مع بداية العام 1998 يكون مضى عليها نحو 900 سنة لكنها ما زالت تعيش في أذهان أهالي هذه المدينة، السور الذي كان يلف معرة النعمان هُدم والحجارة التي كانت ترفع بيوتها الاسلامية آنذاك تشيد الآن خان مراد باشا والحمام، والجامع الكبير في وسطها. الناس الذين شهدوها صارت عظامهم رماداً فيما شهد آخرون الحلقات الأولى منها لأن أجسادهم مثّلت الحلقات الأخرى، أو انهم شاهدوا اجساد أطفالهم تشوى على نار مرتكبيها. انها قصة المجزرة التي ارتكبها الصليبيون في حروبهم التي بدأوها نهاية القرن الحادي عشر، بعد احتلالهم انطاكيا في طريقهم الى القدس. مع ذلك فإن فظاعة تلك "المجزرة" لم تغب البتة عن أهالي المدينة التي تضم ضريح الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز والشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري. يقول أمين سر متحف المعرة السيد كامل شحادة: "انها حروب غربية فرنجية ولم تكن مسيحية". لم تأت أخبار تلك الجريمة من المصادر الاسلامية والعربية فحسب بل ان مؤرخي الحملات الصليبية سجلوها في "تواريخهم". في بداية 1098 تقدم الصليبيون من انطاكيا باتجاه معرة النعمان الى ان حاصروها نهاية ذلك العام، واستطاع أهلها الصمود أسابيع بفضل "مهارة شبانها وذكائهم في ابتداع طرق جديدة كرشق المحاصِرين بخلايا نحل"، الى ان اقتحم الصليبيون أسوار المدينة بعد دخول الخوف قلوب أهلها ولجوئهم الى بيوت كبارها، كما يقول الكاتب اللبناني أمين المعلوف أو بمساعدة "العملاء من بعض القرى المجاورة"، كما يقول شحادة. ويقول ابن الأثير في "الكامل في التاريخ" ان الفرنجة وضعوا بعد دخولهم المدىنة فجراً في أهلها "السيف ثلاثة أيام فقتلوا ما يزيد على مئة ألف وسبوا السبي الكثير". وفيما يستبعد المعلوف صحة هذا الرقم "لأن سكان المدينة كانوا أقل من عشرة آلاف"، يتفق شحادة مع ابن الأثير "لأن أهالي القرى والبلدات المجاورة لجأوا اليها للاختباء خلف الأسوار". لكن الأفظع من القتل والسبي كان أكل لحوم البشر في حادثة لم تشهد الحروب الصليبية مثلها، والأهم ان مؤرخيهم اعترفوا بذلك اذ يقول راول دي كين: "كان جماعتنا يغلون وثنيين بالغين من أهالي المعرة ويشكّون الأولاد في سفافيد ويلتهمونهم مشويين. ويروي أسامة ابن المنقد بعد سنوات على الحادثة ان الفرنجة "بهائم فيهم فضيلة الشجاعة والقتال لا غير، كما في البهائم فضيلة القوة والحمل". ويختلف المؤرخون على الأسباب التي دفعت المحاربين الى "أكل لحوم البشر"، وكتب ستيفين رونسيمن في "تاريخ الحروب الصليبية" ان "المجاعة كانت سائدة، وكان أكل لحم البشر يبدو الحل الوحيد". وكتب مؤرخ رسمي آخر: "اجتاحت الجيش مجاعة فظيعة ألجأته الى ضرورة جائرة هي التقوت بجثث المسلمين". وتبقى هاتان الشهادتان أفضل من "تاريخ" رينيه غروسيه الذي "لم يلمح اليها المجزرة تلميحاً" كما يكتب المعلوف. وفي كل الأحوال فالأكثر صدقية ما قاله البير دكس الذي شارك بنفسه في المعارك عندما كتب: "لم تكن جماعتنا لتأنف فحسب عن أكل قتلى الأتراك والعرب، بل كانت تأكل الكلاب أيضاً". كما ان جماعات - عصابات ظهرت في أرياف المعرة باسم "الطفور" كان التعصب والحقد موجهها الى التجول ليلاً لقتل العرب وشويهم على النار لأكلهم. ومن الأسباب الأخرى التي دفعت الى ذلك، حسب قول المعلوف، الشعور "تجاه أمة عربية متفوقة جداً بثقافتها"، كما ان الأتراك لن ينسوا "ما حصل ولسوف يوصف الفرنجة في الأدب التركي من دون أدنى تحوير بأنهم أكلة لحوم البشر". يقفز السيد شحادة 76 سنة من كرسيه ويشير الى حجارة المتحف قائلاً: "انها تشهد على ما حصل. فالمتحف الذي كان خاناً والحمام والجامع بنيت من دمار المعرة قبل تسعة قرون. ويتساءل: "كيف يمكن ان ننسى أفظع مجزرة ارتكبها الفرنجة… وأصِر على كلمة فرنجة".