يفتقر أكثر من ربع بليون نسمة أي نحو ثمن سكان العالم الى المياه الصالحة للشرب. هذا النقص المأسوي لمصدر من مصادر الحياة الأساسية، لا يمكن، بحسب رئيس "لجنة العقد العالمي للمياه" ماريو سواريز الاستهانة به أو تبريره تحت أية ذريعة، سيما أن هذه المعضلة كانت وما تزال مثار اهتمام ومناقشات مستفيضة طوال السنوات الأربع الماضية عقد المجلس العالمي للمياه مؤتمره الأول عام 1996، واستكملت في 23 آذار مارس بانعقاد المؤتمر الثاني للمياه في لاهاي هولندا تحت شعار "الحصول على المياه حق طبيعي انساني اجتماعي" في اشارة الى اعتباره من جملة الحقوق الإنسانية الأخرى الصادرة عن هيئة الأممالمتحدة. واعتبر المراقبون هذا المؤتمر الذي ضم أكثر من 100 وزير دولة وشارك في أعماله حوالى 2000 خبير مائي ومئات من مندوبي المنظمات الدولية كالأونيسكو والفاو واليونيسيف، اعتبروه أكبر تظاهرة دولية هي الأولى من نوعها في مستهل القرن الجاري. وتمحورت جهود المؤتمرين حول السبل الآيلة الى تأمين مياه الشفة، كمّاً ونوعاً، للشعوب التي تشكو من التصحر والندرة المائية، في اطار حل ثلاثي متكامل بأبعاده الاقتصادية والتكنولوجية والتسويقية وذلك أما باللجوء الى تحلية مياه البحر أو معالجة المياه الملوثة أو بإنشاء شبكات مائية ضخمة أو بالاستعانة بالأساطيل البحرية العملاقة. إلا أن المأزق الذي يخشاه الخبراء لا ينحصر بالوسائل التكنولوجية أو بأكلاف الاستثمارات الباهظة الثمن وحسب وإنما أيضاً في توفير المياه العذبة وتسويقها بسعر اقتصادي مثالي يضمن حرية المنافسة والتجارة الدوليتين وصوغ تشريعات عالمية توفق بين سعر السوق من جهة وعدالة التوزيع وحق الحصول على المياه من جهة أخرى. بتعبير آخر توخى مؤتمر لاهاي أن يوفق بين جشع الرأسمالية والحقوق الإنسانية للأفراد والشعوب علماً أن أسياد الرأسمالية لا يصغون الى توصيات المنظمات الإنسانية طالما سيكون استغلال المياه حكراً على ما يملكون من تكنولوجيا ورساميل ودعم حكومي. ولعل أسوأ ما يواجه القطاع المائي في الأعوام المقبلة أنه سيشهد مزيداً من الطلب العالمي في ظل تزايد السكان الذي سيصل في العام 2005 الى حوالى 8 بلايين نسمة، بحسب تقديرات الأممالمتحدة. ويعلق السكرتير العام للجنة العالمية للمياه على ذلك بقوله "إذا كان حق الانتخاب في القرن التاسع عشر أحد أهم أوجه الصراع فإن الحصول على المياه لجميع سكان الأرض سيكون محور النضال الأساسي في القرن الواحد والعشرين". وفي السياق ذاته تؤكد وزيرة البيئة الفرنسية ان "المياه ستصبح من أهم السلع العالمية في أسواق الغد القريب والبعيد". وهذا الإعلان هو في جوهره صدى للدعوات الآيلة الى فتح الأسواق العالمية أمام "الذهب الأزرق" الذي يمكن أن ينافس "الذهب الأسود" طالما أن الشركات الاحتكارية الكبرى تقبض على ناصية الاستخراج والاستثمار والتكرير والتوزيع والتحكم بأسعارها. من جهة أخرى يؤكد الخبراء الدوليون أن استهلاك المياه تضاعف سبع مرات في القرن العشرين في حين أن معدل السكان العالمي ارتفع الى أربعة أضعاف، وان ندرة المياه العذبة في 80 بلداً من المناطق الصحراوية الجافة من بينها، الشرق الأوسط، كانت سبباً في حرمان أكثر من ملياري نسمة من المياه الصالحة للشرب. وتنتظر الأممالمتحدة زيادة هائلة في السكان قد تصل الى حدود 45 في المئة من الآن وحتى العام 2025، أي أن ثلثي سكان العالم سيكونون في الربع الأول من القرن الجاري في "حال توتر" يصعب السيطرة عليها، الأمر الذي يستدعي تدخلاً دولياً حاسماً وقبل فوات الأوان. ولعل الوجه الأكثر سوءاً، ان القسم الأكبر من الزيادة السكانية سيتمركز في المدن نحو 90 في المئة أي ما يعادل 7،4 في المئة من سكان العالم مما يؤدي الى نشوء أزمات اجتماعية وغذائية وصحية قد تهدد السلم والأمن الأهليين. وفي هذا الصدد تشير وزيرة التعاون الهولندية ايفلين هرفكنس أثناء افتتاحها مؤتمر المياه في لاهاي الى "أن ما يزيد على بليون شخص أي حوالى سدس سكان العالم ليست لديهم امدادات صحية مضمونة من مياه الشفة، في حين أن 3 بلايين آخرين لا يستخدمون مياهاً مكررة وأن عدداً أكبر يعاني من التلوث والفيضانات والندرة والتصحر مما يؤدي الى أفدح المخاطر التي يتعرض اليها سكان المدن والأرياف على حد سواء". فالولايات المتحدة التي تملك طاقات تكنولوجية وعلمية هائلة لم تتفاد مخاطر التلوث الناجمة عن معالجة المياه المستعملة إذ يشير الخبراء الى وقوع المئات من الضحايا في عامي 93 و94 لاحتواء تلك المياه على مواد عضوية سامة. وتفادياً لمثل تلك الأخطار وتخفيفاً من وطأة السوق العرض والطلب، يقترح الخبراء سن تشريعات دولية تقضي بتقديم مساعدات مالية الى الطبقات الفقيرة على غرار المساعدات الاجتماعية طالما أن "الثروة المائية هي قبل كل شيء كنز وجزء من الميراث الإنساني المشترك" على حد تعبير فريدريك مايور، وترجمة لهذا الاقتراح تنكب لجنة من الخبراء الدوليين قوامها 20 شخصية تمثل مختلف القارات على صوغ تشريعات عالمية استناداً الى مقولة حقوق الإنسان في الحصول على حاجته من المياه العذبة، علماً أن الأممالمتحدة أصدرت عام 1997 ما يشبه "المانيفست العالمي" الداعي لجعل المياه الصالحة للشرب حقاً طبيعياً وانسانياً. ومع كل هذه الجهود والمؤتمرات، يؤكد الخبراء أن مسألة المياه ستبقى راهناً ومستقبلاً مشكلة العصر وربما تجاوزت مشكلة النفط. ذلك أن المياه العذبة لا تشكل في الميزان العالمي أكثر من 3 في المئة، أي أن هناك واحداً من كل خمسة أشخاص محروم من المياه، ويذهب بعض الخبراء في تشاؤمهم الى أبعد من ذلك إذ يتوقعون أن المياه على سطح الكرة الأرضية ستستهلك من الآن الى العام 2100 وأن المياه المتوافرة في مخزون الأرض ستنضب كلياً في العام 2230 دراسة قدمت الى المؤتمر العالمي للمياه عام 1997 تحت عنوان: التحالف في سبيل عالم مسؤول ومتعاون. وفي مجمل هذا السياق كله يبدو أن العالم العربي هو من أكثر المناطق التي تقع في دائرة الخطر المائي. فهو بحكم موقعه محكوم بمعضلتين أساسيتين احداهما طبيعية لا قدرة له على تغييرها والأخرى جيو - بوليتيكية مصادر المياه خارج حدوده الإقليمية تخضع لسيادة دول هي أقرب الى حال العداء منها الى حسن الجوار. ولئن كانت الاتفاقات الثنائية تنظم تقاسم مياه النيل بين مصر والسودان من جهة وأثيوبيا من جهة أخرى ومياه دجلة والفرات بين سورية والعراق من جانب وتركيا من جانب آخر فإن النزاعات بين هذه الدول ما تزال مصدر قلق دائم يشتد حيناً ويختفي حيناً آخر تبعاً لتضارب المواقف السياسية والمصالح الإقليمية على المستويين الدولي والإقليمي. أما اسرائيل فلم تتورع سواء في الحرب أو في السلم من سرقة مياه الليطاني والحاصباني والأردن والجولان وتحويل مجاريها في الوقت الذي يشهد لبنان وسورية والأردن وفلسطين أزمات حادة في الحصول على المياه الصالحة للشرب. وتكفي الإشارة الى المطامع الإسرائيلية التي كرستها معاهدة طابا واتفاق أوسلو 82 لإسرائيل مقابل 18 في المئة للسلطة الفلسطينية. من جهة أخرى تقيم اسرائيل وتركيا منذ بضع سنوات تحالفاً مائياً استراتيجياً، هو حلقة من مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يقضي بمد شبكات من البنى التحتية المائية بغية تزويد دول الخليج العربي بالمياه العذبة على أن تتكفل اسرائيل بتنفيذ الجوانب التكنولوجية وتركيا بتأمين الكميات اللازمة من المياه. يشار الى أن حاجة الدول الخليجية المزمنة الى المياه العذبة هي من أشد الأزمات الحياتية التي تواجهها وان اعتمادها، كما هو حاصل اليوم، على تحلية مياه البحر أو شراء المياه المعدنية لا يشكلان الحل الأمثل في ظل التزايد السكاني من جهة ومتطلبات النهضة الحديثة الشاملة التي تشهدها من جهة أخرى. ولا غرو إذا ما انبرى زعماء الخليج الى تنظيم مخزونهم المائي ودعوتهم أخيراً من خلال "أسبوع المياه" الى المحافظة على مياه الشفة والاقتصاد في استعمالها. خلاصة القول يبدو أن العالم، العربي خصوصاً، مقبل على "صدمة مائية" تتمحور في جوهرها حول ثالوث الجفاف والتلوث وتزايد السكان. هذه العناصر على مخاطرها الشديدة قد تكون إذا ما أحسن تداركها مدخلاً لسلم حقيقي وقد تكون أيضاً إذا ما أهمل شأنها مبعثاً لتداعيات وارهاصات أمنية تعم المنطقة بكاملها. على أن الملح في كل ذلك ان تبادر الدول العربية في ظل حاجتها الماسة للمياه عموماً التي قد تصل في أواسط القرن الى حوالى 60 أو 70 في المئة بحسب تقدير خبير فرنسي أن تبادر الى صوغ سياسات استراتيجية مائية كجزء من مخطط قومي تنموي شامل. * كاتب لبناني.