها جريدة باردة. وإن ظهر بين أعمدتها انتقاد على بعض الرؤساء قالوا إن محرري الجريدة مغرضون. وإن لم تكتب قالوا إنهم خائفون أو مرتشون. وإن كتبت الهزل بالجد والجد بالهزل أعرضوا عنها وقالوا إنهم مهذارون وإن لم تكتب قالوا إنهم جامدون. وإن كتبت في مواضيع علمية قالوا إنهم متفلسفون، وإن لم تكتب قالوا إنهم من المواضيع لمفلسفون". تبقى مراقبة الصحف في عهد السلطان عبدالحميد. ونشرت "أبو دلامة" الأسبوعية نماذج من قرارات المكتوبجي في العدد 3 الصادر في 18 كانون الثاني 1927، نختم باثنين منها هذه العجالة. 1- وصل محمد أفندي سلطاني الى بيروت قادماً إليها من دمشق فلما تناول المراقب هذا الخبر استشاط غضباً وقال: لا سلطان إلا مولانا السلطان عبدالحميد. وحذف في الحال حرفَيْ ني فأصبحت الكلمة: سَلَطَا! 2- ونشرت صحيفة أخرى أن قطعة الأرض الكائنة في محلة رأس النبع بيروت هي ملك الخواجات فرعون. فضرب المراقب بقلمه على لفظة ملك قائلاً لصاحب الجريدة لا ملك في الدولة إلا مولانا السلطان عبدالحميد. واستعاض عن كلمة ملك بكلمة وزير، فاضطر الصحافي الى نشر الإعلان هكذا: إن قطعة الأرض الكائنة في محلة رأس النبع هي وزير الخواجات فرعون! * كاتب لبناني.