8 عوامل محفزة لنمو لوجستيات الأحساء    6.47 مليارات ريال إيرادات المنشآت السياحية في 90 يوما    42% من الاستثمار الأجنبي المباشر في المنطقة الشرقية    محافظ محايل يكرم العاملين والشركاء في مبادرة "أجاويد 3"    فرقنا نحو المجد الآسيوي: إنجازات غير مسبوقة.. ونهائي نحلم به    الدوري الأقوى آسيوياً    نهج كريم دأبت عليه الدولة    الاستثمار في الإعلام    هل قتل الذكاء الاصطناعي الحسّ الإعلامي؟    جيسوس: ندرك قوة الأهلي    اختتام فعاليات بطولة القصيم لجمال الخيل العربية    واشنطن: ضرب 800 هدف باليمن منذ منتصف مارس    انقطاع الكهرباء يعطل 50 مليونا في إسبانيا والبرتغال    الطائف مدينة الأدب تشارك في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب    لجنة الانضباط تجدد رفض احتجاج الوحدة    GPT-5 وGPT-6 يتفوقان على الذكاء البشري    انطلاق ملتقى "عين على المستقبل" في نسخته الثانية    شذرات من الفلكلور العالمي يعرف بالفن    مكونات صحة سكانية ترفع الأعمار    مكتبة الملك عبدالعزيز تعقد ندوة "مؤلف وقارئ بين ثنايا الكتب"    أمير المدينة المنورة يدشّن المرافق الحديثة للمتحف الدولي للسيرة النبوية    "مركز استهداف تمويل الإرهاب".. جهودٌ فعّالة ورائدة في مكافحة جريمة الإرهاب وتمويله    وزير الخارجية يجري مباحثات مع نظيره العُماني    تدشين 9 مسارات جديدة ضمن شبكة "حافلات المدينة"    الشورى يطالب توحيد الجهود وتطوير تصنيف موحد للإعاقة    القبض على مواطن بتبوك لترويجه مادة الحشيش المخدر    أمير تبوك يستقبل رئيس وأعضاء جمعية خدمة ضيوف الرحمن بالمنطقة    محافظ تيماء يرأس الجلسه الأولى من الدورة السادسة للمجلس المحلي    بلدية مركز شري تُفعّل مبادرة "امش 30" لتعزيز ثقافة المشي    أمير منطقة جازان يستقبل قائد قوة أمن المنشآت المعيّن حديثًا بالمنطقة    "التخصصي" بالمدينة المنورة يتوّج بجائزة مجلس الضمان الصحي للتميّز في برامج الترميز الطبي والفوترة    نائب أمير منطقة مكة المكرمة يشرّف غدًا حفل تخرج الدفعة ال 73 لجامعة أمّ القرى    جامعة الأمير سلطان تطلق أول برنامج بكالوريوس في "اللغة والإعلام" لتهيئة قادة المستقبل في الإعلام الرقمي    أمير الشرقية يرعى تخريج الدفعة ال 46 من جامعة الملك فيصل    استشهاد 18 فلسطينيًا    "البحر الأحمر الدولية" تكشف عن مستعمرة مرجانية عمرها 800 عام    اكسر حواجز الواقع و اصفع الفشل بالإصرار    محادثات القاهرة تتعثر.. ولا ضوء في نهاية النفق.. الاحتلال يصعد في غزة ويطارد حماس عبر «مناطق عازلة»    دمشق ل"قسد": وحدة سوريا خط أحمر    هنأت رؤساء توغو وسيراليون وجنوب أفريقيا.. القيادة تعزي الرئيس الإيراني في ضحايا الانفجار    للمرة ال 20 في تاريخه.. ليفربول يتوج بالدوري الإنجليزي بجدارة    الموارد تطلق خدمة "أجير الحج" لتمكين العمل الموسمي    تنفذها الإدارة العامة للتوجيه والإرشاد بوزارة الداخلية.. أمير الرياض: الحملة الوطنية.. "الولاء والانتماء" تعزز الأمن وتحصن الشباب    بتوجيه من ولي العهد.. إطلاق اسم "مطلب النفيسة" على أحد شوارع الرياض    كيف تحل مشاكلك الزوجيه ؟    أكدت أنه يتفق والمصلحة المطلوبة شرعًا.." كبار العلماء": لا يجوز الذهاب للحج دون أخذ تصريح    السعودية تمتلك تجارب رائدة في تعزيز ممارسات الصيد    مدير الجوازات يستعرض خطة أعمال موسم الحج    صقر في القفص الذهبي    «هيئة الشورى» تعقد اجتماعها الثامن    ملتقى «توطين وظيفة مرشد حافلة» لخدمة ضيوف الرحمن    «جمعية تجهيز» تُخصص رقماً مجانياً للتواصل    تشكيليات يرسمن أصالة الأحساء    حل 40 ألف قضية أسرية قبل وصولها للمحاكم    وفاة عميد أسرة آل أبوهليل    طلاء سحري يقتل البكتيريا والفيروسات    ارتفاع حرارة الأطفال بلا سبب    نائب أمير مكة: اقتصاد مزدهر لرفعة الوطن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فلسطين واسرائيل: قصص صغيرة لأسباب كبيرة
نشر في الحياة يوم 31 - 03 - 2000

حتى السنوات الاخيرة، ظل الخطاب العربي السائد بشأن القضية الفلسطينية يراهن على اسباب النزاع الصحيحة في جوهرها ولكن غير المجدية في مفعولها، ظاناً انه عاقد حلفاً دائماً مع الحقيقة والأخلاق. ظل خطابنا مستاءً ومطبوعاً بالنرجسية والعاطفية، حتى خرج عليه الرئيس المصري أنور السادات بزيارة القدس وتوقيع اتفاق سلام منفصل تضمن الاعتراف بدولة اسرائيل. بعد احد عشر عاماً جاء دور الفلسطينيين في تغلب نتائج الصراع على اسبابه، فصوتوا في مجلسهم الوطني على الموافقة على القرار 242 لينهوا بذلك مطالبتهم بتحرير فلسطين ... كل فلسطين. وساروا بالاتجاه نفسه ليصلوا الى اتفاق اوسلو الذي دخل من بوابته الاردن مطبّعاً علاقته مع جارته المنتصرة والمنصورة. وستتبعهم، لا شك، سورية الى النهاية ذاتها على رغم التعثر القائم في المسار التفاوضي.
بعد خمسين عاماً ونيف من الرفض والممانعة بدأت الاطراف العربية المعنية بالنزاع تفكر بمنطق الواقع وبلغة النتائج، الامر الذي اهل موقفها للإقتراب من الموقف الاوروبي الذي احتفظ لنفسه بقدر من الحيادية الغائبة من قاموس السياسة الاميركية في العقود الماضية. هذه هي صورة الموقف الاوروبي حتى اطلق رئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان عباراته الاستفزازية التي وصفت العمليات العسكرية ل"حزب الله" بأنها إرهابية، وزادت بإلقاء اللوم على سورية في تعطيل رسالة باراك "السلمية". بمخالفته للموقف الرسمي لبلاده دق جوسبان على وتر الاسباب التي تحاول السياسة الفلسطينية والعربية تناسيها الى اجل يقصر او يطول، او تحييدها في سياق سياسة الامر الواقع، وتجاهل إجماع اصحاب القرار العرب على الرضوخ للنتائج بعد مجابهة طويلة لم تكن ودية ابداً. ما كان لتلك العبارات ان تكون مجرد زلة لسان، لأنها على الارجح تعكس نظرة متحيزة في فهم الاسباب الاولى للنزاع، نظرة تتخذها ذريعة للتعليق على عدد من المسبقات المتداولة في الغرب عند تشخيص خلفيات النزاع. فالدولة الديموقراطية التي هي اسرائيل تلزم سياسياً متحضراً مثل جوسبان وسواه بالدفاع عنها حتى وإن كانت غازية لأراضي جيرانها ومتجاهلة لقرارات الامم المتحدة. ومقاومة الاحتلال هي ارهاب يعرف منطق استعلائي يشكك مسبقاً في حق العرب بمعارضة سياسة اسرائيل التوسعية، ناهيكم عن معارضة شرعية وجودها، لكونها تصدر عن دولة ديموقراطية، بينما هم يقبعون دون الديموقراطية بمراحل ودرجات. فالموالون الفرنسيون، والغربيون إجمالاً، للفكر الصهيوني، المحملون بعقدة ذنب دائمة إزاء المحرقة لا يترددون في الادعاء ان لليهود اسباباً اكبر لإنشاء دولة لهم على ارض فلسطين من اسباب اهلها الصليين في رفض قيامها. والحال إن الاسباب "اليهودية" كما جسدتها الحركة الصهيونية، التي لا تمثل بالضرورة اليهودية كدين واليهود كأفراد، تعجز عن إقناع أي مراقب محايد لمجرد أنها قدمت ترجمة سياسية مغرضة لعدد من العبارات التوراتية عن الارض الموعودة. في المقابل تبدو الاسباب الفلسطينية اكثر طبيعية وصلابة: ارض اقاموا فيها منذ مئات السنين، تاريخ متصل الحلقات ومنسجم مع تاريخ المنطقة، ومجتمع متجانس ثقافياً ونفسياً حتى لو لم يقبض له إنشاء دولته الوطنية. لقد لعبت المصالح دورها في قلب هذه المعادلة الواضحة حيث استبدلت المعطيات الوضعية بالإدعاءات الايديولوجية. غير ان الاسباب السياسية التي جعلت من الممكن لحلم طوباوي كحلم إنشاء دولة اسرائيل ان يتجسد على ارض الواقع، هي نفس الاسباب التي منحت ذلك النموذج الفريد من نوفه في العصر الحديث طابعه الاستعماري بامتياز، وهي نفسها التي تطعن بقول الصهاينة او الاسرائليين بامتلاك حق تاريخي في ارض فلسطين. في ما يمكن ان يشكل ادانة صريحة لعنف الفكرة الطوباوية، يلاحظ ماكسيم رودنسون في كتابه "العرب واسرائيل" انه حينما يتم الاستيلاء على ارض شعب كالشعب الفلسطيني فإن الجرح الاخلاقي والنفسي الذي يصيبه لا يمكن رفعه وتطبيبه "بالترعات الروحية التي تعتنقها الجماعة الغازية، ولا بدوافع الغزو ولا بالطمواحات التي تثيرها تلك الدوافع".
الفكر الصهيوني يدّعي لنفسه ايضاً حيازة الاسباب النهائية في الصراع لأن اليهود عانوا من كارثة الابادة الجماعية على ايدي النازيين، بينما لم تلحق بالفلسطينيين كارثة بنفس الحجم. وإذا كان من غير المجدي التحقق من عدد ضحايا المحرقة ما دامت انها حصلت فعلاً بشكلها البشع المعروف، فمن المؤكد ان حدث المحرقة تحول الى سلاح ايديولوجي خطير. لقد دمجت الصهيونية "امتياز" الالم اليهودي في احتكار اوسع لتذكر الماضي بوصفه حقاً مطلقاً لها دون سراها، فصار على الفلسطينيين والعرب، الذين مثلوا الند الاول للصهيونية على مدى نصف القرن الماضي، ان ينسوا تاريخهم ويقتلعوا ذاكرتهم. ف"الشعب المختار" الذي كان اول من رأى الحقيقة، محددة وفق مقاسات الفكر الاسطوري، هو افضل الحاملين لها في كل زمان ومكان. وهذه لا شك اطروحة عنصرية او قبلية ضيقة ملقحة بروحية استعمارية استعلائية، لأنها لا تكترث لثقل التاريخ ولا للمصالح الدنيوية غير المترهة لحامل تلك الحقيقة ولا لأثرها المدمر للآخرين.
الاحتكار الصهيوني لتذكّر الماضي يجد صداه في مقال اخير لتوماس فريدمان "نيويورك تايمز"، حيث يتهم سورية بأنها تكذب على الماضي لأنها تطالب بأراضيها المحتلة من قبل اسرائىل في حزيران يونيو 1967. ويقارن موقفها من الماضي بموقف حزب "الحرية" اليميني النمسوي الذي يطمس دور بلاده في المرحلة النازية، والمقارنة جائزة فقط في حالة مساواة السوريين مع الالمان والنمسويين في إبادة اليهود، وهذا هراء لكن بمقدار ما يتعلق الامر بسورية ومعهما العرب الذين يطالبون اسرائيل بأراضيهم كاللبنانيين والفلسطينيين فالرسالة المباشرة التي يريد فريدمان ابلاغها هي لتكن لكم ذاكرة سويّة، لتستعيدوا الماضي كما ينبغي، اي بتطابق مع النسخة الصهيونية له. خلاف هذا فستسقطون في تزوير الحقيقة والافتراء عليها، وسوف لا تستحقون دخول القرن الحادي والعشرين، وتكونوا من صنف الارهابيين إن لم تكونوا من صنف دعاة الحل الاخير، اي النازيين. هذه الفكرة النرجسية والابتزازية، التي تغلف عقولاً كثيرة بين نيويورك واسرائيل، تفسر الحملة الاسرائيلية القائمة على قصيدة محمود درويش "عابرون في كلام عابر". والحال، ان روح المقاومة في هذه القصيدة وسواها تسمع الصهاينة ما لا يرغبون بسماعه: لستم الوحيدين على هذه الارض. فلنا ولأرضنا ذاكرة غير ذاكرتهم، انتم تعيشون على حق التذكر فلم تفرضون على الآخرين العيش على حق النسيان؟. الا يحق للفلسطيني التمسك بهويته ضمن مجابهة غير متكافئة تهددها بالمحو والفناء؟. تحضرني في هذا الصدد سابقة ذات دلالة بالغة وردت على لسان المفكرة حنا آرنت التي قالت بعد ان غادرت المانيا هرباً من الاضطهاد النازي، "اذا ما هوجمت كيهودي فما عليك الا الرد كيهودي". وهذا تحديداً ما يفعله درويش الفلسطيني اذا ما اعتبرناه ناطقاً بلسان حال قومه.
اذا ما تصالح القوم المغلوب على امره مع فكرة خلو التاريخ من محكمة عادلة تفصل في منازعات الشعوب والامم، وسلّم بفكرة اخرى اكثر حداثية يرددها منظرو فكر ما بعد حداثة تترع الى التشكيك بكل نظرة الى التاريخ كسيق كلي جامع، فلن يبقى له سوى سرد قصصه الصغيرة. لكن انسى لهذا السرد، الذي غدا حقاً جماعياً في عالمنا المعاصر القائم على التعددية القصوى، ان يعثر على مادته خارج دائرة مظالم الهيمنة الاحادية الجانب، على التاريخ والحقيقة؟. حين قال محمود درويش الشاعر لمحتلي ارضه "انكم عابرون" فقد خالف البلاغة الديبلوماسية، اما حين وصف جوسبان السياسي المقاومة بالارهاب فقد خانته تلك البلاغة وفضحت قناعته المنحازة.
* كاتب عراقي مقيم في بلجيكا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.